عرض كتاب “اللوح الأزرق” لجيلبرت سينويه
كتب – مارك أمجد
“جيلبرت سينويه” بالأساس هو مستشرق فرنسي وُلد في مصر، أتت معظم كتاباته تاريخية من وحي الشرق، فوضع مؤلفات في غاية الأهمية متخمة بالتفاصيل مثل، الفرعون الأخير محمد علي، أخناتون الإله اللعين، البكباشي والملك الطفل، وحتى لما كتب روايات، أتت مُحمّلة بهمومه التاريخية مثل، أيام وليال، أنا يسوع، المصرية، ابنة النيل، لدرجة أن البعض ذهب في انتقاده له إلى أنها أعمال لا تمت للأدب الروائي في شيء، وإنما هي تسجيلات تاريخية حاول الكاتب أن يصبغها بصبغة الأدب ليضمن ألا يمل القارئ ويترك الكتاب، نظرا لما عُرف عن المؤلفات التوثيقية من نبرة جافة، لذلك نجد حتى كتبه التاريخية أصر أن يسردها بطريقة لا تختلف كثيرا عن رواية الحكايات البسيطة، مهما كانت بلاغة الحدث الذي ينتقيه.
اللوح الأزرق
تدور رواية “اللوح الأزرق” حول لوح تُركت عليه علامات دينية تعود لرموز وأسماء الله في التوراة مثل يهوه وآدوناي، يخلّف وراءه اللوح قبل قتله يهودي متدين يدعى ابن برول، تاركا إشارات وأدلة لأناس قريبين منه كي يعينهم على العثور على ذلك اللوح المقدس، الذي ستنكشف مع ظهوره حقائق كثيرة للبشرية المُنهَكة في تلك الحقبة بين حروب دينية وعقائدية مريرة، فزمن أحداث الرواية هو القرون الوسطى ومرحلة الظلمة في أوروبا، حيث انعقدت محاكم التفتيش وأوشكت الأندلس على السقوط، والمسيحية الكاثوليكية انتهجت سياسة القتل والتعذيب والقتل في سبيل التبشير بالمسيح.
وفي طليطلة، يعيش ثلاث طوائف غير منسجمين مع بعض تماما، وهم المسيحيون الكاثوليك والعرب المسلمون واليهود، الكاثوليك يهدمون أي كنيس ويسعون لتنصير كل اليهود، ويطاردون اليهود الذين تنصروا ثم ارتدوا، أو ظهر زيف نواياهم، أو مارسوا طقوسا يهودية بالعند داخل الكنيسة بعد أن كانوا يمارسونها في الكنيس، والعجيب أن المسيحيين أنفسهم بينهم وبين بعض لا تتوقف صراعاتهم الداخلية، فيكفرون ويهرطقون بعضهم بسهولة، ويختلفون حول نظريات بطليموس وكوبرنيكوس بخصوص مركزية الأرض أو الشمس، ومدى فاعلية أو صحة محاكم التفتيش، وإن كان هناك فارق بين حماية الكنيسة من أي خصم على غير ديانتها، ومن دفعه وإجباره على اعتناق مذهب غير مذهبه رغم أنه يتعبد في حاله، و من ضمن الطرق المتبعة في السجون وقتها كان هناك ما يُعرف بالحلم الإيطالي وتقتضي الطريقة أن يوضع المتهم داخل تابوت مدقوقة فيه مسامير من كل جانب، وبالتالي تستحيل حركته داخل التابوت دون أن تحدث تلك المسامير في جسده جراحا مؤلمة، زد على ذلك حرق الأعضاء التناسلية والإغراق في براميل المياه وتعليق المساجين بالمقلوب.
أما اليهود، فهم يعتبرون المسيحية جذعا شيطانيا نبت في أرضهم، أو قل ثمرة غير صالحة خرجت من شجرة تعاليم موسى، وتحت وطأة الدولة الكاثوليكية الغاشمة يضطر معظمهم لترك ديانة آبائهم وأجدادهم واللجوء للتنصّر، ولو بشكل خادع دون إيمان حقيقي بتلك الديانة كي يحموا أنفسهم، ولا يقوّيهم على الاحتمال والصبر سوى انتظار المسيا المخلص، الذي يعلمون أنه سيأتي في أي ساعة ويخلصهم من نار الكنيسة المتعصبة ضدهم.
أما العرب المسلمون، فهم يشعرون بأن مجد الأندلس في طريقه للزوال، وأن إسبانيا المسيحية بدأت تشتد شوكتها، وأن كل الأراضي التي فُتحت قديما سيتم استردادها على يد فرديناند وإيزابيلا، وأن انقساماتهم الداخلية من أجل أمور دنيوية تافهة، هي التي أفضت بهم لتلك النهاية المخزية لحضارة عظيمة بلغ صيتها وثقافتها في كافة أرجاء الأرض.
وفي تلك البيئة الكوزموبوليتانية المشحونة يرسم جيلبرت سينويه أجواء روايته، ومما يزيد الأمور تعقيدا أن البطل الأساسي المضمر من بداية الأحداث لنهايتها؛ ابن برول اليهودي، يترك الأدلة الخاصة بمكان اللوح الأزرق الخفي لثلاثة من أصدقائه، عزرا اليهودي وابن سراج العربي المسلم والراهب الفرنسيسكاني فارغاس، وفي البداية يتقبل الثلاثة بعضهم بصعوبة شديدة حتى يخلصوا إلى أنهم لن يعثروا على اللوح إلا إذا اتحدوا وزودوا أنفسهم بكل ما يملكه الواحد منهم من معلومات خاصة بديانته ونشأته، وطوال رحلة البحث تقوم بينهم سجالات ومقارنات بين الأديان وطقوسها ومحرماتها، يضيء المؤلف من خلالها أمورا كثيرة من وجهة نظره، كما يتبين لنا أن الناس في تلك البيئة ووسط هذا التنافر المذهبي، كانوا يعرفون عن أديان بعضهم ربما أكثر مما يعرفون عن دياناتهم الخاصة، فيستشهد سينويه باقتباس من كتاب “موسى والتوحيد” لسيجموند فرويد، ما يعني أن قليلا من الاختلاف قد يزرع التطرف أما المزيد منه فيمحيه تماما.
ويعلم ديوان التفتيش الخاضع للكنيسة الكاثوليكية بمغامرة الرجال الثلاثة، فيرسل في إثرهم امرأة من البلاط الملكي كي توقع بهم وتتعرف على سر تجمعهم، وأي كارثة يخططون لها في ذلك الوقت العصيب التي تمر به البلاد.
عن الكتاب
الكتاب صادر باللغة العربية، من ترجمة آدم فتحي عن منشورات الجمل، طبعة أولى 2008 في 570 صفحة من القطع المتوسط.
جيلبرت سينويه
روائي فرنسي ولد بالقاهرة 1947 درس بمصر، ثم أكمل دراساته الموسيقية بباريس حيث حصل على شهادة الأستاذية في آلة القيثارة.
آدم فتحي
شاعر تونسي ولد عام 1957 له إسهامات في المقالة الصحفية والدراسة النقدية والقصة، وأشرف على عدة صفحات ثقافية، له العديد من المؤلفات الشعرية والمترجمات.