«صبري موسى» في أوراق قديمة منسية: خمسة وعشرين قرشا!

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» استكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية، ليكتبوا بعضا من ذكرياتهم القديمة المنسية أو ورقة من سيرتهم الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب نموذجا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات حتى تصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق الروائي الراحل «صبري موسى».
تاريخ هذه الورقة يعود بنا إلى عام 1950. كنت قد تخرجت حديثا وعينت مدرسا للرسم بإحدى المدارس في قرية تبعد ثلاثة عشر كيلو مترا عن مدينة المنصورة. بدأت عملي بالفصول الأولى والثانية والثالثة، وقرب نهاية العام الدراسي تغيب مدرس المعلومات العامة، فقرر الناظر أن أحل محله. وكان في الفصل تلميذ يجلس في نهاية الصفوف بجوار النافذة. كان طويلا عريضا، تبدو على وجهه علامات الغباء الشديد، بينما كانت ملابسه تدل على أن مكانة أهله في القرية لها اعتبارها.
بعد أن دخلت الفصل، لم ينقطع هذا الولد عن طلب الذهاب إلى دورة المياه. كان يرفع أصبعه ويصيح بصوته المتسلخ:
- أفندي.. أفندي .. أروح اتفسح!
فكنت أتركه يروح “ليتفسح”، لكنه ما يكاد يعود وتمضي على عودته بضع دقائق حتى يعاود رفع أصبعه ليطلب الخروج من جديد. وقد عجبت لكثرة ذهابه إلى دورة المياه، ورجحت أنه من الجائز أن يكون مريضا، فتركته ومضيت في التدريس للأولاد. ثم حدث أن نظرت ناحيته فجأة فوجدته في جلسته بجوار النافذة يصوب نبلة إلى الشجرة التي تطل على الفصل من الحديقة. فصحت فيه:
- أقف يا ولد..
وبوغت الولد فحاول بارتباك أن يخفي النبلة في ملابسه، وارتسم على سحنته بكاء كئيب وهو يجيبني في توسل:
- موش أنا والنبي يا أفندي
فصرخت فيه بغيظ:
- اسمك إيه؟
- زكي محمد بيض!
- بيض!!
- موش أنا والنبي يا أفندي، ده جدي هو اللي اسمه بيض!
وضج التلاميذ في الفصل بالضحك فصرخت فيهم أطلب الصمت، وذهبت إلى الولد أحاول أخذ النبلة منه، فوضعها في الدرج وجلس عليه ليمنعني من فتحه. وفاض بي الغيظ فصفعته ونحيته عن الدرج وفتحته فوجدت بداخله النبلة… وبضعة عصافير جريحة، بعدد المرات التي كان الملعون يخرج فيها ليتفسح! وأخذت أضرب الولد يومها بالعصا على يديه، بينما يرتسم على وجهه ذلك البكاء البليد الكئيب دون أن تسقط من عينيه دمعة واحدة، أو حتى آه.. بل كان يردد باستمرار:
- موش أنا والنبي يا أفندي.. ده جدي هو اللي اسمه بيض!
***
وفي اليوم التالي لم يحضر الولد إلى المدرسة، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، ثم أخبرني أن العمدة غاضب مني جدا، وشيخ البلد حاقد علي، وأخو شيخ البلد الذي هو والد هذا الولد يتمنى أن يراني ليفرغ في قلبي رصاص بندقيته.
والسبب أن الولد قال لهم إني ضربته لأن جده اسمه بيض! ولم تفلح أبدا كل محاولاتي لإقناع الناظر وأهل الولد بأنه كان يصيد العصافير من الفصل، وأنني ضربته لهذا السبب. وظلوا جميعا على إصرارهم بأنني ضربته لأن جده اسمه بيض. وقد قال لي الناظر يومها في ضيق:
- وأنت مالك يا أخي اسمه بيض، اسمه كرنب، ما تعلمه الرسم وبس، هو أنت حتناسبه؟
كان ذلك هو آخر عهدي بالعمل في التدريس، فقد حملت حقيبتي وغادرت القرية إلى القاهرة دون أن أقدم استقالتي من وزارة التعليم. وحتى هذه اللحظة لم أقدمها، وقد فصلتني الوزارة بعد ذلك بسنتين لانقطاعي عن العمل.
***
وكانت محاولتي في القاهرة أن أعمل في الصحافة، فقد كنت أيامها أقرأ كثيرا وأكتب كثيرا من القصص والمقالات. وكنت من قراء الصحفي الكبير كامل الشناوي في ذلك الحين. فكتبت له رسالة أطلب منه فيها أن يتيح لي فرصة العمل الصحفي. ووضعت الرسالة في مظروف وأرفقت بها نماذج مما أكتبه، وذهبت إلى مكتبه في جريدة الأهرام. فمنعني ساعي مكتبه من الدخول وأخذ مني المظروف وأدخله له. وتركني في الخارج انتظر على أحر من الجمر وأنا أشم رائحة الحبر وأسمع دوي المطبعة وأحلم باليوم الذي أجلس فيه على مكتب لأكتب وسط هذه الضجيج.
وبعد قليل خرج الساعي وأعاد لي المظروف، ففتحته بلهفة فوجدت به إنتاجي ورسالتي كما هي، مضافا إليها ورقة من فئة الخمسة وعشرين قرشا! وأحسست أنني غارق في بحر من عرق الخجل الذي أخذ ينبثق من جسدي بغزارة. وأخذت المظروف بما فيه وغادرت دار الأهرام وأنا أغلي من الغيظ.
***
وقد مرت الأعوام بعدها واشتغلت بالصحافة، ونشرت لي الصحف والمجلات قصصا ومقالات، وقابلت كامل الشناوي كثيرا. وتحادثنا كثيرا دون أن أذكر له هذه الحكاية. وفي صيف عام 1958 أصدرت كتابي “حادث النصف متر”. وكان ثمنه عشرة قروش، وأهديت نسخة منه للأستاذ كامل الشناوي وقلت له في الإهداء: “يبقى لك عندي خمسة عشر قرشا”. ولم يفهم كامل الشناوي ما أقصده… وحينما أصدرت “حكايات صبري موسى” بعد ذلك بعام وكان ثمنه خمسة عشر قرشا، أهديت له نسخة وقلت له في الإهداء: “نبقى كدة خالصين”.
وحكيت له الحكاية.. فأغرق كامل الشناوي في الضحك وأخذ يقسم لي أنه أكيد لم يقرأ شيئا مما قدمه لي الساعي في المظروف، وأضاف قائلا:
- لو كنت قريت كنت أرسلت لك جنيه.. موش خمسة وعشرين قرش بس!
18 مارس 1965