«شنطة سفر»: ممشى أهل صربيا (2-3)
صيف 2021: تحضر ابنتي أوراقها للسفر والاشتراك في ورشة باليه ببلجراد. ورفضت أمينة تماما أن أسافر معها (ومعاها حق). فوعدتها أنها لن تراني هناك إلا لو أرادت. وخططت لنفسي هذه المرة كيف أريد أن “أعيش” بلجراد. وكان لابد أن “أذاكر” المدينة التي تعتبر أكبر مدينة في صربيا وتقع عند التقاء نهري سافا والدانوب ومفترق طرق سهل بانونيا وشبه جزيرة البلقان. عدد سكانها أقل من 2 مليون وهي ثالث أكبر المدن على نهر الدانوب. واحدة من أقدم المدن المأهولة في أوروبا والعالم وواحدة من أهم ثقافات ما قبل التاريخ في أوروبا.
غزاها الرومان وأصبحت مدينة رومانية في القرن الثاني. وتناوبت عليها الإمبراطوريات إلى أن غزاها العثمانيون في القرن السادس عشر. انتصرت المقاومة أول القرن التاسع عشر، وبعدها انضمت الأراضي النمساوية المجرية السابقة وأصبحت جزءًا من المملكة الجديدة من الصرب والكروات والسلوفينيين بعد الحرب العالمية الأولى، وصارت بلجراد عاصمة يوغوسلافيا منذ تأسيسها عام 1918، وحتى تفككها عام 2006.
و”جوجل بيقول” إن بسبب موقعها الاستراتيجي خاضت المدينة معارك 115 حربًا ودمرت 44 مرة، وتعرضت للقصف والحصار مرات ومرات ومرات. استقبلتني ميريانا في المطار، نفس مكان الإقامة (نفس رقم الحجرة/الاستديو)، نفس الحديقة، نفس المحلات نفس المترو، نفس الترام أبو سنجة، نفس أسعار القهوة، نفس أسعار الفاكهة والزبادي في السوبر ماركت، نفس الكافيتريات نفس المكتبات، ولا كأن السنين عدت. الجديد بالنسبة لي فقط كان الكافيتريا والمطعم أسفل المبنى، أنزل يوميا أقعد في مكان يطل على الحديقة وأطلب قهوة، يرفض الرجل المسؤول، ويحضر لي إفطار من ترشيحه وإعداده، وبعد الفطار يعزمني عالقهوة. وبالرغم من أن بوجدان لم يكن يتحدث الإنجليزية، لكن من خلال لغة الإشارة وأحيانا جوجل أصبحنا أصدقاء، وسمعني أغاني مطربه المفضل توز برويسكيمن مقدونيا.
***
وابتدت مغامرتي في بلجراد من أول يوم: القلعة. قلعة بلجراد تتكون من القلعة القديمة ومنتزه كاليمجدان عند التقاء نهري سافا والدانوب، وتشكل المركز التاريخي للمدينة وهي أثر ثقافي ذو أهمية استثنائية وأكثر مناطق الجذب السياحي زيارة في بلجراد، الدخول مجاني وإجمالي عدد الزوار يزيد عن مليوني زائر سنويًا. بها البوابات والأبراج (وواضح إن كان فيه خندق مائي لأننا نعبر من الحدائق إلى البوابات على كباري، وفيه جزء كبير محفور حول القلعة، تم استغلالها مناطق لعب أطفال ومتاحف مفتوحة…. بالحدائق العديد من التماثيل النصفية لأشخاص مهمين من التاريخ والعلوم والفنون، ومجموعة من الحفريات والآثار المعروضة والنصب التذكارية الموضوعة بمنتهى العناية ومراعي أين توضع وكيف تري من بعيد. وتوجد عدة كافيتيريات ومطاعم وبعض الملاعب الرياضية ونوافير وحنفيات (نوافير للشرب)، وكنيستين ومتحفين، وقبة سماوية، وملاهي وحديقة حيوان ومعرض وضريح أحد الحكام الأتراك.
دخلنا عبر مناطق لعب الأطفال (الأحبال المنزلقة) ومعرض ديناصورات تفاعلي بالحجم الطبيعي، بعض العاملين يرتدون الأزياء الوطنية وملابس العصور الوسطى لمن أراد التصوير. وتنتشر عربات أكل ولعب أطفال وإكسسوارات رخيصة. توجهنا إلى كافيتريا مرتفعة تكشف بلجراد وتطل على التقاء النهرين في بانوراما رائعة. تمشينا كثيرا وسط الناس وشرحت لي ميريانا حكاية التماثيل أو النصب التذكارية الخاصة بتخليد المحاربين، وضحكنا على تمثال الصداقة الفرنسية بالرغم من أن الوضع السياسي القائم منذ 1999 عكس مفهوم التمثال تماما، ففرنسا ضمن حلف الناتو الذي قام بضرب بلجراد وقت تفكك يوغوسلافيا.
***
لم تلتقط أذني أي موسيقى مرتفعة أو ضجيج مع أن أعداد الناس غفيرة ما بين الضحك واللعب والأغاني والكثير من الكلاب، مع وجود البائعين والأكشاك. وبالرغم من أن بعض الأسر تفترش الزرع إلا أنني لم أر قذارة بالمرة. لا أدعي أن الدنيا نظيفة نظافة مترو موسكو مثلا، لكنها بالفعل ليست قذرة على الإطلاق. كنت قد لاحظت على البعد بعض المباني تحت الإنشاء على المصاطب الكونتورية المطلة على التقاء النهرين، وسألت ميريانا فقالت لي إن هناك مجموعة من المستثمرين الجدد متصلين بمتخذي القرار!
بالليل ذهبنا إلى الكورنيش الجديد (ممشى أهل صربيا). ولفت نظري مراعاة اعتبارات عمرانية كثيرة جدا من التي ندرسها لطلاب نـظريات التصميم العمراني، من ضمنها شرط الاستمتاع بالنهر ورؤيته من كل الزوايا! الكافيتريات مرتدة إلى الوراء، وخامات تشطيب الممشى في منتهى الجمال.
أخدتني ميريانا أولا إلى منطقة قديمة كانت مخازن، و”اتطورت” وأصبحت مكان أكثر من رائع بكافيتريات ومطاعم في منتهى البساطة والذوق الرفيع وبينها فراغات بينية، ومماشي عريضة تستطيع الجماهير أن تتمشى وتقعد، أو تركب دراجات أو سكوتر، بأنوار خافتة وأصداء موسيقى خافتة في خلفية المكان/المشهد… أما المنطقة اللي أنشئت من عدم، فكافيترياتها ومناطق لعب الأطفال ومناطق الجلوس تصميماتها أكثر تعقيدا ورفاهية، لكنها ما زالت بدون أي بهرجة. ومع انحناءة مجرى النهر وجدت مبنى كبير حديث شاهق الارتفاع.
***
وعلى مدد الشوف بدت لي مباني مرتفعة أخرى لم أرها في زيارتي السابقة، وعلمت بوجود استثمار إماراتي يضخ في تطوير منطقة واجهة النهر في بلجراد وان الموضوع شائك ومثير للجدل بين العمرانيين المنقسمين حول مفهوم وممارسات “التطوير”!!! مباني وناطحات سحاب تشبه دبي! ومنهم برج متميز جدا اسمه برج بلجراد تصفه الإعلانات بأنه “سيكون رمزًا جديدًا للعاصمة الصربية” وسيتم ربطه بالمدينة القديمة من خلال ساحة عامة (وليس بكوبري).
وتذكرت حين جئت إلى نفس المكان من ست سنوات وأخذتني ميريانا لمبنى حكومي به نموذج للحي بأكمله، وموقعا عليه نموذج لمبنى جديد، يذهب الناس للإدلاء بآرائهم ويمارسون حقوقهم العمرانية بديمقراطية، فماذا صنعت الاستثمارات الإماراتية بكي يا بلجراد؟؟؟ إحدى المستويات على النهر ويشبه المسرح المكشوف (مسرح النهر)، موسيقى ورقص وقفنا نتفرج عليهم، رجال وسيدات وأولاد وبنات يرقصون جماعيا أو زوجيا، نزلنا شاركناهم لبعض الوقت (لا ممنوع ولا بتذاكر ولا فيه حد أدنى للطلبات). ثم ذهبنا لتناول أحلى آيس كريم شربات ليمون ذقته في حياتي في بودا بار وروحنا بالترام.
اليوم التالي كان على بلاج جزيرة وبحيرة آدا، وهي من أهم مناطق الاستجمام في المدينة، 8 كم من الشواطئ المخلقة لأهل بلجراد اللذين لا يستطيعون السفر إلى الشواطئ، أو لمجرد قضاء عطلة نهاية الأسبوع. الشاطئ عام ومجاني. “افرد بشكيرك عالرملة”، و”دقوا الشماسي”، أو أقعد على أي كرسي بحر. ويمكن طلب أي مشروبات أو مأكولات من الكافيتيريا أو المطعم، بدون حد أدنى، حتى لو كانت “كباية مياه من الحنفية”. الكلاب إلى جوار ذويها بدون لجام، مع الكثير من المرافق الرياضية والحمامات النظيفة، تجذب العديد من الزوار خاصة في فصل الصيف. والغداء في المطاعم الكثيرة وبأسعار في متناول الكل. بالإضافة إلى أكشاك صغيرة لبيع الفاكهة والعصائر والحلوى وألعاب وملابس البحر مثل أي شاطئ مصري عام قديما.
***
كنت في منتهى السعادة وأنا وسط عائلات تستمتع بيوم إجازتها، كل عيلة حسب مقدرتها المادية. وأفقت لحقيقة أنني لم أقض يوما في مثل هذا الجو ولم أشعر بذلك الشعور في مصر منذ أواخر الثمانينيات أو أوائل التسعينيات سواء في المعمورة أو العجمي أو مرسى مطروح أو حتى رأس البر. واكتشفت أن البلاج العام الوحيد الذي استمعت فيه آخر 35 سنة مثلا كان في إيطاليا، ولكن هذه حكاية أخرى. على امتداد البلاج كان هناك مسرح عالبحيرة وأناس يتدربون على الرقص. وعدة ميادين مزدانة بالتماثيل، والعديد من الرياضات المائية.
اليوم التالي كان في الجبل، أخذتنا إحدى صديقات ميريانا بسيارتها الجاجوار إلى الجبل لنتسلقه. جبل أفالافي جنوب شرق بلجراد. يبلغ ارتفاعه أكتر من 500 متر عن سطح البحر وهو محمية طبيعية منذ أكثر من 150 سنة، وفيه أنواع من النباتات محمية كنوادر طبيعية ومنها النباتات الطبية ومنها الأخشاب. وفيه أنواع كثيرة كذلك من الطيور. أخذنا في التسلق وسط غابات الشجر بقيادة الصديقة “المتسلقة” أبا عن جدا، وأبوها كان دليل. أول نقطة توقف كانت لزيارة نصب الجندي المجهول فوق الجبل، لتخليد ذكرى ضحايا حروب البلقان والجنود الصرب الذين ماتوا في الحرب العالمية الأولى.
بعد سلالم حجرية سوداء كثيرة كثيرة كثيرة، يشبه النصب معبد إغريقي قديم تحمل سقفه أربع سيدات، كل واحدة من منطقة تاريخية مختلفة من يوغوسلافيا. كما يوجد بالجبل نصب تذكاري لقدامى المحاربين السوفييت اللي لقي مصرعه في طريقه للاحتفال بالذكرى العشرين لتحرير بلجراد من الألمان في الحرب العالمية الثانية. ثالث نصب تذكاري لفت نظري في الجبل هو لأحد قادة المقاومة الصربية ضد العثمانيين من أوائل القرن التاسع عشر ومحرر بلجراد، وهو بالقرب من معسكر متسلقي الجبل. واللافت للنظر في هذا التمثال أن هيئة الرجل من حيث ملابسه وحذائه وأسلحته وشنبه المبروم “اللي يقف عليه الصقر” بدت لي عثمانية بامتياز!
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: القهوة تستحق الانتظار (1-3)