عرض كتاب| مهاتما غاندي.. في سبيل الحق

كتب – مارك أمجد
كتاب “في سبيل الحق” هو مذكرات مكتوبة بيد رجل الثورة الهندي الشهير المهاتما غاندي (1869-1948) والذي وُلد من أسرة ليست بعيدة عن حقل السياسة، إذ كان والده وزيرا لدى الأمير الذي يحكم المدينة، كما انتمت عائلته إلى طبقة التجار السامية (ألبانيا). ثم استكمل هو المسيرة بسفره إلى إنجلترا وحصوله على شهادة المحاماة من هناك. وبقدر ما نجد حياة ذلك الرجل تعتبر رمزا في مجال الحقوق والحريات، بقدر ما نجده يتحدث في مذكراته عن أمور عادية جدا مثله في ذلك مثل أي إنسان، وفي مواضع أخرى نفاجأ بشجاعة وعنجهية منه، لا تخرجان من مجرد مواطن طبيعي، بل شخص استحق أن يتشبث به العامة، مؤمنين بأنه قادر على الذود عنهم، والإتيان بكافة حقوقهم من الحكومات والأجانب المستعمرين.
حياته الأسرية
تزوج غاندي في سن مبكرة جدا وهو الثالثة عشر من عمره، ذلك بما يتناسب مع عادات وثقافة شعبه، ومما يذكره في كتابه أنه نظرا لصغر سنه، لم ينتبه في البداية لتلك المسؤولية التي وضعت على كاهله بزواجه من فتاة صغيرة. بل أنه كان مراهقا برأس خفيفة سهل أن ينساق خلف أصدقائه في أي اتجاه، لدرجة أنهم علموه شرب الخمر والمخدرات ونجحوا مرة في سحبه لأحد أوكار الدعارة، لولا أن الله ستره وعلمه درسا لم ينساه طوال حياته. كما شوّه رفاقه صورة امرأته في عينيه كثيرا، رغم سلوكه هو المنحرف، فضاق حاله بها فعلا وصار يمقتها، حتى اكتشف أخيرا أن تحقيره لها كان نابعا في الأصل من تحقيره لذاته. ويحكي أيضا عن موقف تشاجر فيه مع زوجته لأنه كان بصدد التبرع لجالية محتاجة بالذهب الذي اشتراه لامرأته، لكنها تصده وتخبره أنها لا تحتاج لذلك الذهب، لكن أولاده حينما يتزوجون سيحتاجونه كي يتباهوا به أمام زوجاتهم وعائلاتهم. صمم غاندي ودخل معها في شجار عنيف ووعدها بأن يوفر كل شيء لأبنائه حينما يحين الوقت المناسب، وحينما يفكرون أصلا في الزواج. وفي النهاية صار للزوج ما أراد، كونه الطرف الذكوري في الموضوع. لكن غاندي يحكي كل هذه الأسرار الحميمية السيئة في علاقته بزوجته بمنتهى السلاسة والصراحة كأنه يحكي إنجازاته وهو يرافع في المحاكم. ومن نبرته وهو يسردها نتعرف على شخص في غاية الصدق مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع الآخرين.
أما مع أولاده، فقد كان غاندي كافرا بالمدارس والجامعات والتعليم بشكل عام. في البداية كان متخوفا من إرسال أبناءه إلى المدارس التبشيرية سواء في الهند أو جنوب أفريقيا، لأنه كان يعرف أن تلك المدارس تتعمد صبغ موادها التعليمية بصبغة مسيحية، وكان يعرف أن أولاده سيتعرضون لأذى كبير هناك على أيدي القساوسة المبشرين، الذين لن يهدأ لهم بال إلا بعد تنصير العالم كله. ثم اكتشف أنه يشمئز من كافة المؤسسات التعليمية، ويراها ماكينات تفرز أشخاصا معتوهين بعقول ضحلة. وبالفعل صمم ونفذ إرادته فيما يخص تعليم أولاده ولقنهم القيم الإنسانية التي تغنيهم عن أي تعليم، ولما كبروا وقارن بينهم وبين أقرانهم لم تنتابه ذرة ندم، بل وجد المتعلمين في المدارس والكليات لا يزيدون عن أبناءه في شيء، بل على العكس، الأخيرين هم الذين يملكون شيئا إضافيا.
