صور| شعراء السيرة.. “محمد عزت” آخر حبة في عنقود رواة السيرة الهلالية
كتب – مصطفى عدلي
تعلقت عيون الطفل الصغير بربابة جده شاعر السيرة الهلالية الراحل “عبدالباسط نوح”، لم تفلح محاولات كفه الصغير وهو يداعب أوتارها التى اختيرت بعناية من شعر خيل عربي أصيل في إخراج صوت يدغدغ مسامعه التى دأبت على سماع رنينها العذب، الذي كان يسقى قلوب المستمعين قبل آذانهم وهي تعلو مع صوت تملكه العنجهية والغرور للزغبي “دياب بن غانم” عقب انتصاره في حربه على اليهودي، وتنخفض روديًا رويدًا مع مرثية “عامر الخفاجي” ملك العراق عندما بعث رسالة وهو على فراش الموت مفادها بأن الغريب لن يعود إلى موطنه مرة أخرى.
يكاد يذوب قلبه الصغير عشقًا وشوقًا عندما تعلن حنجرة عمه الشاعر “عزالدين نصر الدين” أن “عزيزة بنت معبد السلطان” أغلقت قلبها قبل أبواب قصرها في تونس على “يونس الهلالي” التي قايضت بوطنها، مقابل أن تنال نظرة رضا من الحبيب الذي نسج صورته خيالها العاشق من حديث جاريتها مي الهلالية قبل أن تراه بأم عينيها الساحرتين.
الورث
لسبب ما ظل محمد عزت، محتفظًا بشاربه العريض ولحيته القصيرة على وجهه دونا عن أقرانه من الشباب ممن هم في عمره، ملتحفًا بشاله الكشمير والجلابية البلدي، وكأنه أصبح نسخة مصغرة من عمه شاعر السيرة الهلالية المخضرم عز الدين نصر الدين السوهاجى الذي رحل عن عالمنا في تسعينيات القرن الماضي عقب صراع لم يدم كثيرًا مع المرض، حتى أن المستمعين الجدد لقصص السيرة الهلالية لا يفرقون بينهما ويعتقدون أن صوت ذلك الشاعر الذي ينسدل في نعومة من سماعة الفرح المجاور لهم مثل الشلال هو لعزالدين وليس لابن شقيقه الأصغر الفنان الشعبي عزت نصر الدين.
تمرد
كعادة الشباب المتمرد يرفض الشاعر أن يكون صورة طبق الأصل من عمه وجده، ويحاول جاهدًا أن يخرج من عباءة عمه نصر الدين، التي قلدها له الجمهور لتشابه صوتهما إلى حد بعيد، رغم أنه كان أول من اصطحبه إلى حفلات السيرة الهلالية، لم يكن وقتها أكمل الرابعة عشر من عمره، فراح يداعب الربابة تارة والدوف والمايك تارة أخرى، وراح يتطلع للجمهور من فوق خشبة المسرح بجوار جده عبدالباسط نوح، متمنيًا أن تمر السنوات بسرعة ليقود من نفس المكان فريقه الخاص به.
بداية
لم تمنع كلية الدراسات الإسلامية التى كان يدرس بها ومن بعدها المعهد البريطاني للكمبيوتر والبرمجيات “محمد” من ممارسة هوايته التي ورثها عن آبائه وأجداده كابر عن كابر، خاصة أنه ينحدر من محافظة سوهاج التي يعرف أنها موطن شعراء السيرة الهلالية في الصعيد وهو على سبيل الذكر جابر أبو حسين، عزالدين نصر الدين، عبدالباسط نوح، مرددًا جملة عمه نصرالدين: “الشاعر من سوهاج والمستمع من قنا”.
وقدم ابن الـ25 ربيعًا خلال مسيرته الفنية عدة حفلات بدول عربية مثل الإمارات والمغرب والجزائر، بيد أن حلم زيارة فرنسا عاصمة السحر والجمال لا يفارق مخيلته، حالما بأن يطوف بربابته جميع دول العالم يتغني بسيرة الهلايل التى ظلت محتفظة برونقها وبريقها لأنها فن أصيل سيبقى خالدًا أبد الدهر -حسب وصف الشاعر-.
محطات
يدين الشاعر بالفضل لوالده الفنان الشعبي عزت نصر الدين، واصفًا إياه بنصفه الآخر والقائد الحقيقي لفرقة الفن الشعبي، بالإضافة إلى أساتذة جامعات ومختصون ساعدوه في جمع التراث الشعبي واستفاد منهم كثيرًا ومنهم دكتور الأدب الشعبي أحمد الحجاجي، ومسعود شومان، ومحمد حسين عبد الحافظ، وخالد أبوالليل، ودعاء صالح، كذلك فرقته الشعبية التي وقفت بجانبه وساعدته في أن يكون واحدا من شعراء السيرة الهلالية.
“حفظ تاريخ السيرة الهلايل موضوع صعب وممتع في نفس الوقت بالإضافة إلى تنمية الموهبة وثقلها بالخبرات”، هكذا يشير عزت إلى الصعوبات التي واجهته في حفظ عشرات القصص وتقمص شخصيات أبطالها الذين رسمهم الجمهور في خياله، وأصبح يستدعي أرواحهم عندما تذكرهم القصص.
مضيفًا: “السيرة لها من الدلال على عاشقيها ما يجعلها تتحكم في أمزجتهم، فتارة تجد الرجل الوقور الذي غطى شعره اللون الأبيض يرقص بعصاه طربًا، على مقطوعة من التراث الشعبي، وكأنه شاب عشريني، وإن رأيته سارحا مع موال السيرة فلا تعجب، وعندما تشاهد دموع الرجال تنساب على وجنتيهم حزنا عندما يعلن الشاعر عن مقتل الأمير عامر الخفاجي ملك بلاد العراق، فهذا أمر عادي وأصبح معتادًا لديهم”.
ذكريات
يستدعي نصر الدين ذكريات الوقفة الأولى أمام عدسات الكاميرات، عندما ظهر علي شاشات التلفزيون، في احتفالات محكى القلعة بالقاهرة، وقتها كان عمره لا يتجاوز 15 عاما، وبعدها أحيا عدة حفلات بصحبة فرقته الشعبية، التي يترأسها والده، بصحبة شعراء السيرة الهلالية الكبار سيد الضوي، عبدالباسط الصعيدي، مشيدًا بالحفاوة الكبيرة التي يلقونها عند زيارة البلدان العربية الشقيقة، وتذكر كيف أشاد به حاكم الشارقة في حضور شعراء كبار وشخصيات مرموقة عندما أدى موال من تراث السيرة.
يعدد ابن قرية برخيل التي تتبع لمركز البلينا بمحافظة سوهاج، شعراء السيرة الكبار الذين حفروا أسمائهم بحروف من ذهب في قلوب عشاق السيرة من أبناء الصعيد وهم المخضرم جابر أبو حسين، عم عمام شعراء السيرة، وسيد الضوي، وعزالدين نصر الدين، علي جرمون، وعبدالباسط نوح، ومحمد اليمني، وشوقي القناوي، وعنتر رضوان، ومحمد عزت آخر حبة في عنقود شعراء السيرة الهلالية.
الكنز
يتمتع ابن البلينا بحضور قوي لدى جمهور السيرة ربما لأنه اعتمد على موهبته في سرد أحداث السيرة، وظل يطور أدواته والبحث عن أساليب جديدة في تقديم السيرة تخرج من القالب المعتاد وتتواكب مع ذوق المستمعين الجدد لأحداث السيرة، ملمحًا إلى أن أمزجتهم تغيرت في الآونة الأخيرة عن الأعوام الماضية فأصبحوا يطلبون الاستماع إلى قصص العشق والغرام وحكايات السيرة المبهجة مثل الجازية والعبد منصور، وعزيزة ويونس، مرجعًا ذلك الأمر للظروف الحياتية التي ربما تكون قاسية لدى البعض فيخرج المستمع من همومه إلى بستان السيرة العطر الذي لا ينضب أبدًا.
ويرى الشاعر أن شخصيات السيرة الهلالية موجودة في حياتنا و”بنقابلها كل يوم هتلاقي صاحبك الأصيل الجدع اللى بيتسم بصفات سلامة الهلالي، والمصلحجي الندل اللى شبه دياب بن غانم، وبشوش الوجه وصاحب الخلق كما كان يونس الهلالي، برضه هتصادف الشهم العاشق اللي كان بيجسد شخصيته الأمير عامر بن درغام، اللي ترك ملكه في العراق من أجل أن يخطب ود وطفه بنت دياب”.
مضيفًا: الأنثى لم تغب عن ذاكرة السيرة ولم يغفل دورها، فوجدنا العرب بجلالة قدرهم أعطوا الثلث في الشورى للجازية بنت الأمير سرحان، لشدة مكرها ودهائها، والأم الأصيلة التي وقفت في صف زوجها في محنته مثل زبيدة مع زوجها ياسين، وهذه الشخصيات هي الوقود الذي يجعل عربة السيرة لا تتوقف عند زمن بعينه.
عشق
يلفت ابن البلينا أن عشقه لأبطال السيرة وتيمنًا بهم “أسميت ابني زيدان”، وهو ذلك الفارس الشاب زيدان ابن زيان، خاله الأسمر أبوزيد الهلالي، بالإضافة إلى “بنتي جنات”، حتى أن والدي عزت قام بتسمية شقيقي الزناتي وهو عضو مؤثر معنا في الفريق، ومعروف أن الزناتي خليفة، ملك تونس الخضراء، التي كانت قبلة العرب، كان يمثل حجر الزاوية والشخصية الأهم في سيرة بني هلال بعد الفارس المغوار أبوزيد، وشهد له الهلالي بقوته وشدة بأسه في الحروب، رغم أنهما كانا أبرز خصمان في السيرة.
وتابع: “حفل زواجي أقيم أيضًا على أنغام ربابة السيرة الهلالية وأحياه الشاعر الكبير الراحل محمد اليمني”.
“أن تكون شاعر للسيرة ذلك قدر وموهبة حباها الله للشاعر وليست اختيار كما يظن البعض”، هكذا أوضح عزت الصغير الفرق بين شاعر السيرة والفنان الشعبي، مشيرًا إلى أن الأخير لا يحتاج سوى إلى أن يكون لديه حضور عند الجمهور وحفظ كلمة من الشرق وأخرى من الغرب، بعكس شاعر السيرة الذي يحتاج إلى حفظ نحو مليون بيت من السيرة.
واستطرد: “لو حفظت ولدي الصغير زيدان موال هيقدر يؤديه مثل الفنان الشعبي الهاوي، يكفي أن منظمة “اليونسكو” قالت عن شعراء السيرة الهلالية أنهم كنوز بشرية تمشي على الأرض”.
أغاني الكف
نجاح مستحق، هكذا وصف الشاعر الذي لقبه الأهالي بدكتور السيرة الهلالية النجاحات التي حققتها أغاني الكف الصعيدي والأسواني والنوبي وصعود نجمها في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، مشيدًا بالفنون الشعبية التى لاقت ترحيبا شديدًا لدى المستمعين، وقدمها فنانو الكف وعلى رأسهم محمود سليم، أحمد عادل، وتابع “هؤلاء يقدمون فن راقي من تأليفهم بأغان تمس الواقع وتطرب المستمع، بخلاف المبتذل الذي يأتينا مع ضجة أغاني المهرجانات الموضة التي ستذهب لحال سبيلها كما ظهرت فجأة”.
الإحساس بالفخر والخوف والمسؤولية والسعادة، كلها مشاعر اختلجتني عندما قدمت أخر حفلاتي بمعرض القاهرة الدولى للكتاب في دورته الأخيرة، أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، الذي قام بافتتاحه، مضيفًا: “عندما تقدم فنك وبضاعتك أمام رئيس دولتك وفي حضور كبار الكتاب والمبدعين من جميع أنحاء الوطن العربي ماذا يتبقى لك من أحلام تنتظر تحقيقها؟”.
اقرأ أيضًا:
12 تعليقات