صدمة مذبحة أبي حزام: (3) زواج المدنس بالمقدس
كيف يتورط شاعر رقيق في سفك الدماء، كيف يقوم مرهف الحس بحمْل بندقية آلية وإطلاق الرصاص في اللحم الحي؟، وكيف ندعي الفروسية والشهامة ونحن نقتل الأبرياء والنساء باسم الشرف؟! – مذبحة أبي حزام-
المشكلة في الحقيقة أكبر من ذلك السؤال، وعلينا في البداية أن نفرق بين نوعين من الجرائم، الأول هو الجرائم العامة، والآخر هو الجرائم القبلية، الأولى ترتبط بأفراد، أو بفئة منحطة وشاذة أو منحرفة، والأخرى ترتبط بجماعة وثقافة تقوم على مبدأ الشرف، الأولى مدانة عند الجميع، والأخرى مدانة على مستوى الدولة لكنها مباركة على مستوى الجماعة، الفاعل في الأولى شخص منحط وفي الأخرى إنسان فاضل يعتقد أنه يفعل الصواب، الأولى ـ باختصار شديد ـ مدنسة، والأخرى مقدسة، ومع وجود القداسة يكتسي كل شيء بهالة الجلال والجمال.
الثقافة القبلية
إن وجود الملكة الشعرية، وامتلاك مهارة إبداع القصائد الجيدة في حد ذاته لا يعني التعارض مع الثقافة القبلية، ومازالت المرحلة القبلية في حياتنا العربية هي الأم الرسمية للشعر العربي، فكل شعراء العصر الجاهلي قبليون، وقد امتد تأثير القبلية في الشعر إلى ما بعد ظهور الإسلام، وظهور الدولة أو الإمبراطورية التي تمتد من الخليج إلى المحيط، وحتى هذه اللحظة، يمكن أن نجد عند أحدث الشعراء سمات قبلية.
لاشك أن القبلية تحتوى على قيم إنسانية عظيمة، فمكارم الأخلاق معروفة من قبل ظهور الدول، وقد جاءت الدولة لتخليصنا من عيوب القبلية، والانطلاق بالإنسانية إلى آفاق أرحب، المشكلة في القبلية، هي تقديس القبلية، في التعصب، والتمييز العنصري، وعدم قبولها للوعي النقدي، المشكلة في تعارضها مع قيمة المواطنة، أو مع مفهوم الدولة.
لقد كان الصعيد قبليا في ظل منظومة من القيم القبلية الإنسانية النبيلة رغم مساوئ القبلية، ومازال الصعيد قبليا في ظل انكسار تلك المنظومة أو تدميرها المتوالي، وهذا يعني أن القبلية التقليدية شيء، والقبلية الحديثة شيء آخر، القبلية الحديثة أكثر سوءا وتوحشا، لأنها لا تقوم على مبدأ “الشرف وحده” وتسمح بذلك التزاوج الغريب بين المدنس والمقدس.
الرجولة والزعامة
شاعرنا المتورط في المذبحة يتحدث كثيرا في يومياته عن المفاهيم القبلية مثل مفهوم “الرجولة” ومفهوم “الزعامة” ومفهوم “الفروسية”، وحديثه يكشف مدى استحواذ تلك المفاهيم على تفكيره، كما يكشف مدى تقديره لها واحتفائه بها إلى درجة التقديس، وهو يذهب إلى أن الرجولة منحة إلهية، لتحقيق قيم إلهية يقول:
“هناك رجال أختصهم الله سبحانه وتعالي بكونهم رجالا، حتي تظل في الأرض قيم العدل والخير والحب والسلام كما أرادها هو”.
ويكتب في 3 فبراير 2016 ليميز بين نوعين من القتلة، القاتل السبع والقاتل الذئب، فالسبع “لا ينقض علي فريسة ضعيفة، بل لا يأخذ إلا القوية السليمة ومن وسط قطيعها، ولكن الذئب لا يأكل إلا المغدورة المنفردة والوحيدة، وكذلك الرجال، الرجل السبع حر الطباع والعقيدة والمبدأ، لا يغدر أو يخون أو يستقوي علي ضعيف أو يتباهى علي محروم، ولا يواجه إلا طريدة ضارية مستبدة”.
المشكلة التي تكشفها مذبحة أبي حزام هي سقوط الحدود الفاصلة بين السبع والذئب، في تداخل المدنس مع المقدس وامتزاجهما معا، فباسم الثأر المقدس يتم قتل أبرياء لا ذنب لهم، وباسم العدالة يتم قتل عشرة أفراد مقابل فرد واحد، لقد انقلبت القبلية على نفسها، وراحت تبدع قبلية أسوأ.
