طه حسين يكتب «حق الخطأ» تعليقا على معركة الشيخ عبد الحميد بخيت المنسية
كانت القاهرة 1955 على موعد مع أزمة جديدة من معارك حرية الرأي والتعبير. حيث نشر الشيخ عبد الحميد بخيت مقالا في جريدة الأخبار بعنوان ” إباحة إفطار رمضان وشروطه”. مؤكدا فيه أن من يشق عليه الصيام، يمكن له الإفطار لأن الله لم يخلق البشر ليعذبهم بل لتعويدهم الصبر.
آثار المقال ضجة كبيرة، ضد الشيخ صاحب العديد من المؤلفات الدينية من بينها كتاب «الخلافة الإسلامية». طالب البعض بالتفريق بينه وبين زوجته، وطالب آخرون بتشكيل لجنة للتحقيق معه، وطالب فريق ثالث بمحاكمته وفصله من الأزهر. لكن كانت المفاجأة أن عددا من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر أطلقوا على أنفسهم اسم ” جماعة العلماء الأحرار” أصدروا بيانا أكدوا فيه: “ليس من مصلحة العلم والدين أن نصادر الآراء والحريات وأن يهدد الباحثون والكاتبون بالمحاكمات والاضطهادات”. وطالبوا من مشيخة الأزهر الكف عن هذا الأسلوب في وسائل العلم والدين”.
وكانت التوقيعات على البيان مفاجأة لشيخ الأزهر، لأنهم جميعاً من أصدقائه وزملائه. ثم بدأت سلسلة مقالات حول هذه القضية.. كان من أهمها ما كتبه الدكتور طه حسين في جريدة الجمهورية في السادس من يونيو 1955 تحت عنوان «حق الخطأ». عارض العميد في مقاله محاكمة علماء الأزهر علي ما يبدونه من آراء وينعي علي الأزهر جموده وثباته علي القديم وعدم قدرته علي فتح الباب أمام الاجتهاد. وقال من حق الناس أن تخطئ، وويل لأمة يعاقب الناس فيها علي الخطأ..وويل لأمة لا تعرف الحرية ولا تقدر ولا تقيم أمرها علي القصد والاعتدال، وإنما تقيمه علي الغرور وطالب «حسين» شيخ الأزهر بأن يعدل عن هذه القضية التي لا خير فيها للأزهر ولا لمصر ولا للإسلام وعليه أن يدعو هذا الأستاذ ويعظه وينصح له برفق وأن يطب منه الاحتياط قبل أن ينشر علي الناس. «باب مصر» ينشر نص المقال:
حق الخطأ
إذا أسرف مسلم على نفسه، واقترف إثمًا من الآثام التي يمقتها الله ويحذِّر منها عباده المؤمنين، ويوعدهم بالعقاب الشديد والعذاب الأليم إنْ تورَّطوا فيها. فأمر هذا المسلم لا يخلو من إحدى اثنتين: إما أن يكون قد اقترف خطيئة تؤذي غيره من الناس، وتضيع بعض حقوقهم. وإما أن يكون قد اقترف خطيئة لا تؤذي أحدًا غيره. ولا تمس إلا الصلة الدينية الخالصة بينه وبين الله الذي يعلم سرَّه وجهره، ويراقب ضميره حين يفكر أو يشعر، وشخصه حين يحسن في العمل أو يسيء.
فإذا كانت الأولى، فولِيُّ الأمر وحده هو المكلَّف أن يحاكِم هذا المسلم وأن يعاقبه على إيذائه للناس وإضاعته لحقوقهم كلها أو بعضها. وأن يقتص منه للذين آذاهم أو أصابهم ببعض ما يكرهون.
وولي الأمر هو القائم بالحكم بين الناس، وهو مكلَّف أن يقيم الحدود، وأن ينصف المظلوم من الظالم، وأن يكون الضعيف عنده قويًّا حتى يظفر بحقه كاملًا، وأن يكون القوي عنده ضعيفًا حتى يؤدي ما عليه من الحق كاملًا.
**
وولي الأمر ينهض بهذا العبء بنفسه إن استطاع، وبواسطة القضاة الذين ينيبهم عنه في النهوض بهذا العبء حين لا يستطيع، وأداء هذا الواجب لا يعفي الخاطئ من حساب آخَر أشد وأقسى وأعظم عسرًا من حساب ولي الأمر أو القاضي. وهو حساب الله له يوم القيامة وعقابه له على ما قدَّم بين يديه من السيئات. والله مع ذلك يفتح لهذا الجاني أبوابًا واسعة من الأمل في عفوه ومغفرته ورحمته، إن تاب وأصلح وكفَّ عن مقارفة السيئات.
