طه حسين مؤرخا.. ذكرى الجرأة المفتقدة
شارك طه حسين في العديد من مجالات المعرفة المختلفة فمن الدراسات الأدبية إلى الكتابة الروائية والقصصية مرورا بالكتابات السياسية والترجمة. لنجد أن عميد الأدب العربي ترك خلفه ميراثا متعدد الجوانب. وأحد الجوانب المهمة التي ساهم فيها كانت بلا شك الكتابات التاريخية النقدية. إذ ترك عدة كتابات كانت سابقة في استخدام المناهج النقدية في التعاطي مع الأحداث التاريخية المفصلية التي ابتعدت عنها الكثير من الأقلام خشية وخوفا.
طه حسين ترك العديد من الأعمال ذات الطابع التاريخي المباشر،. وذات الطابع التاريخي غير المباشر. فالرجل الذي عرك التراث العربي، فهم مبكرا أهمية التاريخ كأداة لاستنهاض الأمة. ومن هنا اشتبك مع التاريخ مباشرة في كتابه الشهير (الفتنة الكبرى) والذي جاء في جزئين، الأول عن عثمان، والثاني عن علي وبنيه. وكان يفترض أن يلحق ذلك بجزء ثالث وموضوعه (تطور الأحزاب السياسية الإسلامية)، وتطورها إلى أحزاب تنادي بالعدالة الاجتماعية بعد ترجمة الثقافات الأجنبية. بحسب ما أعلن في الحلقة التليفزيونية الشهيرة التي شارك فيها بحضور نخبة من المثقفين المصريين.
عرف عميد الأدب العربي التاريخ مبكرا وأولع بمناهجه في أيام دراسته في الجامعة الأهلية (جامعة القاهرة في ما بعد). في وقت كانت الدراسات الفيلولوجية (فقه اللغة) هي السائدة عالميا. وهي دراسات تعتمد على التحليل التاريخي المقارن للغة. ولأن طه حسين جاء من ثقافة ذات اهتمام فائق بالتاريخ. فكان طبيعيا أن ينخرط في الدراسات التاريخية بمختلف أشكالها. كما فعل في كتابه الأشهر (في الشعر الجاهلي)، الذي حاول فيه نزع القداسة عن تاريخ المسلمين، ما جر عليه صداما مع قوى الرجعية. وهو كتاب ينتمي إلى حقل التاريخ الأدبي المعرفي. والذي نستطيع أن نضع تحته بعض إنتاج طه حسين مثل: (مع أبي العلاء في سجنه) و(مع المتنبي).
***
وعبر طه حسين عن رفضه للنظرة التقليدية التقديسية لتاريخ المسلمين في مقال نشره في فترة مبكرة من حياته في مجلة (السياسة). وتحديدا في فبراير 1923. إذ ينتقد استمرار علماء المشرق في إسباغ صفة من الجلال والتقديس الديني على تاريخ المسلمين. بما يحول بين “العقل وبين النظر فيه نظرًا يعتمد على النقد والبحث العلمي الصحيح. فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب وجلال خطرهم وتقديس مكانتهم. وهم يضيفون إليهم كل خير، وينزهونهم عن كل شر. ويصفونهم بجلائل الأعمال، ويرفعونهم عن صغائرها. ويتخذون ذلك قاعدة من قواعد البحث، ومقياسًا من مقاييس النقد. فإذا أضفت إلى الرشيد شيئًا فليس هذا الشيء صحيحًا إلا إذا كان في نفسه خليقًا بالرشيد. يليق به وبمكانته، وليست هذه المكانة هي مكانته في نفسها. وإنما هي المكانة التي خلعها عليه القدم، وبعد العهد، وجلال الخلافة، وكرامة الدين، وسطوة الأمة العربية”.
ثم يقدم العميد تعريفه للمنهج التاريخي الذي يبغيه قائلا: “فأما النقد التاريخي من حيث هو نقد تاريخي. فأما النظر إلى الناس من حيث هم ناس. ووصفهم بما يمكن أن يوصف به الناس، وتحليل أخلاقهم وعاداتهم كما تحلل أخلاق الناس وعاداتهم. والملاءمة بين هذه الأخلاق والعادات، وما اكتنفها من الظروف والأحوال. فذلك شيء قلما يفكر فيه هؤلاء العلماء أو يلتفتون إليه”. هنا يسعى طه حسين إلى إطلاق ملكات العقل، وتحريره من قيود وضعها البشر على عقولهم. فكانت بداية الانحطاط والنزول عن مجدها العقلي إلى حضيض النقل والعنعنة. حيث لا مجال للنقاش ولا التفكير، فقط طاعة عمياء.
***
قدم طه حسين في «الفتنة الكبرى» أوراق اعتماده كمؤرخ من طراز رفيع. ويقدم تطبيق عملي لما سبق أن أعلنه من رؤية نقدية للتاريخ. فهو يحكم العقل والمنهج في قضايا شديدة الحساسية عند المسلمين. ولم تبحث بشكل عقلاني في العصر الحديث على يد مسلم عربي قط. ومن هنا كانت جرأة طه حسين التي نعرفها عنه في اقتحام هذا الحقل المعرفي المغلق تحت لافتات التحريم وغلق باب الاجتهاد والبحث. لكنه لم يهتم وخاض غمار البحث التاريخي فقدم لنا تحفة تاريخية مكتوبة بأسلوب أدبي شائق عن الفتنة الكبرى.
وعبر طه حسين عن منهجه في (الفتنة الكبرى) قائلا: “أنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى. ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين. وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرِّد نفسَه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها”. هذه الروح نجد الكثير من الباحثين المعاصرين لا يمتلكونها بل لا نتجاوز إذا قلنا إنهم لا يفكرون فيها أصلا مع استسلامهم للسائد في الدراسات التاريخية حاليا من الاقتصار على جمع المادة التاريخية ووصفها بلا اشتباك ولا محاولة تفكر في ما وراء الحدث.
وربما يكون طه حسين قد تأثر في دراسته التاريخية للفتنة الكبرى، بصاحب المقدمة ابن خلدون، فقد درسه طه حسين في باريس جيدا، وكتب عنه دراسة (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية). ومعروف أن ابن خلدون حاول تعليل أسباب الفتنة وأسباب انتصار معاوية بشكل عقلاني بعيدا عن العاطفة، واستخدم في ذلك نظريته الشهيرة عن العصبية القبلية. إذ يقول في (العبر وديوان المبتدأ والخبر): “ولما هلك عثمان واختلف الناس على علي. كانت عساكر علي أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش، شوكة مضر وبأسهم؛ نزلوا بثغور الشام منذ الفتح. فكانت عصبيته أشد وأمضى شوكة”.
***
إن ميراث طه حسين التاريخي الحقيقي هو تلك الروح النقدية الجريئة التي تقتحم مجال البحث بأدوات منهجية. وقدرة فذة على طرح الأسئلة، والاشتباك مع القضايا التاريخية المطروحة بهدف استنطاقها والعمل على استخدام التاريخ. كأداة من أدوات تحفيز الأمة في حاضرها لحفر طريقها في المستقبل، ونزع هالة التقديس التي تحيط بشخصيات تاريخية قد تكون سبب نكبة الشعوب العربية بأفعالها التي فتحت الطريق لمسار بعينه أثر في حياة هذه الشعوب حتى الآن.
هذه الروح القوية التي لا تخاف ولا تتراجع أمام ثوابت المجتمع غير المختبرة. هي ميراث طه حسين الحقيقي عموما، وفي مجال الدراسات التاريخية تحديدا. وللأسف هذه الروح هي ما تغيب عن معظم الدراسات التاريخية التي تنتج في يوم الناس هذا والتي يغلب عليها الجبن المعرفي. إذ يكون هم الباحث هنا هو مسايرة السائد وتقديم ما يطلبه الجمهور، لا تحدي جموده وطرح الأفكار المحفزة على التفكير. لذا في ذكرى رحيل طه حسين الخمسين لا نحتاج أكثر من روحه النقدية وجرأته العقلية لإيقاظ العقل العربي من سباته العميق.
اقرا أيضا:
ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور
«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟
«من رسائل العميد» إلى هيكل باشا: في نقد «ثورة الأدب»
محمد حسنين هيكل في زيارة إلى العميد: صومعة عقل
طه حسين والجامعة.. ذكرى قيمة العميد
«طه حسين»: معركة الخطوة الثانية