ملف| «عدوية».. صوت القاهرة في زمن التحولات

في السبعينيات، مرت القاهرة ومصر كلها بحالة تحول عميقة. أجواء مقبضة بعد رحيل الزعيم وانهيار المشروع. أجواء الهزيمة حاضرة في كل تفصيلة. مشاعر الانقباض من القادم مسيطرة. بحث الناس عن صوت مبهج ونغم مختلف يخرج بهم من الكآبة إلى أجواء الفرحة والانبساط. عزز هذا الخيار انتصار أكتوبر، وبداية الانفتاح، وما صاحبه من تحول اجتماعي واقتصادي وديني سريع في قلب المجتمع المصري. أحداث ولدت حالة من القلق والاغتراب والفوضى، فجاء أحمد عدوية بصوته الخشن المبهج والمليء بالشجن في آن واحد، وعبر عن هذا كله، فكان صوت القاهرة في زمن التحولات الصعبة في السبعينيات والثمانينيات عن جدارة واستحقاق.

***

“ده راجل من الشعب، يستعمل أساليب شعبية.. وألفاظ شعبية.. وصوت خشن شعبي.. لا يخلو من الحلاوة”، هكذا وصف كاتب الرواية العربية الأول نجيب محفوظ، المطرب الشعبي أحمد عدوية، في حوار تليفزيوني مع المحاور مفيد فوزي. ففي وقت أبدى الأخير استعلاء ورفضًا لظاهرة عدوية، أعطاه صاحب “الحرافيش” درسًا في البعد عن السطحية، وقال بسخرية مقصودة من استعلاء المثقف المنفصل: “الكلام غير المعقول له مغزى كبير”، ودافع عن ذائقة الشعب المصري بذكاء عندما قال إن عدوية “في وقت كان هو المسموع الأول… فهل الشعب بينافقه؟ لأ”.

 

عدوية، كحالة ومشروع غنائي، يقدم مادة غنية لدراسة تحولات المجتمع المصري بداية من انطلاقته الكبرى في 1972. مدخل يمكن من خلاله تقديم سيرته في كتاب كنافذة لقراءة مجتمع القاهرة (الذي يختصر مصر كلها). هل نظلمه عندما نضعه في هذه المكانة؟ هل سيكون الحكم عليه قاسيًا بقسوة أيام السادات ومبارك التي انتهت بثورة شعبية؟ نعم بلا شك، لم يكن عدوية وهو يقدم فنه إلا باحثًا عن أداء ما يحب، أن يطرب وأن يُطرب. أداء ينحاز إلى حياة المهمشين القاهريين، الذين تسحقهم المدينة بكل ما تمثله من تناقضات دولة ومجتمع، فلا يبحثون إلا عن بعض لحظات من الاستراحة والانبساط ليستطيعوا الاستمرار في مواجهة كل هذا الشقاء المداوم.

***

امتطى عدوية حالة ارتقاء طبقي لأبناء الريف والهوامش الحضرية الذين كسبوا المال مع تحولات الاقتصاد المصري، في وقت دخلت الطبقة الوسطى التي فشل مشروعها مع هزيمة عبد الناصر، في بحر التيه والتساؤلات والتشكك في كل السرديات الكبرى عن مصر ودورها. فبدأ أبناؤها في البحث عن معنى بعيدًا عن السلطة الجيلّية السابقة. فجاء عدوية بأغنية “حبة فوق وحبة تحت” و”بنت السلطان”، ليعكس التطلع الطبقي بعبقرية الكلمات الشعبية الموجزة والأداء الساحر لعدوية.

ثم قدم عبثية المشهد القاهري بدقة مذهلة في أغنية “زحمة يا دنيا زحمة”، من الحبايب الذين تاهوا؟ من صاحب المولد الغائب؟ من الغائب الذي يخاطبه المطرب ويريد أن يقول له ويخشى ألا يصله الكلام؟ هل هو الزعيم السياسي الذي رحل قبل الأوان؟ هل هي رغبة شعبية في توصيل رسائل بالشعور الشعبي بانحراف التجربة وسط زحام المتسلقين والمنافقين والمنتفعين؟ تبدو لي كلمات الأغنية سياسية بامتياز، تعبر عن رغبة المصري الحرفوش في إيصال الحقائق إلى الحاكم المفترض صلاحه، في امتداد لتجربة الفلاح الفصيح، لكن الحقائق التي يريد توصيلها تضيع في الزحام: زحام المصالح والصراع الطبقي وزحام الشوارع، والتحولات التي أدخلت المصريين في دوامة امتدت لعقود.