فعقاب السارق والقاتل والغاصب والمعتدي على حقوق الناس بوجه عام. عقاب هؤلاء في الدنيا لا يعفيهم من حساب الله لهم في الآخرة. والله عز وجَلَّ يعاقبهم بعد هذا الحساب إنْ شاء. ويعفو عنهم إن شاء. ويبدِّل سيئاتهم حسنات إن شاء. بهذا كله يُنبِئنا الله عز وجل في كتابه العزيز. وفي آياتٍ كريمة منه كثيرًا ما أظن أني غير محتاج إلى إثباتها في هذا الحديث؛ لأنها تُتلَى على المسلمين حين يصبحون وحين يمسون. والخطأ في اقتراف هذه الآثام التي تمس حقوق الناس لا يعفي الخاطئ من التبعات في الدنيا، وإنْ خفَّف عنه ثقل هذه التبعات تخفيفًا عظيمًا.
**
فمَن قتل خطأ وجب على الحاكم أن يأخذه بخطئه، ويلزمه تعويض أولياء الدم عما أصابهم من جنايته. وذلك بأداء الدية إليهم. ولكن لا يجوز للحاكم أن يقتص منه ويقتله بمَن قتل خطأً، فأما فيما بينه وبين الله. فإن الله يعفو عن الخطأ لقوله عز وجل: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. والله قد أنبأنا بأنه قد يعفو عن الخاطئ المتعمد، إنْ تاب وآمَن وعمل صالحًا فقد يبدل سيئاته حسنات.
والله يقول في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. وإن كانَتْ الثانية، ولم يُجْنِ الخاطئ المتورط في الإثم والكبيرة على أحد غيره من الناس، وإنما جنى على نفسه وحدها، فضيَّع حقًّا من حقوق الله التي لا تمس حقوق الناس من قريب أو من بعيد، فأمره إلى الله وحده وحسابه على الله وحده. وليس لأحد من الناس كائنًا مَن يكون أن يحاسبه أو يعاقبه. وإنما يجب على المسلمين وعلى حكامهم وعلمائهم أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر. ويدعوه إلى الخير ويحذروه من الشر، وقد يستطيع الحاكم أن يُعذِّره باللوم أو ببعض العقاب الذي لا يتلف نفسه ولا يضيع حقه.
**
أما ما بينه وبين الله، فلسنا نعلم من أمره إلا ما أنبأنا الله به في القرآن من أنه أعدَّ للذين يقترفون الكبائر عذابًا أليمًا. ومن أنه غفور رحيم يعفو إن شاء عن مقترِف الكبيرة إن تاب وأصلح. والله عز وجل يقول لنبيه ﷺ: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ويقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
ويجب أن تفهم الجهالة في الآيتين بمعناها العربي القديم الذي جاء في القرآن الكريم غير مرة. وهو التسرُّع عن غير روية ولا تفكُّر ولا أناة. فهي هنا نقيض الحلم لا نقيض العلم، كما قال الفرزدق:
أَحْلَامُنَا تَزِنُ الْجِبَالَ رَزَانَةً وَتَخَالُنَا جِنًّا إِذَا مَا نَجْهَل
وكقول عمرو بن كلثوم:
أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
فتارك الصلاة وتارك الصوم وتارك الحج حين يجد إليه سبيلًا من الخاطئين الذين أعَدَّ الله لهم عذابًا أليمًا، وأعدَّ لهم الرحمة والمغفرة والعفو إنْ تابوا من قريب وأصلحوا.
هذه كلها أوَّليات مفهومة من الدين بالضرورة. كما يقول الأزهريون. ومفهومة من الدين بنص القرآن الذي لا يقبل تأويلًا ولا تبديلًا.
**
فما عسى أن يكون موقف ذلك الأستاذ الأزهري الذي قال مقالته تلك في الصوم. فأغضب الشيوخ وأثار هذه القصة التي يظهر أنها لم تنقض بعدُ. إنه لم ينكر أن الصوم ركن من أركان الإسلام. ولم يُبِحْ للناس أن يفطروا إن شاءوا بغير قيد ولا شرط. وإنما فهم نصًّا من نصوص القرآن الكريم فهمًا لا يقرُّه عليه الشيوخ. وأعلن رأيه للناس؛ قرأ قول الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وفهم من هذه الآية ما فهمه بعض المفسِّرين القدماء — ومنهم الزمخشري مثلًا — من أن الذين يجدون المشقة في الصوم يستطيعون أن يفطروا وأن يفتدوا من ذلك بإطعام مسكين. وقرأ آيات في القرآن وفهمها على غير ما يقرأ الشيوخ. قرأ قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ. وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا. وقوله: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ورأى النبي ﷺ يقول فيما روى البخاري: «إنما بُعِثتم ميسِّرين لا معسِّرين». ويقول فيما روى البخاري أيضًا: «أَلَا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
قرأ هذا كله وقرأ نصوصًا كثيرة أخرى غيره. واعتقد أن الإسلام لا يأخذ الإنسان بالمشقَّة ولا بالعنف. وإنما يأخذه باللين والرفق لأن الإنسان خُلِق ضعيفًا. وقد علَّم الله المسلمين أن يسألوه ألَّا يحمل عليهم إصرًا كما حمل على الذين من قبلهم، وألَّا يكلِّفهم ما لا طاقة لهم به. ورأى كثيرًا من المسلمين يظهرون الصوم إنْ لقوا الناس أو لقوا بعض الناس، ويفطرون حين يخلون إلى أنفسهم وإلى أمثالهم من الذين يقول الله فيهم: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ. فأشار على هؤلاء بأن يفطروا إن وجدوا المشقة في الصوم، وبأن يفتدوا من هذا الإفطار بإطعام مسكين. واعتقد فيما بينه وبين نفسه. وفيما بينه وبين الله أنه بهذه المشورة ينصح للإسلام والمسلمين. فينهى الناس عن النفاق ويحثهم على الصدقة. والله ليس في حاجة إلى صيام الصائمين، والمساكين من الناس في حاجة أشد الحاجة إلى أن يطعمهم القادرون على إطعامهم مؤثرين للصدقة أو مفتدين بها من الصوم.
**
كذلك رأى هذا الأستاذ، ولست أقول إنه أصاب، ولست أقول إنه أحسن فيما صنع. ولكني أقول إنه لم يتعمَّد خروجًا من الدين ولا مخالفة عن أمر الله، ولا انحرافًا عن نصوص القرآن وما صح من الحديث. فأقصى وأقسى ما يمكن أن يقال في شأنه: إنه اجتهد فأخطأ، وليس على مَن اجتهد حرج في أن يخطئ. وما أكثر المجتهدين الذين أخطئوا فلم يَقْضِ عليهم أحد بالكفر. ولم يُتَّهَموا بالخروج من الدين. ولم يحاول أحد أن يحاكمهم أو يعاقبهم. أو يطلب إلى القضاء أن يفرِّق بينهم وبين أزواجهم! وليس لأحد أن يتهمهم بشيء من ذلك. أو يقدِّمهم إلى القضاء في شيء من ذلك. أو يحاول التفريق بينهم وبين أزواجهم لشيء من ذلك؛ فكل شيء من هذا القبيل اعتداء على حق المسلم في أن يجتهد في رأيه. وينصح لله والناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
ولا ينبغي أن يقال إن ذلك الأستاذ لم يبلغ منزلة الاجتهاد، فمنزلة الاجتهاد هذه شيء غامض غير محدود ولا واضح الأعلام، ولم يستطع أحد من شيوخنا في الأزهر أن يحدِّد لنا منزلة الاجتهاد هذه. ولا أن يبيِّن لنا متى يبلغها الناس ومتى يقصرون عن بلوغها. ولكن المسلم الذي يقرأ كتاب الله ويفهمه كما يستطيع الناس أن يفهموه. ويقرأ حديث النبي ﷺ ويفهمه كما يستطيع الناس أن يفهموه أيضًا. ثم يشارك فيما اتفق الناس على أن يسموه علوم الدين، فيأخذ بحظ من الفقه وأصوله، ومن الكلام ومذاهب الناس فيه. ويشهد له بهذا كله الأزهر الشريف الذي يعطيه إجازة مكتوبة معتمدة من الدولة تشهد بأنه عالم من علماء الدين…
**
هذا المسلم ليس عليه بأس إن حاول الاجتهاد مخلصًا في اجتهاده ناصحًا فيه للإسلام والمسلمين. وذلك الأستاذ قد ظفر بتلك الإجازة كما ظفر بها حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر وزملاؤه من أعضاء هيئة كبار العلماء وزملاؤهم من علماء الأزهر الشريف جميعًا. وإذا كان شيوخنا الأَجِلَّاء يأبون على أنفسهم الاجتهاد، ويكتفون بتقليد واحد من الأئمة الأربعة؛ خوفًا من الزلل، وإشفاقًا من الخطأ وإيثارًا للعافية. فذلك حقهم لا ينازعهم فيه أحد، ولكنه لا يبيح لهم أن يأخذوا الناس بأن يكونوا مقلِّدين مثلهم. هم أحرار في التقليد وغيرهم حر في الاجتهاد. والله غالب على أمرهم جميعًا، سيسأل المقلِّدين عن تقليدهم، وسيسأل المجتهدين عن اجتهادهم، وسيجزي كلًّا منهم بعمله جزاءً لا يشك في عدله إلا الجاحدون.