شاعرنا المتورط في المذبحة يلمس تلك المتغيرات الأليمة فيكتب في يومياته بتاريخ 31 مارس 2017:
“قريتي هنا في صعيد مصر مريضة، تكذب وتصدق كذبها، تدعي وتقسم أنها صادقه، تقيم الصلاة وتصوم رمضان وتحج البيت وتخرج الصدقات كما ينبغي وأكثر، ولكن للأسف ليس لوجه الله ولكن لوجوه أخرى.. قريتي تكره الحق وتبغضه، وتحب الباطل وتقربه وتعليه، تنبذ رجالها وتنشد خصيانها وجبنهم.. ترفض الخير والحب والجمال، وتقبل بالشر والكراهية والقبح، بلادنا تتحول يا سادة وكأنها تُمْسخ وتتشيطن وتتأبلس”.
يوميات الشاعر
ومن أشد التحولات التي يؤكد عليها الشاعر في يومياته، تلك التي تتعلق بمفهوم الرجولة والفروسية، و الزعامة الذي انتقل من الرجل الذي يحرس قيم القبيلة، إلى الرجل الذي يملك المال، وقد كتب في 25 يونيو 2016، ملخصا قيم القبيلة كما يجسدها مفهوم الفارس، يقول:
” الفارس هو الرجل الذي يحترم رجولته، فلا يستطيع الرجوع في أمر ولو كان الثمن دمه وحياته، ولا يستطيع الرجوع في وعد قطعه علي نفسه، ولا يملك إلا أن يكون شهما ومعطاء حتي مع هؤلاء الحثالة أصحاب المصالح.
الفارس يحس بالحرج علي أهله وجاره وبلدياته، بل علي جنسه ودينه، لا يكذب أبدا لأجل أن يداري خسته وجبنه وضعفه وهوانه وقلة حيلته، ولا يدعي الشجاعة والبطولة وهو جبان كذاب، ليقول للناس أنه أصيل ومن أهل نسب كريم.
الفارس لا يخشى في الحق لومة لائم، ويقول للجبان أنت جبان في عينه، ولا يتقدم على الرجال إلا إذا فعاله قدمته على الرجال، يفعل كل ما هو شجاعة وبطوله وزعامة، لا يتقدم الرجال لأنه يملك خمسين فدانا، بينما فعاله كلها تدل على خسته وجبنه، وتفضيله للمال حتى على الشرف والكرامة، ويدعي بين الناس أن من لا يملك المال لا يحق له تقدم الرجال نحو الحق والعدل. وهو يود بذلك إزاحة الرجل الشريف الكريم العزيز بفعاله البطولية والعظيمة، وليس بأمواله وكذبه وفجوره وقلة حيلته”.
نحن هنا أمام عالم قبلي جديد يتمحور حول قيمة “المال” لا قيمة “الشرف” وهذا تحول كبير، ومع ذلك تتصالح القبلية مع تلك المتغيرات، إنها تستوعب وتستوعب، لكنها لا تظل كما هي.
مذبحة أبي حزام تجعلنا نراجع الصورة النمطية للقرية، ومفهوم القبيلة، ونحن للأسف ننظر إلى القرية المصرية بوصفها كيانا جامدا، يحمل نفس الصورة التي كان عليها منذ قرون، لكن القرية كيان متحرك، يتفاعل مع الظروف والأحداث، وقد كانت تلك الأحداث ثابتة في القرون السابقة فكانت القرية صورةً شبه كربونية من قرى مصر القديمة، لكن الأوضاع تغيرت الآن، وصارت القرية تتفاعل مع مفردات العالم الحديث وتتأثر بها، وهكذا اختلفت صورة القرية عن صورتها التقليدية وصارت أشبه بالمدن الصغيرة أو المناطق العشوائية في المدن، حيث ظل تخطيطها كما هو، بينما اختفت البيوت الطينية وارتفعت البيوت الخرسانية الممتلئة بالأجهزة الحديثة، وهذه التغيرات تتفاعل مع ثقافة القرية، وتؤثر على مفهوم القبلية، والطبيعي هو انكسار القبلية أمام طوفان تلك المتغيرات الجديدة، خاصة مع وصولنا إلى ثورة المعلومات، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، لكن ما حدث هو العكس، تطورت القبلية وتحورت، وصارت سلبياتها أشرس، وأكثر خطرا من القبلية في صورتها القديمة.
اقرأ أيضا
مذبحة أبي حزام: سقوط الشاعر وسطوة المكان (2)
تعليق واحد