عشوائيات رقابية!

فصول من كتاب عبلة الرويني الجديد «لا سمع ولا طاعة» (3)

حتى كلمات أغاني محمد منير، كنت أحاسب عليها!

ملف ضخم ضم مجموع مقالاتي المنشورة في صفحة المسرح، وضعه «حسن عبد الرسول» رئيس قسم المسرح، على مكتب سعيد سنبل، رئيس التحرير. وضع خطوطا حمراء تحت مفردات عديدة داخل المقالات. خط أحمر تحت كلمة «طليعية» في وصف مسرحية (تعرض أساسا على مسرح الطليعة في العتبة). وخطوط حمراء عديدة زركش بها مقالي حول مسرحية «الملك هو الملك» تأليف سعد الله ونوس، وإخراج مراد منير. خطوط حمراء عديدة تحت كلمات أحمد فؤاد نجم لأغاني محمد منير بالمسرحية «يا مه مويل الهوى.. يا مه مويليا.. طعن الخناجر.. ولا حكم الخسيس فيا». والمسرحية من إنتاج مسرح الدولة. عرضت على مسرح «السلام» تسعة مواسم متتالية، ومثلت مصر رسميا في مهرجان دمشق المسرحي، وشريط أغاني المسرحية لمحمد منير، يباع في أسواق القاهرة وعلى الأرصفة.

بضيق أعاد سعيد سنبل الملف: لا أريد أن أرى هذا مرة أخرى. هل تعمل رئيسا لمكافحة الشيوعية داخل أخبار اليوم؟!

أبديت دهشتي لرئيس التحرير: وما علاقتي أنا بما يمكن أن يكافحه؟!

ابتسم سعيد سنبل: لا تأخذي الأمور بجدية.. المشهد بأكمله كوميديا!

***

أسوأ أشكال المنع والرقابة.. تلك التدخلات الشخصية.. المكايدات والعقليات المنغلقة.

الخِصم الواضح والرقابة الواضحة، هي الأفضل دائما.

الرقابة الكلاسيكية التقليدية المحددة، واضحة في التسلسل الهرمي للسيطرة ومحاولات الهيمنة وفرض السطوة. تابوهات (الدين، الجنس، السياسة). ثمة منطق مفهوم ومتماسك (مقبول أو غير مقبول) لا يهم.. لكنه محدد وواضح.

الرقابة التقليدية في الأغلب لا تشغلها كثيرا صفحات الأدب والفن، ليست موضع محاصرة وتضيق، طالما تحافظ على الإطار العام. (باستثناء بعض العقليات المغلقة، تمارس سطوة الرقابة الشخصية، سطوة الحذف والمنع ومتعة التحطيم).

في الثمانينات.. سنوات الانفتاح وتزاوج السلطة والثروة، بدأت حساسية الكتابة عن رجال الأعمال، أصحاب الثروات، بدا غريبا حجم المقالات الممنوعة، لمجرد الإشارة أو الاقتراب (بالنقد) من رجال الأعمال. منع مقالات حول هشام طلعت مصطفى قبل سجنه (حفاظا على حملات إعلانات مدينتي)!

وبعد خروجه من السجن (بعفو صحي) كتبت متحفظة على دعوته إلى حفل رئاسي، جالسا في الصفوف الأولى. منع المقال بدعوى (الرجل نال عقوبته.. ماذا تريدين؟)!

***

طبعا لا اقتراب من أبو هشيمة، ولا الوليد بن طلال، حتى لو ارتدى شورتا صيفيا، واستقبل وزيرة الاستثمار سحر نصر، على يخته الخاص لتوقيع اتفاقيات تعاون مشترك!! ولا مجال للاقتراب من ترك آل شيخ دائما، سنوات نشاطه واستثماره الرياضي في القاهرة، لا مجال للكتابة (سلبا) حول هيمنته على الرياضة في مصر، دعم أندية، شراء لاعبين، شراء نادي بيراميدز، رئاسة فخرية للنادي الأهلي وممارسات وتدخلات عديدة كانت موضع جدل واستياء واعتراض ورفض. أكثر من مقال تم منعه حول إتلاف الحياة الرياضية في مصر.. بدعوى (عدم إغضاب السعودية). وأضاف الرقيب هامسا (أيادي ترك بيضاء على الجميع).

وكذلك لا مجال للحديث عن ترك آل شيخ (إيجابا) ولا مواسم الرياض واحتفالات هيئة الترفية لتكريم الفنانين والفن المصري، منع مقالاتي المتتالية حول حفل تكريم الموجي، وحفل تكريم السنباطي، وحفل هاني شنودة، وتكريم بليغ حمدي، وعادل إمام ونجاة الصغيرة، لا سبب معلن لمنع المقالات، لكن المفهوم ضمنا للجميع أن حفلات موسم الرياض (تستفز الإنتاج المصري)!

في المقابل منع أي مقال يقدم أي قراءة نقدية للإنتاج المصري من الأعمال الدرامية، حتى لو كانت القراءة إشادة فنية.

منع مقالي حول مسلسل«الحشاشين» بسبب بعض الملاحظات الفنية، رغم تقدير العمل، منع المقال لأن الإشادة ليست كاملة، إشادة (إلا قليلا). منع بسبب (إلا قليلا) هذه. فإنتاج المتحدة من الأعمال الفنية، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

عبلة الرويني وسعد الله ونوس ومحمد منير وصلاح السعدني وحنا مينه في دمش أثناء عرض مسرحية «الملك هو الملك»
عبلة الرويني وسعد الله ونوس ومحمد منير ووصلاح السعدني وحنا مينه في دمش أثناء عرض مسرحية «الملك هو الملك»
***

ولأن (المصالح) هي المبدأ الرئيسي في تعدد أشكال وصور المنع والحذف، والرقابة عموما. كان الاقتراب دائما ممنوعا ونهائيا (سلبا أو إيجابا) من المملكة السعودية! ثم أضيفت الإمارات لقائمة الممنوعات العبثية المضحكة!

عندما حاكمت فرنسا مدير متحف اللوفر الفرنسي، لقيامه ببيع تمثال فرعوني (مهرب) إلى متحف (لوفر أبوظبي) رغم أن الجريمة فرنسية، والمتهم فرنسي والمحكمة فرنسية ومتحف أبو ظبي، ليس طرفا في الجريمة ولا في عملية التهريب (مجني عليه). تم نشر مقالي حول وقائع التحقيقات الفرنسية والمحاكمة الدولية، بعد حذف اسم أبو ظبي من المقال. ليتحول مضمون المقال إلى قيام مدير متحف اللوفر الفرنسي ببيع تمثال فرعوني مهرب إلى (متحف عربي)!

وطبعا تم حذف سؤالي عن ضرورة مطالبة مصر باسترداد التمثال المسروق.لأنه بالتأكيد (حلال لأبو ظبي)!

***

حماية المصالح أحد أشكال الرقابة، أو هي أقوى الأشكال الرقابية، تضاعفت واتسعت خلال السنوات الأخيرة بسبب الضعف المهني لرؤساء التحرير، والتجويد في ممارسة الطاعة والخضوع، خشية زوال النعمة، والحفاظ على مقاعدهم ومكاسبهم، بإرضاء الجميع، الأدق مداهنة الجميع!!

اتسعت أشكال المنع والحذف العشوائي. لا توجد موضوعات محددة ممنوع تناولها، لا قوائم ممنوعات لأسماء بعينها، ولا عقل ولا منطق وراء أي شيء. تخبط وعشوائية وارتباك غير مفهوم في كثير من الأحيان.

لم يكن سؤالي المتحفظ حول تكريم حسني مبارك (المعزول بثورة ونداء شعبي بالرحيل)، تكريمه بجنازة عسكرية وتنكيس الأعلام وإعلان الحداد العام لمدة ثلاثة أيام، سببا وراء منع مقالي من النشر، بدا الأمر عبثيا، غير مفهوم على مستوى الإعلام والدولة كلها.

في البداية بث خبر موت مبارك أسفل شريط الأخبار على شاشة التليفزيون، معلنا (موت السيد حسني مبارك)!! بعدها بدقائق، أعلن عن (وفاة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك) دقائق أخرى وراح الإعلامي أحمد موسى يعدد مناقب مبارك (القائد العسكري في حرب أكتوبر.. حكم مصر لمدة 30 عاما من الاستقرار.. وفي 2011 في ظروف ما تخلى عن الحكم)!! هكذا تحولت ثورة يناير إلى (ظروف ما)!!

***

مصادرة ومنع وحذوفات دون فهم ودون منطق، دون قضية ودون وجهة نظر، كل شيء قابل للحذف والمنع…

كتابة في أفق مغلق، ومرور على أكثر من رقيب، يمكن أن يمر مقالي على أكثر من شخص، ولا مانع من حذف كلمة أو سطر لا يروق لأحدهم. لا لشيء سوى إعلان وجوده. هكذا تعددت صور الرقيب وأشكاله الخائف.. الخانع.. الانتهازي.. المتسلط.

كتبت يوما عن فيلم سينمائي يتناول غرق السفينة «تيتانيك»، عن حجم الضيق والفزع الذي يصيبني عند مشاهدة أفلام الرعب والخوف. تم منع المقال (فمن تقصدين بالسفينة الغارقة.. سوى مصر؟!) وأضاف الرقيب سعيدا بذكائه (إسقاط واضح)!

***

مناخات التضيق والخوف والمصادرة، تعدد أشكال الرقابة، انحدر بالكتابة وأفسد اللغة، سنوات الإخوان أصابت لغتي بالحدة والعنف والجهامة. سنوات ما بعد الإخوان، عشوائيات المنع، دون عقل ولا منطق، أفسدت الكتابة بأكملها. لم يكن فقط احتجاجي على الحذف والمنع المتواصل، قدر الاحتجاج على غياب الشروط والأسباب، لا شيء مبرر، ولا شيء مفهوم، لا شيء سوى العبث!

أفسدت الكتابة بأكملها.. أفرغت لغتي ما في جوفها.. صارت خاوية بيضاء.. فقدت الشغف وفقدت الاهتمام والحيوية، ضمن سياسات تكسير العظام.. تكسير اللغة.. وتكسير المعاني.

فصول من كتاب «لا سمع ولا طاعة» للكاتبة والناقدة عبلة الرويني. تحكي في الكتاب الذي يصدر قريبا مشوارها في عالم الصحافة، وكواليس هذا العالم منذ السبعينيات وحتى مغادرتها-مؤخرا- جريدة الأخبار.

اقرأ أيضا:

الفئران المذعورة!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر