عرض رواية البشموري لسلوى بكر
كتب- مارك أمجد
البشموري – من المهم جدا أن نولي اهتماما للكاتبات اللواتي استطعن الخروج في نصوصهن من حيز الاهتمامات النسائية المنغلقة على ذاتها، وغير المكترثة بما يدور حولها من نزاعات وحروب سواء في وقت معاصر أو في حقبة سابقة من التاريخ، فتمكنت من سبر أغوار الفرق والملل الأخرى وعبّرت عن آلامها ومشاكلها بأقصى درجة من الصدق والاخلاص للإنسانية، قبل الانتصار لأي مذهب أو حزب أو توجه عرقي أو جندري.
وتعتبر الروائية المصرية سلوى بكر خير مثال على هذه الحالة من التعايش مع الآخرين، إذ تقدم في روايتها التاريخية “البشموري” نموذجا رائعا لاختراق الكاتب للمناطق البعيدة، التي قد تكون في بعض الأحيان ملغومة.
تدور رواية البشموري في مصر بعد دخول الإسلام، إذ فرض خليفة المسلمين في بغداد وقتها أرقاما عالية من الخراج على الأراضي الزراعية، ولم يكن في يد والي مصر سوى أن ينصاع لتلك الأوامر ويطلق جنوده في الأرض ليحصدوا المال ويزجروا الضعفاء وغير المقتدرين، فتدهورت أحوال البلاد وعم الفساد والسرقة والجوع، وتحول الناس في جوعهم لوحوش يأكلون ما يطولونه حتى أجسام الصغار.
وعندما رأي مينا بن بقيرة كل هذا يحدث حوله في بلده، تخلى عن منصبه وأمواله وممتكلاته محققا القول المسيحي: “اذهب وبع كل ما لك وتعال اتبعني” وكرّس حياته لخدمة شعبه والخروج بهم من هذا المستنقع لبر الأمان.
لكن ابن بقيرة يدرك من البداية أن الفساد استفحل لدرجة لم يعد معها التفاهم قادرا على حل المشكلات، فيتحصن ببلدته ويحشد جيشا من الرعاع ويجلب الأسلحة من بؤرها ويتخذ من الثورة سبيلا لتحقيق راحة الشعب، وتُعرف بثورة البشموريين، ولا تقتصر على المسيحيين فقط بل ينضم إليها كثيرون من العرب والمسلمين اعتقادا في أنها ثورة شعبية ضد الغلاء وليست ثورة مذهبية تترأسها الكنيسة.
ورغم أن منْ أطلق شعلة الثورة مسيحي وأغلب من أيدوه من الأقباط، إلا أن الرواية تكشف جانبا مغايرا للكنيسة إذ تحاول قيادتها التوسط بين مينا بن بقيرة والوالي المسلم قبل أن يرسل الخليفة من بغداد جيوشه ويبطش بمينا وكل من حوله من نساء وأطفال وقرى وأديرة لم تختار الحرب من الأساس.
وتبذل الكنيسة كل مساعيها في هذا الطريق حتى لا تقع الحرب الموشكة على الحدوث ويروح فيها ضحايا أبرياء، فترسل رسلا من عندها لمعسكرات مينا لمقابلته وإقناعه بسحب جيوشه من أمام جيوش الوالي التي لم تعد قادرة عليه بسبب قوة أسلحته التي يستوردها من أماكن وشعوب معينة.
لا تنتصر الرواية لفريق أمام آخر، فهي تكتفي بتوصيف الأجواء المشحونة في تلك الحقبة بين الأقباط والوالي المسلم، وصراع الكنائس الشرقية مع الكنائس الغربية وانقسام الأقباط أنفسهم أمام ثورة البشموريين إن كانت حقا مشروعا أم تمردا، وخبث الوالي في مصر أمام الخليفة في بغداد، وبين تعاليم القرآن العادلة وبعض تصرفات المسلمين التي لم ينادي بها الرسول، وتعايش المسلمين والمسيحيين داخل مصر كشعب واحد لا يفرقه شيء. نجحت سلوى بكر في التنقل بين هذه المناطق دون أن تنزلق في الانحياز لأي ملة، والتزمت بشريعة الأدباء من حيث الإخلاص فقط للمعاناة الإنسانية والتعبير عن نقاط تماسها مع الأديان السماوية.
أيضا يعكس النص ثقافة خاصة بالمؤلفة لا يستهان بها في تاريخ الكتابات التوراتية والإنجيلية وتعاليم الآباء الأوائل للكنيسة وقضايا اختلافهم وافتراق مذاهبهم. كذلك استخدمها للآيات والأقوال أتى بنسبة كبيرة في ثنايا النص في محله، فأثبتت بكر أن المسيحية يمكن أن يكتب عنها غير المسيحي. وأثبتت أن المرأة يمكن أن تكتب عن الرجال. وأن نكتب الآن عما فات من تاريخ الفتن والانقلابات.
سلوى بكر، روائية مصرية من مواليد 1949 في حي المطرية بالقاهرة، حصلت على بكالوريوس إدارة الأعمال من كلية التجارة جامعة عين شمس 1972 وانخرطت خلال دراستها في الحركة الطلابية، واعتقلت عام 1989 أثناء إضراب عمال الحديد والصلب وقضت عقوبتها في سجن القناطر، وكانت فترة السجن لها أثرها الفعال في خيالها ككاتبة فألفت رواية “العربة الذهبية لا تصعد إلى السما” وتدور عن عالم السجينات ووضع المرأة في مجتمعاتنا.
رواية البشموري صادرة عن روايات الهلال 1998 في 370 صفحة من القطع الكبير.
تعليق واحد