حياته الدينية
كان المهاتما غاندي هندوسيا، ويحكي في مذكراته عن علاقته بأصدقاء مسلمين ومسيحيين. كان يمقت المسيحيين لأنه ظل يتذكرهم طوال حياته حينما كان يراهم صغيرا وهم يتجمعون عند ناصيات الشوراع ويتهكمون على الهندوس. كما أنه رفض عقيدتهم وعاداتهم من حيث شرب الخمور بحرية وأكل اللحوم كما لو لا تملك روحا مثلنا، بل استنكر على المسيحية كونها ترى البشر هم فقط الذين يملكون أرواحا، أما الحيوانات فهي مجرد تراب يمشي على الأرض قبل حتى موتهم. كما أنه تعجب من قصة السيد المسيح حسب رواية المسيحيين ورفض فكرة خلاص البشرية جميعها بموت إنسان واحد. وإن كان قرأ الإنجيل وأعجب بموعظ الجبل، بل وجدها تقترب كثيرا من تعاليم الهندوسية.
لكن كل هذه الأمور لم تمنع غاندي من أن يكوّن علاقات طيبة مع أشخاص مسيحيين كان من بينهم في بعض الأوقات قساوسة، بل يحكي أنه ظل لفترة طويلة على علاقة قوية بقسيس من المبشرين، وكان لا يمل من وعظ غاندي وإرسال جوابات له يخبره فيها أنه لن يخلص إلا إذا آمن بأن يسوع هو ابن الله. ومع ذلك احتفظ غاندي بهذه الصداقة دون تخلي عن أفكاره أو تفريط في علاقته بأحد.
كذلك ألح عليه أصدقاؤه المسلمون كي يعتنق الإسلام وجلبوا له القرآن وقرأه بالفعل وأعجب به وبلغته وشاعريته، لكنه مع ذلك ظل على معتقدات آباءه. وتذكر بعض المصادر أن اغتيال غاندي أصلا على يد هندوسي متطرف، كان السبب وراءه هو محاولته وضع مفاهيم جديدة أو قراءات غير مألوفة للعقيدة الهندوسية.
سفره إلى إنجلترا
سافر غاندي وهو شاب صغير إلى إنجلترا للحصول على شهادة المحاماة من كلية هناك، وطبعا سانده في رحلته العلاقات التي تملكها أسرته مع أبناء الجالية الهندية في إنجلترا. ورغم تيسر أمور كثيرة في مشوار دراسته، إلا أن عقيدته وعلاقته بأمه المتدينة، عرقلتاه كثيرا وجعلتاه يعيد التفكير طوال الوقت في أيديولوجيته المتزمتة. لأن طائفته لم تكن تأكل اللحوم، وبالتالي بمجرد أن انتشر خبر سفره المرتقب لبلاد الإنجليز، توقع الجميع أن يفقد الولد هدى طريقه هناك فيقلد الأجانب ويسكر مثلهم ويأكل لحم البقر، الأمر الذي تسبب في انقسام الأقرباء إلى فريقين، ووضع أمه المُحِبة له في موقف محرج. لكن غاندي رغم صغر سنه في ذلك الوقت دافع عن نفسه مثل محامي متمرس، وأخبرهم بعجرفة أنه اتخذ قراره بالفعل، وأنه لا يوجد شيء على هذه الأرض قد يثنيه عن بلوغ المحطات الأولى في طريق مستقبله الطويل. أما أمه فوعدها ألا يقرب اللحم أو الخمر طوال سفره وفترة دراسته هناك، واكتفت هي منه بذلك الوعد.
وسريعا ما يتعرض الشاب لأول الاختبارات وهو لا زال على متن المركب التي تنقله لبلاد الغربة، فيعرض عليه كثيرون أن يشرب ويأكل معهم، لكنه يمتنع دوما. وفي حوار له مع بروفيسور إنجليزي قابله على ظهر السفينة، يخبره الآخر بضرورة أكل اللحم هناك لأنه لن يتحمل برودة الجو، ولما يبدأ غاندي الرد بغلظة يخبره البروفيسور أن الأمر لا يستدعي كل ذلك الغضب، وأنه لا يهدف أبدا إلى أن يقلده غاندي، وإلا عرض عليه أيضا شرب الخمر كي يتشابه معه تماما، لكن كل ما في الأمر أن البيئة هناك قاسية وتستلزم من الفرد أن يحصن نفسه بأكل اللحوم. فيتدبر غاندي الكلام، لكنه يظل على عقيدته.
حياة السجون
كانت حياة غاندي حافلة بالأيام التي قضاها داخل الزنازين، حتى أنه في مرة قُبض عليه ثلاثة مرات في غضون أربعة أيام فقط. وكانت التهمة الموجهة له دائما أنه يهيج الجماهير، لكنها مثلما كانت تهمته، كانت في أوقات كثيرة مفتاح خروجه من الزنازنة، إذ كان يُفرج عنه دوما تحت ضغط الحشود، وتهييج الرأي العام والصحف التابعة لمناصريه.
وبخصوص الصحافة، أدرك غاندي مبكرا قوتها كسلطة رابعة في تحريك الشعوب، حتى أنه ساند عددا من الصحف بأمواله الخاصة رغم أنه لا يملك الكثير. وكان ضد تخصيص الجرائد لأعمدة كاملة من أجل المواد الإعلانية، لأنها تؤدي إلى ارتماء تلك المؤسسات الصحفية في أحضان بعض الجهات ذات الأيادي المتسخة، الأمر الذي يحطم تماما استقلال الجريدة في تقديم آراءها.
عاش غاندي نصف حياته في الهند والنصف الآخر في جنوب أفريقيا، وأينما حل كان يدافع عن الملونين، ويتظاهر ضد القوانين التي تصدرها الحكومات والأجانب، فتقلل من شأن الآخر وتحقر مِن كل مَن هو مثل غاندي. وأكثر من مرة يحكي عن تورطه في مشكلات مع شرطة القطارات لأنه كان يحجز دوما تذاكر من الدرجة الأولى، لكن ما أن يرى المفتشون ملابسه ولونه وجلسته في مقاعد الدرجة الأولى وسط البيض، إلا ويطلبون له الشرطة كي تطرده بالقوة.
وإن كان هناك ما اُخذ على غاندي فهو استبعاده تماما للعنف الثوري، حتى لو بدأت الجهات السلطوية بالعنف، كان خطابه هو لرعاياه يحث على الاستسلام وأخذ الحق بالسلام. وربما أقصى ما تطور إليه في حركات تمرده، كان تحريضه على العصيان المدني الذي أتى بثماره في بعض الأوقات. وفي أوقات أخرى ذهب أدراج الرياح.
أقوال هامة له سردها بمذكراته
لكي نستطيع أن نشاهد روح الحق التي تسود الكون يجب أن نتعلم كيف نحب أدنى المخلوقات وأقلها شأنا.
طريق الطهارة طريق شاق شديد الانحدار.
الطريق الوحيد للوصول إلى الحق هو طريق المحبة.
من يقولون أن الدين لا شأن له بالسياسة، لا يعرفون شيئا عن الدين.
الكتاب صادر عن دار خطاب للنشر والتوزيع بالمملكة الأردنية الهاشمية في طبعة أولى عام 2017 في 283 صفحة من القطع الكبير.