وإذن ففيمَ كل هذه الضجة؟ وفيمَ كل هذا الجدال؟
رجل اجتهد ومن حقه أن يجتهد. فإن يكن أصاب فأجره على الله. وإن يكن أخطأ فحسابه على الله. وليس لأحد من الناس، لا من رجال الحكم ولا من رجال الأزهر، أن يحاسبه على ذلك أو يعاقبه؛ لأنه لم يتعمد على حق من حقوق الناس، لم يسفك دمًا حرامًا ولم يأخذ مالًا حرامًا. ولم يؤذِ أحدًا في شيء تعاقِب القوانين على إيذاء الناس فيه.
كل ما يمكن أن يقال هو إنه أخطأ في حكم من أحكام الدين. فمن حق العلماء أن يبيِّنوا له خطأه وأن يدلُّوه على الصواب، ويدعوه إلى أن يثوب إليه. فأما أن يحاكموه أو يعاقبوه أو يؤدبوه، أو يقدموه إلى القضاء ليفرق بينه وبين أهله. فذلك شيء لا يبيحه لهم الإسلام. وهم إن فعلوه يعطون أنفسهم حقًّا لم يُعْطِه الله لهم، فهم يتجاوزون حدودهم ويظلمون هذا الأستاذ، وينتحلون لأنفسهم ما لا يملكون.
**
ولست أدري: إلامَ انتهت إليه هذه القصة الآن؟ ولست أعلم حين أملي هذا الحديث أبرئ هذا الأستاذ أم أُدِينَ؟ ولكن الشيء الذي أقطع به هو أن محاكمته من أجل رأيه في الصوم إسراف وانحراف عن أصول الإسلام وسنته السمحة. ولابدَّ من أن يعود علماء الإسلام في الأزهر إلى قصد السبيل بعد أن جار بهم السلطان عنه. واستحَبَّ فريقٌ منهم هذا الجور في وقت من الأوقات؛ فليس لعلماء الإسلام حق في أن يحاكموا مسلمًا أو يعاقبوه لأنه اجتهد رأيه فأخطأ أو أصاب؛ ذلك أن الإسلام لا يعرف الإكليروس. ولا يعرف هذه السلطة الدينية العليا التي يستأثر بها فريق من رجال الدين، فيحكمون بإيمان هذا الرجل وكفر ذاك.
وقد عاش المسلمون قرونًا قبل أن يوجد الأزهر الشريف، فلم يعرفوا هيئة تحاكم الناس على الاجتهاد في الرأي. وهم قد كرهوا من الخليفة المهدي تتبُّعه للزنادقة، وإسرافه في هذا التتبُّع، وأخذه بعض الناس بالشبهة وقتله بالظنة، وهم كرهوا كذلك إسراف المأمون حين أراد أن يحمل الناس على الإيمان بخلق القرآن، وحين امتحن بذلك جماعة من أخيار المسلمين.
والأزهر نفسه قد عاش قرونًا لم يكن يملك فيها أن يحاكم أو يعاقب على الرأي. وإنما كان يملك أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير كما أمر الله في كتابه العزيز. ولم يُتَحْ هذا الحق للأزهر إلا في آخِر الزمان. وفي هذا القرن الذي نعيش فيه، حين أُنشِئت هيئة كبار العلماء وأُعطِيت ما أُعطِيت من الحقوق، وكان إعطاؤها الحق في محاكمة الناس ومعاقبتهم على الرأي بدعة لم يعرفها الإسلام من قبلُ. وكان من الحق على الأزهر أن يذكِّر الحكومة التي أعطت هيئة كبار العلماء تلك الحقوق أن في ذلك بدعة. وأن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة. وأن كل ضلالة في النار. كما كان ابن مسعود رحمه الله يتحدث إلى تلاميذه في الكوفة.
**
وقد اختلف أئمة المسلمين في أمور كثيرة، اختلفوا في الفقه، واختلفوا في الكلام، واختلفوا في السياسة، وشنَّع بعضهم على بعض، وأسرف بعضهم على بعض في التشنيع. ولكن أحدًا منهم لم يُقدَّم إلى المحاكمة ولم يُفرَض عليه عقاب شديد أو يسير. ونحن نقرأ من تشنيع بعض العلماء على بعض طرائف لا تحصى، نقرأ في كتاب ابن حزم مثلًا أن الأشعري كان قد أهدر دمه حين رأى هذا الرأي أو ذاك في الكلام. وأن أصحاب أبي حنيفة قد أهدروا نصوص القرآن وتكلَّفُوا على النبي ما لم يَقُلْ من الحديث، حين رأوا هذا الرأي أو ذاك في الفقه. ولكن هذا كله لم يَعْدُ أن يكون كلامًا يقال، فأما أن يُحاكَم فقيه أو متكلِّم على رأي له في الفقه أو الكلام، وأن يكون الذين يحاكمونه من الفقهاء أو المتكلمين. فذلك شيء لا يعرفه المسلمون إلا منذ أنشئت في مصر هيئة كبار العلماء. وأغرب ما في هذه القصة أن صاحب تلك المقالة في الصوم لم يبتكر شيئًا ولم يقل جديدًا، وإنما سبقه علماء من المسلمين إلى مثل هذا الرأي. وقد أشرت في أول هذا الحديث إلى أنه لم يبتكر تفسير آية الصوم التي اعتمد عليها في رأيه ذاك، وإنما سبق إليه مفسِّرون قدماء، ذكرت منهم الزمخشري.
وقد سبقه إلى رأيه من الفقهاء القدماء الذين لا يكفرهم الأزهريون جماعةٌ أذكر منهم ابن حزم. ولست أعرف أن الزمخشري حُوكِم على تفسيره لهذه الآية الكريمة. ولا أن ابن حزم قد حُوكِم على إباحة الإفطار والفدية لمَن وجد المشقة في الصوم، ولكن آفة الأزهريين المعاصرين أنهم يقرءون كتبًا بعينها قد فرضتها عليهم ظروف الأزهر في بعض العصور، ولا يكادون يقرءون غيرها من الكتب التي كتبها علماء الإسلام في العصور الأولى وفي البلاد الإسلامية المختلفة. وهم من أجل ذلك يحصرون العلم والدين في حدود ضيقة جدًّا، هي حدود الكتب التي يقرءونها، والعلم أوسع جدًّا من هذه الكتب، والدين أوسع جدًّا وأسمح جدًّا مما يراه الأزهريون، ولولا أني أحب الأزهر حبًّا متأصلًا في نفسي، وأرفق بالأزهريين كما أرفق بالصديق الحميم لقلت أكثر من هذا. ولكني على كل حال أتمنى مخلصًا للأزهريين ولعلمائهم خاصةً أن يقرءوا القرآن نفسه، وأن يقرءوا الحديث في نصه أكثر مما يقرءون كتب الفقه وكتب المفسرين المتأخرين.
**
ولست أعرف شيئًا يعلِّم المسلم سماحة الرأي وسماحة الخلق. وأخذ الأمور بالرفق واللين والحكم على الأشياء في غير تكلُّف ولا تعقيد، كالإمعان في قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف، والاقتصاد في الرجوع إلى المفسِّرين والشرَّاح بحيث لا يُرجَع إليهم إلا عند الضرورة القصوى.
أما بعدُ، فأظن أني قد بلغت بهذا الحديث ما حاولت من إثبات أن من حق ذلك الشيخ الذي قال مقالته تلك في الصوم أن يجتهد وأن يخطئ. وأن ليس لأحد من الناس — وإن كانوا شيوخ الأزهر، وعلى رأسهم صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر — أن يحاكمه أو يعاقبه على شيء من ذلك. وأن لهم أن يجادلوه بالتي هي أحسن، وأن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر ويدعوه إلى الخير، لا يتجاوزون ذلك إلى أكثر منه؛ لأنهم لا يملكون أن يتجاوزوا ذلك.
أما ما كتبه الأزهريون الذين حاولوا أن يردوا على الحديث الذي نشرَتْه «الجمهورية» لي قبل سفري من مصر، فليس لي رد عليه إلا قول الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.
اقرأ أيضا
طه حسين وقصة أزمة: آسف لن أغير أرائي.. الحق آثر عندي من رضى الناس