شوارع الفن في القاهرة (1): شارع محمد علي للصحافة والغناء والطرب

عندما بدأ الخديوي إسماعيل في تجميل وتحسين العاصمة، أنشأ كثيرا من الشوارع والميادين مثل شارع كلوت بك، ميدان الخازندار، ميدان قنطرة الدكة، وميدان الأوبرا. ومن أهم ما أنشئ في عصر إسماعيل هو شارع محمد علي. كان هذا الشارع قبل إنشائه يتكون من ترب المناصرة، وهي مقابر واسعة، حيث دارت مناقشات دينية حول شرعية إزالة هذه المقابر. وفي النهاية، تغلب الرأي القائل بجواز ذلك، وصدر الأمر بإزالتها. فتم نقل رفات عظام الموتى إلى جهة الإمام الشافعي، وبعضها وضع في حفرة بُني عليها مسجد يُعرف بمسجد “العظام”.

وكان بقية الشارع يتألف من حي يسمى “حي غيط العدة”، الذي كان يشتمل على مساجد، وزوايا، وأضرحة، وتكايا وحمامات وغير ذلك. كان يسكنه عدد كبير من الأهالي في أزقة ضيقة، وقد بلغ عدد المساكن التي أزيلت حوالي 800 منزل بين كبير وصغير، وازداد حجم الحي الذي تم إزالته بالكامل. بعد تخطيط الشارع، عرضت الأراضي على الجانبين للبيع، فاشتراها الناس وبنوها مساكن، وكان المتفق عليه أن تُبنى لهذه المساكن عقود وبوائك لحمايتهم من حرارة الشمس صيفا ومن المطر شتاءً، مما جعل الشارع مكانا جذابا لزيادة رغبة التجار في استئجار الدكاكين الموجودة به.

ثم دكت أرضه بالرمل والأحجار وأضيئت بالمصابيح، ليصبح بذلك من أحسن الشوارع وأبهجها. قال علي مبارك عنه: “إن هذا الشارع من أعظم ما عمل بالقاهرة، وذلك لتنقيته الهواء من الروائح الكريهة التي كانت تسبب الأمراض لسكان الحارات والعطف، فأصبح الشارع عالي القيمة مرغوب السكن”.

شارع الصحافة والأدب

وقدر لهذا الشارع أن يكون في وقت من الأوقات مقرا للحركة الصحفية والسياسية والفكرية والفنية في مصر. من الصحف التي اتخذت مكانا لها فيه: “المؤيد”، “الفلاح”، “الأفكار”، “الدستور”، “المحروسة”، و”الحال”، ومن المجلات: “الصاعقة”، “الخلاعة”، “الأرغول”، “حمار منيتي”، “النهج القويم”، و”هدى الإسلام”. كما أقامت مكاتب الخطاطين، ومحلات الزنكوغراف، والتجليد، والمطابع، والمكتبات. لذا كانت الحركة في شارع محمد علي لا تهدأ طوال النهار وإلى ما بعد منتصف الليل.  فترى شباب الأزهر، إلى جانب طلبة مدرسة الحقوق، يترددون على دور الصحف وندوات الأدباء. وها هو أحمد تيمور باشا يسير من منزله في درب سعادة بحثا عن كتاب يشتريه أو مخطوط يقتنيه من شارع محمد علي، بينما كان محمد توفيق البكري يقصد ندوة الشيخ علي يوسف في صحيفة “المؤيد”.

أما إبراهيم بك المويلحي، مؤلف كتاب “ما هنالك” ومؤسس جريدة “مصباح الشرق”، فكان يسكن في شارع محمد علي ويغادر داره كل يوم إلى أحد المقاهي أو الحانات ليجتمع مع أصدقائه. كما كان مصطفى لطفي المنفلوطي، أحمد نسيم، حافظ إبراهيم، أحمد حسن الزيات، المازني، العقاد، عبدالرحمن شكري، محمد حسين هيكل، عباس حافظ وغيرهم من رجال القلم يروحون ويجيئون باحثين ودارسين.

وفي نفس الشارع كان يسير الشاب الضرير “طه حسين” يتحسس طريقه إلى صحيفة “الجريدة” حاملا مقالا أو قصيدة. وهكذا كانت رائحة الأدب والعلم والفن تفوح من جنبات الشارع الذي يبدأ بميدان العتبة إلى ميدان القلعة. كان شارع محمد علي بمثابة الجامعة التي تخرج فيها كبار الأدباء والشعراء والصحفيين والخطاطين وعمال المطابع والتصوير.

***

وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان شارع محمد علي هو ترمومتر الحياة الثقافية والفنية في مصر. وأقدم صحيفة اتخذت مقرها في شارع محمد علي هي “الفلاح” بتخفيف اللام، لصاحبها سليم الحموي، وصدر العدد الأول منها في 17 مايو 1886، وكانت إدارتها أمام سوق الخضار.

كانت الصحيفة تشن حملات عنيفة ضد الاحتلال البريطاني، حتى أن مجلس النظار أصدر قرارا بتعطيلها في يونيو 1891. وكان من الذين حرروا فيها: المنفلوطي، وشبلي شميل، وفرح أنطون وغيرهم. ومن المجلات التي كانت تحرر وتطبع في شارع محمد علي: “حمار منيتي”، وهي مجلة هزلية صدرت عام 1896 لصاحبها محمد توفيق، وكان ضابطا بالجيش المصري في السودان. عُرفت المجلة بالنكتة اللاذعة وتعتبر من أوائل الصحف الهزلية في مصر.

وهناك العديد من الحوادث الصحفية والمعارك  التي شهدها هذا الشارع. ففي منتصف نوفمبر 1897، اهتز شارع محمد علي اهتزازا عنيفا عندما ظهرت قصيدة في هجاء الخديو عباس جاء فيها:

قدوم ولكن لا أقول سعيد

وعود ولكن لا أقول حميد

أعباس ترجو أن تكون خليفة

كما ود آباء ورام جدود

***

وكان ناظم القصيدة هو مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي نشرها أحمد فؤاد صاحب مجلة “الصاعقة”، وطبعت بمطبعة الخيامي بباب الخلق، وهي القضية التي عرفت بـ” قضية السفهاء”، وذكر فيها اسم توفيق البكري، وانتهى الأمر أخيرا بتقديم المنفلوطي وأحمد فؤاد إلى المحاكمة.

وفي 23 يونيو 1906، اجتمع في منزل “محمود سليمان باشا” نحو ستين من الأعيان وبعض الموظفين، وقرروا إنشاء شركة لإصدار صحيفة أطلقوا عليها اسم “الجريدة”، واختاروا لها مقرا في شارع محمود سامي البارودي، وكان لا يبعد سوى خطوات عن شارع محمد علي. كما قرروا تأسيس حزب سياسي هو “حزب الأمة”. وكان من بين الحاضرين: عمر سلطان، وعبدالرحيم الدمرداش، وإسماعيل أباظة وأحمد لطفي السيد الذي تولى رئاسة تحرير صحيفة “الجريدة”.

كانت سياسة حزب الأمة مهادنة الإنجليز والتودد لهم. جمع لطفي السيد بدار الجريدة نخبة من أدباء هذا العصر، وعقد صالونا دوريا بمقر الجريدة. بدأ الدكتور هيكل حياته الأدبية في هذا الصالون، كما وجد الشاب طه حسين طريقه إليها. ومع سياسة الصحيفة الموالية للإنجليز، لم تلق “الجريدة” رواجا بين طبقات الشعب، وكان لطفي السيد لا يجرؤ على المرور في شارع محمد علي، وخاصة بعد أن اعتدى عليه بعض الشبان بالقرب من حارة غيط العتبة، حتى كاد أن يفقد حياته. لم يكن بوسع أحد أن يحمل نسخة من الجريدة ويسير بها في شارع محمد علي خاصة بعد اشتراك لطفي السيد في حفل وداع اللورد كرومر وكتابة مقال يمدحه.

الترام في شارع محمد علي

في الأول من أغسطس 1896، شاهد سكان شارع محمد علي الترام يسير في شارعهم لأول مرة. ولم يكن الخليج المصري قد رُدم، فكان الترام يمر على قنطرة باب الخلق. وقد ركب حسين فخري باشا، ناظر الأشغال وقتها، ومعه بعض كبار موظفي النظارة، قطارا أقلهم من أبي العلا إلى العتبة ثم إلى القلعة. واصطف الناس على الجانبين ليشاهدوا أول مركبة تسير في العاصمة بقوة الكهرباء، والأطفال يركضون وراءها مئات وهم يصرخون: “العفريت.. العفريت”.

وفي سنة 1897، ردم الخليج المصري وظهر ميدان باب الخلق إلى الوجود. وبينما كان صبي يعبر شارع محمد علي، دهمه الترام فمزقه إربًا. توقفت الحركة وتعطل المرور، وجاء مدير شركة الترام بنفسه، وأقبلت الشرطة للتحقيق. بدأ سكان الشارع في لعن الترام الذي عكر عليهم حياتهم وأقلقهم بصوته المزعج، وجعلهم معرضين للخطر في كل حين.

نظرا لقرب محكمة الاستئناف من شارع محمد علي، فقد اتخذ العديد من المحاميين مكاتبهم فيه. وقد استأجر سعد زغلول دكانا بشارع قنطرة الأمير حسين وزاول فيه أعمال المحاماة.

المقاهي والمراقص

كانت الحكومة قد منعت رقصة البطن وأغلقت المقاهي والمراقص التي خالفت أمر المنع، إلا أن الراقصات رفعن قضية أما المحكمة. وقد انعقدت هيئة المحكمة في 18 نوفمبر 1895، وبعد مناقشات ومداولات، أصدرت حكما قضائيا بعدم اعتبار رقصة البطن التي تزاولها الراقصات المصريات في المقاهي العمومية من المخالفات. وقالت إن هذا النوع من الرقص فن من الفنون التي ترتزق منها بعض النساء. وقد ترتب على هذا الحكم أن كثر عدد الراقصات بشكل هائل. بما أن أماكن الرقص كانت جميعها في حي الأزبكية، كان من الطبيعي أن تسكن الراقصات بالقرب من أمكان عملهن. لم يجدن خيرا من الحواري المتفرعة من شارع محمد علي، فاجتمع عدد منهن واستأجرن منزلا يقمن فيه مع عدد من الفتوات لحمايتهن.

اتخذ متعهدو الأفراح وإحياء الليالي أماكنهم في شارع محمد علي، وجمعوا في محلاتهم أدوات الطرب وفرق الموسيقى، وكانوا يؤجرون الملابس لمن يريد ذلك من الرجال والنساء. ومن أشهر راقصات شارع محمد علي كانت “زوبة الكلوباتية”، وكانت أشهر من رقص بالشمعدان. وكان يحرص على رؤيتها أكابر القوم وقتها من المصريين والأجانب. ربحت أموالا طائلة حينا من الزمن، ثم انتهى بها الأمر إلى أن تموت فقيرة معدمة.

راجت سوق الدعارة السرية في شارع محمد علي بشكل كبير، خاصة فترة الحرب العالمية الأولى. كما ذكر “محمد سيد كيلاني” في دراسته عن شارع محمد علي: “أن العصابات كانت تخطف الفتيات القاصرات وترغمهن على مزاولة البغاء، فكثر اختفاء الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين السادسة عشر والثامنة عشرة. ولم تكن نشرة إدارية تخلو من بعض الفتيات المتغيبات. في شهر مايو 1915، تمكنت خمس فتيات من الإفلات من أيدي إحدى العصابات والعودة إلى منازلهن. وكانت عودتهن مفتاحا في يد رجال البوليس، وتم القبض في حينها على عصابة كونت للاتجار في الأعراض، وكانوا يبيعون الفتيات للقوادين والعايقات”.

دار الكتب تنتقل إلى شارع محمد علي

بدأت دار الكتب بالطابق الأرضي بسراي الأمير “مصطفى فاضل باشا”، شقيق الخديو إسماعيل، بدرب الجماميز بجوار ديوان المدراس. وأتيح الانتفاع بالكتبخانة لجمهور القراء في يوم 24 سبتمبر 1870 كأول دار للكتب وأقدم مكتبة وطنية تنشأ في الشرق الأوسط في العصر الحديث. وعندما ضاق الطابق الأرضي بسرايا مصطفى فاضل بمجموعات الكتبخانة، وخشي من تسرب الرطوبة إلى المخطوطات، ومع تزايد رصيد المقتنيات، أصدر الخديو توفيق عام 1895 مشروعا لبناء مكان واسع يليق بحفظ ما فيها من ذخائر. ولم ينفذ المشروع سوى في عام 1899 في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، الذي وضع حجر الأساس للمبنى الجديد في ميدان باب الخلق، وتم افتتاحه للجمهور عام 1904.

وازدادت مكانة شارع محمد علي العلمية بعد أن تم إنشاء دار الكتب فيها، وألحق بها متحف الآثار الإسلامية. وقد كانت الأرض التي أقيم عليها الدار فيما مضى قصرا يملكه محمد ثابت باشا، ناظر الأشغال في عهد محمد علي. ثم اشترته الحكومة وجعلته مقرا لمحكمة الاستئناف سنة 1900، هدم القصر وتقرر بناء دار الكتب في موضعه. نُقلت إليها الكتب من مكتبة درب الجماميز. وكان موظفو الدار يختارون من الأدباء، وقد تولى وظيفة المدير شخصيات أدبية لامعة مثل أحمد لطفي السيد، وعبدالحميد أبوهيف، ومنصور فهمي، وتوفيق الحكيم، ومن الأدباء الذين شغلوا وظائف بالدار: حافظ إبراهيم وأحمد نسيم وأمين الخولي.

مقاهي شارع محمد علي

ومن أدباء شارع محمد علي: كامل الكيلاني، الذي كان يجتمع في كازينو الحلمية مع بعض الأدباء مثل أحمد نسيم، وأحمد الزين، ومحمود أبو الوفا، والخطاط الموهوب سيد إبراهيم. وكذلك كان كازينو طلعت بباب الخلق ملتقى لبعض الأدباء والصحفيين، ومنهم حسين شفيق المصري وأحمد رامي.

كذلك “قهوة دار الكتب” المجاورة لمبنى دار الكتب، وهي موجودة حتى الآن بصورتها القديمة ولم تتغير. كان يجلس عليها بشكل دائم  “حافظ إبراهيم” عندما كان يعمل وكيلا لدار الكتب، حتى أنها اتخذ منها مكتبا بديلا عن مكتبه بالدار. فكان أي زائر يريد مقابلته يخبره العاملون أن حافظ إبراهيم جالس على مقهى دار الكتب. وهي مقهى جلس عليها معظم أدباء ذلك العصر، ولم يقتصر روادها على الأدباء بل المطربون أيضا وفرقهم المسرحية.

وظل شارع محمد علي فترة ليست بقليلة شارعا للصحافة والغناء والطرب. وشهد الكثير من الحوادث والنوادر والشخصيات البارزة في تاريخ مصر. وليس ما ذكرناه سوى القليل من الكثير مما يُحكى عن شارع محمد علي.

اقرأ أيضا:

قاهرة فتحي رضوان (1): المدينة من نافذة شارع

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر