عرض رواية “أرض السودان” لأمير تاج السر
كتب – مارك أمجد
يُقال دوما أنه من الجنوب تتفجر طاقات إبداعية بإمكانها أن تستوعب بقية جهات الأرض، وبالنسبة لأفريقيا، فليس خفيا على أحد مدى ثقافة الشعب السوداني وزخم اطلاعهم على الكتب بكافة أنواعها، ففي أوساط المكتبات هناك مثل دارج يقول: يخرج الكاتب من مصر وتُنشر له كتبه في لبنان ويقرأه الناس في السودان، ولدينا على ذلك مثال قوي هو الطيب صالح وأعماله التي تركت بصمة من الصعب زوالها مهما مر الزمن، وتأتي كتابة الأديب السوداني أمير تاج السر، ليست محاكية للطيب صالح، ولكنها في الوقت ذاته لا تتخلص من نفس الهموم، التي من الواضح أنها تثقّل كل مبدع يخرج من تلك الأرض السمراء.
وتدور رواية أرض السودان، حول رحلة طويلة يقطعها شاب إنجليزي في ثمانينيات القرن التاسع عشر من لندن مرورا بميناء الإسكندرية حتى يستقر به الحال أخيرا في السودان، ومن الفصول التمهيدية يتضح لنا أن ذلك الشاب الإنجليزي لديه هوس من البدايات بالشرق وبأفريقيا وبعادات الشعوب هناك، لذلك يتردد بشكل منتظم على مكتبة كبيرة في مدينته ويستعير كتبا تتعلق بموضوع اهتمامه، ويُخيّل لسكرتيرة المكتبة أنه شخص مثقف أو يؤلف كتابا حول الشرق فتقع في غرامه، لكنه يحرص ألا ينمّي أي آمال لديها بالزواج، لأنها حولاء ولأنه لا يميل للاستقرار.
وينطلق البطل في مغامرته ويتعرف على ظهر السفن التي يركبها على صنوف مختلفة من الناس، فمنهم البحار المثلي الذي يحاول اقتياده لقمرته، ومنهم المُبشر الذي يسعى لنشر المسيحية في بقاع العالم، كما يتعرف على لصوص وإقطاعيين وثوريين، لكنه يظل دوما على مسافة من كل هؤلاء، فلا يتورط في مشاكل أو جدالات بقدر ما يسمع منهم عن حيواتهم المتخمة بتفاصيل يحتاجها لتسجيلها حول رحلته الاستكشافية.
وفي السودان يقابل المستكشف الإنجليزي عالما غريبا عليه، فيجد أنه برغم بطريركية المجتمع، إلا أنه هناك نماذج من النساء تتميز بقدر من الصلابة لا ينعم بها الرجال، ويتضح له أن ذلك الصمود ما هو إلا ردة فعل على جور البيئة الذكورية من حولهن، في شخصية “مستكة” يتعرف المغامر على المرأة السودانية بحق التي نراها اليوم في صور متداولة على الفيسبوك من الثورة السودانية، تحوم الأساطير حول مستكة التي تزوجت أكثر من مرة، ولم يعش لها زوج ولا مرة، معظم الرجال يتوددون إليها ويتمنون الزواج منها، لكنها أبية راسخة بحكم ما فعلته فيها السنون.
ويتعرف على الإسلام من خلال السودان، فيتردد على المساجد ويعرف الفرق بين مواقيت الصلوات، ولماذا يوم الجمعة بالذات يحتشد الناس في المسجد الكبير وليس الصغير على غرار بقية أيام الأسبوع، يتعلم رغما عنه كلمات كثيرة من العربية وتجذبه شاعرية وعذوبة لغة القرآن.
ويجد البلد ممتلئا بأجناس من الشعوب يعملون بأي شيء غير وظيفتهم الحقيقية، ويجد عاملا ألمانيا سابقا في ورشة حدادة في ميونيخ يعمل تاجر أراضي، وقسا كاثوليكيا مطرودا من كنيسته يرتدي العمامة ويصلي الجمعة في المسجد.
ولأول مرة يرى المسافر الإنجليزي صورة “الأجنبي المتغطرس” في عيون وأذهان أصحاب الأرض، ويبدأ في التماهي مع بشر ظنهم بني جنسه في مرحلة أحط من الحيوان، فاستعمروهم وقتلوهم وسلبوا خيرات وثروات أراضيهم، وبشكل تدريجي يكتسب أسماء عربية جديدة تحوّر كثيرا من هويته وطريقة تفكيره ونظرته للأمور، كالاستعمار والحرية، ففي أحد الفصول مثلا نجده يتوقف أمام حائط في الشارع كُتب عليه بالطباشير “تسقط فكتوريا الملكة”، “لا للسوط والقبعة والنجاسة”.
من أجواء الرواية نقرأ
أخيرا وصلت قلقا ومتلهفا، ومدهونا بشبق المغامرة اللعين، الذي ازداد ضراوة طوال الرحلة، لن أحكي كثيرا عن تلك الأيام الطويلة التي قضيتها في باخرة أبحرت بها من ميناء ليفربول.
وبدأ الأمر مفاجأة كبرى لي، أنا جيلبرت أوسمان، أو عثمان الإنجليزي، كما كان يسميني “سيف القبيلة”، تاجر الإبل غريب الأطوار الذي صادقته زمانا، و”عبدالرجال زافو” أحد رقيق السودان المدهشين والذي تعلمت منه الكثير، وكفاءته في النهاية بأن اشتريته من صاحبه ومنحته الحرية، وكثيرون غيرهما من الذين صادف وعرفتهم وعشت بينهم أياما طويلة، ثم ليصبح ذلك الاسم رسميا ومعتمدا لديّ، وأضيف له اسم عربي آخر بعد أن تغيرت معالم حياتي، بطريقة لم تخطر على بالي أبدا.
أمير تاج السر
روائي سوداني، وُلد بشمال السودان 1960، تخرج في كلية الطب جامعة طنطا، وصلت رواياته للقائمة القصيرة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية أكثر من مرة، وحصل على جائزة كتارا والعديد من الجوائز العربية الكبرى، كما تُرجمت أعماله لعدة لُغات.
عن أرض السودان
الرواية صادرة عن دار منشورات الربيع طبعة أولى 2018 في “346” صفحة من القطع المتوسط الطولي، بغلاف من تصميم أسامة علام.
2 تعليقات