***

بعض المثقفين والنقاد ممن نصبوا أنفسهم كهنة لقوالب الفن الرفيع، شنوا حملات على عدوية. اعتبروه سبب انحطاط المجتمع والذوق العام، في سطحية رد عليها نجيب محفوظ في وقتها. ومن الجيد هنا التأكيد على هذا الموقف بأن عدوية تحول إلى حائط يلقي عليه المثقف الجبان بقمامته، والذي يخشى الاشتباك مع أسباب الانحطاط العام سياسيًا واقتصاديًا. يخاف أن يواجه السلطة السياسية والمجتمعية فلا يجد أسهل من استهداف عدوية.

وهنا أيضا يقدم الأخير حالة نموذجية لجبن الكثير من المثقفين والنخب المصرية وثقافتها القائمة على الاستعلاء على الموروث الشعبي الذي ينتمي له عدوية بكل أصالة المواويل والغناء الشعبي القادم من أعماق الريف المصري. كلمات حسن أبو عتمان، القادم من هوامش الدلتا، الممتزجة بأداء عدوية القادم من هوامش الصعيد. عبرت عن موقف شعبي ثابت وعريق وله جذوره الممتدة في الأرض، رافض لما يجري. ناقد للتحولات التي أصابت المصريين بالتوهة في عصر الزحمة الذي تعاني منه القاهرة بجلاء. رغم أن الضجيج بلا طحين. أو أن تتحول مصر إلى “أم حسن” المريضة بعد الهزيمة، التي يتم حثها لكي تفوق وتعقل. هي تجربة معبرة إذن عن مفهوم شعبي لا يجيد المباشرة والخطب الزاعقة، لكنه يستطيع توصيل الرسائل بأدواته ومفرداته شديدة المصرية. لذا نجحت أغانيه ولم يستطع الرفض الرسمي من أبناء “أسطورة الفن الرفيع” أن يوقفوا المد العدوي، الذي امتطى أحدث منتجات الحداثة -وقتذاك- ممثلة في شريط الكاسيت. ففك الحصار حول فنه.

***

عدوية، الذي عانى من استعلاء بعض المثقفين الذين هاجموه كثيرا، وشنوا عليه حملات متتالية. حصل على اعتراف أخير في يوم رحيله. إذ نعته وزارة الثقافة المصرية رسميا، عبر وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو، قائلا: “فقدت الأغنية الشعبية أحد أبرز رموزها، فنانًا عبّر بصوته المميز عن وجدان الشارع المصري. وصاحب مسيرة فنية حافلة بأغانٍ تركت بصمة لا تُنسى في تاريخ الموسيقى الشعبية. لقد كان الفنان أحمد عدوية نموذجًا للفنان الأصيل الذي أبدع في تقديم فن يحمل هوية خاصة، سار على نهجها الكثير من مطربي الأغنية الشعبية”.

وأضاف وزير الثقافة: “باسمي وباسم وزارة الثقافة، أتقدم بخالص التعازي إلى أسرة الفنان الراحل ومحبيه في مصر والوطن العربي، سائلًا المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته، ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان”.

فريد شوقي وعدوية
فريد شوقي وعدوية

حصد عدوية الاعتراف الرسمي من الثقافة الرسمية المصرية في لحظة وفاته، كان هذا انتصاره الأخير على الكثير من مهاجميه على مدار عقود. الانتصار الأكبر الذي ثبت أسطورته تمثل في هذه الحفاوة التي ودعت بها جماهير من مختلف الأجيال، عاصفة محبة ضربت وسائل التواصل الاجتماعي في ليلة شتوية باردة فقلبتها دافئة بفعل المحبة التي صاحبت عدوية إلى مثواه الأخير.

***

كان أحمد عدوية عن حق صوت القاهرة وتحولاتها في فترة السبعينيات والثمانينيات بصورة أصدق من تجربة أي مطرب آخر. مرآة صافية تعكس حقيقة مجتمع بلا أي رتوش. هو نتيجة عصر وليس صانعه. على المستوى الفني، قدم تجربة تستحق الاحترام والتقدير والاحتفاء كونها تعبر عن ثقافة شعبية عريقة وثابتة الجذور. مشكلتها الوحيدة أنها لا تلقى القبول عند المثقف المتماهي دوما مع السلطة بكل أشكالها، والرافض دومًا لديمقراطية التعبير الفني بعيدًا عن ديكتاتورية القوالب الفنية والأدبية التي يقدسها. على العكس تمامًا، يمثل عدوية ببساطته وحبه لفنه والحياة؛ النموذج الحقيقي للفنان الشعبي المعبر عن خصوصية ثقافية محلية. ربما يكون هذا هو سر إعجاب نجيب محفوظ به، فمثله آمن بأن الإبداع الحقيقي يكمن في التعبير عن الذات؛ ذات المبدع وذات المجتمع.

اقرأ أيضا:

أحمد عدوية: مارد الأغنية، مارق الطبقة

التغني بتركة «عدوية» بين تبني الصوت الشعبي ورجم الثقافة؟!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر