ضحايا التفاهة على منصات التواصل

يجب على العاقل ألا يجعل قراءته الأساسية (القراءة التي تبتغي اكتساب معرفة ومتعة ذهنية) نشاطا على منصات التواصل الاجتماعي. وألا يقصرها على ما يعرض ضمن منشورات مستخدميها ويظنه “محتوى” جديرا بالاكتساب والتعلم.

ببساطة، يفرض الوجود على هذه المنصات نمطا من القراءة العجلى شديد الاختزال. يغوي بالاستباق لمشاهدة أكبر قدر من مساهمات المتكلمين، وإبداء التفاعل السريع معها. وتلك اختزالية تجعل نصيب كل فكرة معروضة من وقتك محدودا جدا، وأقل من أن يقيمها عقلك ويوفيها حقها ويتفاعل معها بجدل معتبر.

مثل هذا النمط الملول من القراءة يزيد من توهمنا اكتساب المعرفة لمجرد كثرة ما يتراكم أمام عين القارئ من الكلام. وحواس القارئ الملول إنما تدفعه لتعمد اجتهال الفكرة المعروضة بحيل تحد من بذل جهده الذهني وتكلفه. يبدأ الأمر من ابتسار مضمون ما هو معروض، و”قراءة الجواب من ععلى منصات النوانه”. وتعجل إبداء الانفعال بالمقروء، انفعالا انطباعيا وليس عقليا. فيأتي التعليق عليه على هوى هذه الانفعالات، وغالبا بطرح يجافي الفكرة ولا يشتبك جديا معها.

***

وطالما أن الأساس الذي بنيت عليه هذه المنصات والخوارزميات التي تتحكم في طرق عرضها للأفكار بقيت على هذا النحو. فلابد من أن يبحث العاقل عن بدائل عنها، تحقق له الاتصال بمعرفة حقيقية تتسم بالعمق الكافي، وبما يسمح بتشغيل العقل وتفعيل ملكاته. أعني العودة لفعل القراءة التقليدي القائم على تفرغ وصمت في حضرة الفكرة إلى أن تكتمل.

لكن ما يحدث من الاستغناء عن القراءة الفعالة لصالح القراءة الانطباعية خطر. وأخشى أنه ينعكس على المعرفة التي يتكلم بها أغلب الناس اليوم، والتي تتضخم كاحتياجات ذهنية لا تفكير فيها بالمعنى الذي نفهمه للكلمة. ويزيد من هذا الاهتياج الذهني تحكم الروح التجارية في عرض الأفكار على منصات التواصل الاجتماعي. ومنطقها الحشدي الأغلبوي، وبما يسلع أي فكرة لحالة تصويت بائسة ومتسرعة.

***

ويزيد من الإغواء أن في مثل هذا المناخ تتخلق أشكال من الشهرة تنسب زورا للتفكير. وما يتصل به من مهن كالنقد والبحث العلمي والرأي الاستشاري والتفلسف وحتى ما يتصل بالخبرات المهنية الرفيعة. هؤلاء يشتهرون بأقل الجهد في ابتسار المعرفة واختزالها. يخدمون اللعبة التي تنزل بالأفكار لحضيض التفاهة.

وأخشى مع طغيان دردشات الذكاء الاصطناعي على حساب البحث واستسهال المعرفة منزوعة الخبرة والعمق والتفكير الذاتي أن ننحدر لما ظل الكثيرون يحذرون منه. أعني تخمة الكلام وضآلة المعارف.

وبغير قراءة من نوع آخر، تبعد عن تلك المنصات وفروضها الاختزالية، سنكون ضحايا مثاليين للتفاهة. نركل فرصة التفكير بعيدا، ونقلص بأيادينا المهارات العقلية التي ميزت البشر عن سائر المخلوقات.

اقرأ أيضا:

جماليات الأزرق في شوارع القاهرة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر