صور| “السَبَت” من سوق الخضار لـ”البلكونة”.. عم صابر يسرد تاريخ صناعة السلال
تصوير: منال محمود
يجلس في بدايات الصباح وحيدا يشذب أعواد من البوص، لتكون جاهزة لعمل السَبَت وغيره من السلال، منكبًا على العمل في حرفة لم يعد يعمل بها الكثير، حيث تشارف تلك الحرفة على الاختفاء بفعل الحداثة واستخدام خامات بلاستيكية، لكن عم “صابر” لا يعرف عملا غير هذه الحرفة.
وبرغم دخوله العقد السابع من العمر يتحرك بخفة ونشاط شاب في العشرينات، وترسم حرارة الشمس على وجهه الأسمر، وجروح أصابعه التي سببتها حدة أعواد البوص، ملامح عجوز مصري يعارك قسوة الأيام مصرا على هزيمتها وعدم تمكنها من حالة الرضا التي يعيشها.
ويجلس “صابر” وحوله السلال التي أبدعتها يديه غير عابئ بمن يمر أمامه من أشخاص أو سيارات تثير ضجيجا في الطريق الذي يجلس في جانب منه أسفل أحد الأبراج السكنية الحديثة.
مهنة متعبة ومعرفش غيرها
“مهنة متعبة ومعرفش غيرها”، هكذا بدأ عم صابر حديثه فيقول، أعمل في هذه المهنة منذ أن كنت في الحادية عشر من العمر، لكن الحال كان غير الحال فقد هجر الحرفة كثيرون، فمنهم من عمل في مهن وحرف أخرى، ومنهم من سافر إلى القاهرة للعمل، ولم يعد أحد من الجيل الجديد من الأبناء يرغب في تعلمها، حتى أنا لدى ابن رفض العمل معي في تلك الحرفة بحجة أنها مهنة متعبة.
وتعتبر صناعة السلال ومنها السَبَت أشبه بعملية نسج يدوي لنبات طبيعي، وهي حرفة ومهنة يدوية شعبية تم توارثها وانتقلت عبر الأجيال، ويشار إلي من يعملون في هذه الحرفة بصانعي السلال.
تاريخ صناعة السلال
لا يمكن الجزم بتاريخ بدء حرفة صنع السلال والسَبَت تحديدا، وذلك لكونها تعتمد كليا على سيقان نبات ينمو على حواف الأنهار والبحيرات والبرك، ولكون تلك السيقان مواد نباتية طبيعية فإنها نظرا لطبيعتها تبلى وتتحلل وهو السبب الذي لم يمكن الباحثين من معرفة تاريخ حقيقي يمكن اعتباره بداية لتلك الحرفة لكن بالرغم من ذلك فإن المصري القديم استخدم السلال في حفظ الطعام ونقل محاصيل الحقل من خضار وفاكهة، وفي إحتفالاتهم الدينية، وبالرغم من عدم معرفة التاريخ الدقيق لبدء المعرفة بهذه الحرفة يمكن الجزم بأن صناعة السلال واحدة من الحرف اليدوية القديمة جدا.
ويقول الأثري وليد داغر، الأخصائي في ترميم الآثار، إنه لا يمكن تحديد العصر الذي بدأت فيه صناعة السلال من الخوص على وجه الدقة لأنها من الخامات التي تتحلل ولا تبقى لسنوات طويلة، ولكن يوجد أدلة على أن صناعة السلال وجدت قبل 10 آلاف سنة وقبل صناعة الفخار، مضيفًا أن الإنسان الأول الذي كان موجودًا ما قبل التاريخ قام بنسج السلال من تلك السيقان والنباتات والأعشاب وأوراق الأشجار.
السلال والسَبَت
يشير عم صابر بيديه ويمسك بسلال انتهى من عملها، ويقول كان هذا السلال رفيق ربة المنزل للتسوق قديمًا، ولابد منه عند الذهاب للسوق لوضع كافة المشتريات من خضار وغيره، أما الآن وبعد أن أصبح الحضر وغالبية الريفيين يجدون حرجا في حمل سلال، أصبحت منتجات البلاستيك من شنط وغيرها بديلًا عن السلال.
تسبق كلمات عم صابر ابتسامة ترتسم على وجهه، ويقول لكن ربك كريم بعد ما كان السلال يستخدم للسوق “ربنا كرمه وأصبح بلكونة” أي أصبح في البلكونات ومدلى في نهاية حبل حيث تستخدمه السيدات لرفع بعض طلبات المنزل التي تريدها من الباعة الذين يسيرون في شوارع المناطق السكنية، وحتى لا تكلف النساء مشقة النزول من الأدوار العليا إلى الشارع للشراء.
ويشير إلى “السَبت” ويذكر أنه يسمى “سبت الغسيل” حيث كانت توضع فيه الملابس استعدادا لنشرها وجمعها فيه بعد جفافها، وذلك قبل ظهر الأسبتة المصنوعة من البلاستيك، ويستخدم في الريف حيث توضع فيه الخضروات واللحم ومستلزمات المطبخ من سكر وشاى وأرز ومكرونة وخلافة التي تحملها الأم إلى ابنتها العروس وهو ما يطلق عليه “العشا ” وتزيد قيمة أهل العروس كلما زاد عدد “الأسبتة” التي تذهب لابنتهم، أما في المدينة فقد حلت “الكراتين” الورقية محل الأسبتة الخوص.
حرفة صديقة للبيئة
يحتفل العالم في الخامس من شهر يونيه من كل عام باليوم العالمي للبيئة، حيث يشكل الاحتفال بهذا اليوم وسيلة من الوسائل التي يمكن من خلالها زيادة الوعي البيئي وتعزيز الاهتمام بالبيئة في جميع أرجاء العالم، واتخذ شعار يوم البيئة العالمى للعام الماضي “التغلب على التلوث البلاستيكي”، ومن نافلة القول فإن السعي لاستخدام مواد صديقة للبيئة ولاتسبب ضررا للإنسان هدف يجب تشجيعه، لذلك على الجميع مؤسسات وأفراد أن يحفزوا الحرف والصناعات الصديقة للبيئة والتي من ضمنها حرفة صناعة السلال والسَبَت، حيث إنها آمنة بشكل كامل ولا تنتج أيا من الأضرار الصحية والبيئية التي تسببها المواد البلاستيكية.
أرقام ومؤشرات هامة
صرح خالد أبو المكارم، رئيس شعبة البلاستيك باتحاد الصناعات، وذلك خلال كلمته بمؤتمر البتروكيماويات الأول الذي عقد عام 2018 بأن حجم الاستهلاك الخاص بالمنتجات والخامات البلاستيكية في السوق المصري يبلغ حوالي 3.5 مليار دولار سنويا.
كما قال حامد موسى، رئيس الجمعية المصرية لمصنعي ومصدري البلاستيك في تصريح سابق له، أن عدد المصانع التي تعمل في تصنيع المنتجات من البلاستيك والمسجلة رسميا في القطاع قد بلغ في عام 2018 ثلاثة آلاف مصنع بالإضافة للمصانع غير الرسمية وغير المسجلة.
وتشير المهندسة نجوى المنياوى، مديرة مركز تكنولوجيا البلاستيك بوزارة الصناعة، إلى أن حجم النفايات وصل في مصر إلى 16 مليون طنا في العام، حيث يمثل حجم مخلفات الأكياس البلاستيك منها 6%، أي ما يعادل تقريبًا 970 ألف طن سنويا، وأن مصر سنويًا تستهلك ما يعادل الـ12 مليار كيس من البلاستيك، موضحة أن تلك الأكياس البلاستيكية تكون غير قابلة للتحلل وبالتالي ملوث قوي للبيئة.
وفي نفس السياق يؤكد الدكتور حسام علام، مدير برنامج النمو المستدام بمركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا “سيدارى”، أن تكلفة الأكياس البلاستيكية في مصر يبلغ حوالي من 2 إلى 2.5 مليار جنيه، وذلك نظرًا لاستيراد المادة الخام التي يتم تصنع الأكياس البلاستيكية منها من الخارج.
