عرض كتاب| رسائل إلى ميلينا.. فرانتس كافكا
كتب – مارك أمجد
في الأيام الأخيرة انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي أقوال رومانسية مأثورة يتداولها رواد هذه المواقع تحت اسم “رسائل كافكا إلى ميلينا”، ربما دون أن تعرف شريحة كبيرة منهم القصة الحقيقية وراء كافكا وميلينا. ونظرا للاهتمام الذي طرأ فجأة على الساحة الثقافية في مصر تجاه تلك العلاقة الغرامية التي تعود للنصف الأول من القرن الحالي، سنعرض في هذا الموضوع الكتاب الذي يحوي جميع تلك الرسائل المقصودة، والتي تم الاقتطاف منها بشكل أوشك على تهميشها هي نفسها، كسياق عام متصل ببعضه، له خلفياته التي تخص المُحب المُرسِل “كافكا” وحبيبته المذكورة في كل خطاباته باسمها “ميلينا”.
فرانتس كافكا
هو أديب تشيكي (1883-1924) وُلد في العاصمة “براغ” حين كانت ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية، كتب أعماله باللغة الألمانية، وتحولت لأيقونات في تاريخ الأدب الألماني، منها مثلا: المسخ، المحاكمة، في مستعمرة العقاب، أمريكا. واشتهر في كل مؤلفاته بالتشاؤم والكابوسية الشديدة التي جعلت منه مدرسة أطلقوا عليها “الكافكاوية” متأثرا في نظرته للأمور بأدب دوستويفسكي والتراث الصيني من الحكايات وحبكاتها… كان مولعا بالكتابة لدرجة أنه كان ينهي بعض قصصة الملحمية في ليلة واحدة أو ثلاث ليالي على الأكثر، وبقدر ما أحب الفن بقدر ما كره عمله كموظف بيروقراطي في مؤسسة تحركه تحت أيديها مثل ترس، وانسحب تشاؤمه على حياته الشخصية والصحية إذ كان دائم الشعور بأن لن يعيش طويلا بسبب إصابته بمرض سل الرئة، وبالفعل سيتوفى كافكا عن عمر 41 عاما، دون أن يحرز أي إنجازا في حياته المهنية أو الأسرية، لكنه سيترك وراءه مادة دسمة تؤهله أن يأتي في مصاف أشهر الأدباء العالميين الذين وضعوا بصمتهم ومدرستهم الخاصة بهم في الكتابة، ليسير على نهجهم من بعدهم الأجيال اللاحقة.
وبما أن حياة كافكا لم تخل من الغرائب، فنهايته أيضا وقراره الأخير الذي ختم به حياته، كانا أكثر عجبا. إذ طلب تعهدا من صديقه الكاتب “ماكس برود” بأن يحرق كافة أعمال كافكا كي لا تظهر للنور أبدا، لكن ماكس خالف العهد وأطلق الكتابات التي أضاءت للبشرية نقاطا كثيرة في فهمها لعقد الإنسان ومتاهاته، وإن كان “ماكس برود” خان الميثاق مع أعز أصدقائه، إلا أنه أسدى للعالم خدمة لن ينساها له أبدا، إذ أبى أن يحرم القراء من متعة اكتشاف مسخ جميل يدعى كافكا.
ميلينا
هي فتاة تشيكية عملت بالصحافة في فيينا فكتبت عددا من المقالات والقصص وحررت أبواب الموضة ببعض الجرائد، لكن أهم ما قامت به ومنحها شهرة أكثر، كان ترجمتها لأعمال كافكا من الألمانية إلى التشيكية. وجدير بالذكر أن ميلينا لم تكن حبيبة كافكا الوحيدة، إذ كان دائم الوقوع في غرام فتيات ربما من مجرد رؤيتهم لمرة واحدة وأخيرة، ووصل به الحال للإعجاب بنساء يراهم مثلا أثناء تلقيه العلاج في إحدى المصحات، بينما هو على علاقة بالفعل بواحدة أخرى تعيش في مدينة بعيدة عنه. لذلك كان يحدث كثيرا في حياة كافكا أن يتعلق بامرأتين في وقت واحد. أما ميلينا فكانت مشكلتها الكبرى أنها سيدة متزوجة في الأساس. الأمر الذي حال بينهما وبين فرص حدوث لقاءات تجمعهما بالمعنى الملموس، فاقتصرت علاقتهما على تلك الخطابات، وقليل جدا من المقابلات في محطات القطار أو خلال إحدى الفعاليات الثقافية التي تجمع أبناء الوسط.
الرسائل
جميع الرسائل التي في الكتاب مرسلة من كافكا إلى ميلينا، وتغيب تماما أي ردود منها إليه، لكن نظرا إلى أن الرسائل تمت أرشفتها وفقا لتواريخها من قبل محرري الكتاب، يمكننا أن نستشف ردود ميلينا من رسالته التالية لها. ويتنقل كافكا طوال مراسلته لها بين نقاط عديدة فيحكي عن مرضه الذي جعله يبصق الدم بصورة تحولت لعادة جعلته يتمنى معها الموت والراحة. وعن مشاريعه الأدبية سواء التي أنجزها بالفعل أو ما زال يعمل عليها، وآراء الكُتّاب الذي يعرفهم فيها. بل إنه يخبرها عدة مرات بكراهيته هو نفسه أحيانا لما يكتبه، وأن الكتابة تسبب له صداعا يكاد أن يفجر صدغيه. وعن رأيه فيما تكتبه من مقالات متماسكة حتى وإن أتت أحيانا ببعض الفجوات، وكيف يرى نفسه معجبا بتشيخوف ودوستويفسكي. ويحكي لها أيضا عن علاقته بصديقه “ماكس برود” وكيف يتبادلان سويا مخطوطات كتبهما التي لم تنشر بعد، وكيف يواجهان بعضهما بعض بالآراء بمنتهى الصراحة، وفي هذا الصدد كانت لكافكا نظرية تستحق الطرح، إذ كان يرى أن الكتب تبدأ حياتها الخاصة فعلا بموت مؤلفيها، فالكُتّاب طالما كانوا على قيد الحياة لا ييأسوا من خوض معارك كثيرة، هدفها الأوحد أن يخلّدوا كتبهم، بيد أن المعركة الحقيقية تبدأ باختفاء هؤلاء البشر من الساحة وترك الكتب وحدها كي تواجه مصيرها المحتوم، ووفقا لقوتها يُكتب لها الخلود، أو الانمحاء بشكل تدريجي.
الغريب أيضا أن كافكا في خطاباته لا يتحرج من الحديث عن زوجها، الذي حكت له بدورها عنه وعن مشاكلهما، وفي بعض الأحيان يلتمس العذر لذلك الزوج الضعيف وفي أحيان أخرى يتقزز من ولاءه لزوجته التي تراسل حبيبا من خلف ظهره، ثم يعود ويؤكد أنه لو أحبها العالم كله فلن تجد شخصا يحبها مثل كافكا. وفي سبيل هذا يتسلح بكل التشبيهات الممكنة كي يقنعها بأنه لا مناص لها من هيامه بها. فيصل به الأمر أن يشبه نفسه بالبحر وهي الحصى المطمور في قاعه.
لقد انقضى وقت طويل منذ أن كتبت لك، يا سيدتي ميلينا، واليوم حتى أكتب فقط كنتيجة لحادث، فعلا، ليس لي أن أعتذر عن عدم كتابتي لك، فأنت تعرفين فوق كل شيء، إلى أي حد أكره الرسائل. كل سوء الحظ في حياتي كلها -لا أرغب في التشكي، بل أود أن أقدم ملاحظة إرشادية عامة- كل سوء الحظ هذا إنما يستمد وجوده كما يتسع المرء أن يقول، من الرسائل، أو من إمكانية كتابة الرسائل. إن الناس لم يكادوا قط أن يخدعوني، لكن الرسائل قد فعلت ذلك دائما، وفي الحقيقة ليست فقط رسائل الآخرين، بل فعلته رسائلي أنا نفسي.
الكتاب يصنف تحت بند أدب الرسائل، صادر عن دار آفاق للنشر والتوزيع طبعة أولى عام 2017 من ترجمة الدسوقي فهمي في 350 صفحة من القطع المتوسط بغلاف لميع يحمل لوحة من رسم المترجم.
تعليق واحد