تقنيات صناعة السلال
تعتمد حرفة صناعة السلال على تقنيات وتكنيك واحد، فما يقوم به عم صابر في الفيوم عندما يصنع السلة أو السَبَت من سيقان نبات البوص هي نفسها التقنية والتكنيك الذي يستخدمه حرفي آخر في المنوفية أو أسوان أو الدقهلية.
ويقوم عم صابر بشراء الكمية التي يحتاجها من البوص الذي يستخدمه للعمل بنقعه في الماء حتي يصير طيعا لينا يسهل التحكم فيه، ويحافظ على أعواد البوص لتكون رطبة أثناء عمل السلة أو السَبَت.
ولا يحتاج صانع السلال إلي أدوات كثيرة فقط يستخدم سكين حادة، وقطعة خشب لها مفرغة تسمى “فلاقة” حيث يمكنها فلق عود البوص إلى أربعة أو ثلاث شرائح.
تبدأ عملية صنع السَبَت من تقشير أعواص البوص بالسكين لإزالة أوراق النبات التي جفت والتصقت به، ثم تقسيم الأعواد إلى شرائح صغيرة بواسطة السكين أو الفلاقة، ويبدأ تشكيلها حسب المنتج المطلوب.
ويتبع عم صابر في عمل السلال طريقتي النسج أو التضفير، حيث تكون قاعدة السلة وهي ما يطلق عليها “البدو” أي بداية السلة أو السَبت قاعدة، والسداوة المكونة من دعائم يتم لف البوص حولها وتشكيل السبت بالحجم والنوع المقصود.
وتتكون قاعدة السلة من عدد فردي من البرامق “الدعامات” التي تتقاطع في وسطها، ويتم تمرير شرائح البوص من تحتها وفوقها، ومع استمرار تلك الطريقة تتشكل جوانب السلة، ويتم ثني نهايات البرامق فوق آخر صف بإدخالها بين الناسجات لصنع “الودن” التي يتم حمل السَبَت أو السلة منها.
صناعة السلال في محافظات مصرية
تشتهر العديد من محافظات مصر بحرفة صناعة السلال نظرا لغني تلك المحافظات ذات الطبيعة الزراعية والنهرية بوجود نبات الخوص “البوص” الذي ينمو على جوانب وحواف الترع والبرك والبحيرات، وتعتبر قرية “كمشيش” في محافظة المنوفية، موطن إنتاج السلال بالمحافظة، كما تشتهر النوبة غرب محافظة أسوان بإنتاج سلال ذات شهرة تجاوزت المحلية، أيضا تعد مدينة ميت سلسيل في محافظة الدقهلية من الأماكن التي تنتج سلال متميزة من “البوص” بأشكال مختلفة مثل التي تستخدم في وضع الزهور.
يتهافت التجار على شغلي
يضحك عم صابر ويقول سعر “السَبَت” أو “السلة” كان لا يتعدى الـ5 تعريفة، أما الآن فأصبح سعره 45 جنيهًا، ويكمل: “مهنتنا مفيهاش تجديد لأن الخامة لا تصلح إلا لصناعة السلال والأسبتة فقط”، وهناك من يغش في هذه الحرفة ويستخدم خامات ضعيفة من البوص، لكنى أخاف الله ولا أعمل بهذه الخامات، لذلك يتهافت التجار على شغلي لجودته.
ولأن هناك أيضًا قلة في إنتاجه، فقد كان يوجد على الأقل يوميًا خمسون سبت معروضة في محلات التجار، أما الآن لا يتعدى المعروض عشرة أسبتة فقط، ولذلك يذهب بعض التجار إلى القاهرة لإحضار شغل من هناك، ولكن يظل ما نصنعه في الفيوم أفضل ويمتاز بالمتانة والجودة.
وحسب ما يقول عم صابر فإنه ينتج في اليوم خمسة أسبتة فقط، وهذا بالطبع أقل مما كان ينتجه في السابق حيث كان يمكنه عمل عشرة أسبتة في غضون بضع ساعات.
تركت عم صابر وسط كومة من البوص والسلال من حوله وعلى وجهه ابتسامة تنم عن رضا وسماحة وهو يردد “ربنا يصلح حالك وحالنا جميعًا بحق الصباح الفتاح قادر يا كريم”.
تعليق واحد