«شنطة سفر»: كريب سوزيت (2-2)
وقت ما سافرت باريس أول مرة، وقفت كتير عند المسلة اللي اتصورت عندها أم كلثوم صورتها الشهيرة سنة 1967 (أمام متحف اللوفر) واللي قالت إنها أكتر حاجة حبيتها في باريس، عشان بتاعتنا وده لما راحت قلبت الدنيا على مسرح الأولمبيا لمساندة المجهود الحربي. ووقت ما سافرت باريس لأول مرة سنة 1990، كان لسه امتداد الطريق اللي من ميدان المسلة – شارع الشانزليزيه – ميدان النجمة (قوس النصر) – قوس النصر الجديد (اسمه برضه لارك دي ديفونس)-امتداد باريس حاجة جديدة ومعظم الدنيا تحت الإنشاء.
أخدتنا كاترين مراة أنكل صلاح النجار لفة بالعربية عشان نتفرج على الجزء الجديد من باريس. وهالني ما رأيت من عمارة الحداثة واللي شفتها في المبنى بالغ الضخامة، مكعب مفرغ (قوس نصر مجرد)، مبنى إداري وأمامه ساحة عملاقة ودرجات واسعة بين المستويات. وأبتديت أستوعب إن اللي جاي في العمارة والعمران كله كدة. “بس أنا بحب القديم” لقيتني بقول لنفسي وإحنا بنعدي مطب صناعي (كان برضه حاجة غير معتادة أو شائعة عندنا وقتها!) وقالت لي كاترين أن اسمه “ظهر الحمار” (دو دان).
***
أما شارع الشانزليزيه فحكاياته كتير. لما سافرت باريس بعدها في أول الألفية كان الأوتيل اللي حاجزين فيه متفرع من الشانزليه، بس غيرناه لواحد تاني أحلى وأشيك بيبص على ميدان النجمة (قوس النصر) بذات نفسه. كان تحفة وكان له رائحة نظافة مميزة فاكراها وبستدعيها ضمن تدريبات “ذاكرة الحواس” -على رأي منى الشايب صاحبتي- لحد دلوقتي. كنا بنتمشى كتير في الشانزليزيه. كان الفرنك بحوالي٦٥ قرش، ومكانش لسه حصل التحول الكامل لليورو. كنا بنقعد على كافتيريات الرصيف، وكنا بنشوف بعد الظهر استعراضات وسباقات لسيارات بعض الشباب من أخواتنا من بعض البلدان العربية اللي بيروحوا يصيفوا في باريس.
ووقعت في حب الأودي “التي2”. وعرفت أن فيه بعض السماسرة بيروحوا من بدري العصرية كدة يحجزوا ترابيزات لحد ما تيجي بعض الأسر العربية القادرة على “شراء الترابيزة” لتمضية الأمسية والسهرة على رصيف الشانزليزيه. قضينا في محل ديزني الشانزليه ساعات وساعات عشان نجيب لعمر ابني كل حاجة نقدر نجيبهاله. أبرزها كان لبس “باز لايت يير” (باظ يطير) من فيلم حكاية لعبة.
التمشية في باريس ليلا كمان جميلة جدا جدا. خدتني رجليا مرة لحد ملهى الطاحونة الحمراء، وقعدت في الكافتيريا اللي قدامه. وعقلي كله في هنري تولوز لو تريك، والممثلات والمغنيات والراقصات اللي الدنيا داست عليهم وخلدهم هو برسوماته، عبقريته العفوية وألوانه السودا والأحمر والبرتقالي المكتوب وخط أيده الحر. لو تريك فتح لكل الفنانين خط مهم جدا في مجال تصميم البوسترات.
***
وبمناسبة الملاهي الليلية، فمرة حاولنا نقف في طابور الليدو ولمحنا الراجل اللي بيضبط الطوابير، يمكن عشان لون بشرتنا وطريقة لبسنا أو صعبنا عليه عشان شكلنا تايهين أو محتارين – مش عارفة. المهم جالي وسألني عن جنسيتنا ولما عرف إننا مصريين نصفنا ودخّلنا وقعدنا في حتة حلوة جدا، وشفت عجب العجاب في الليدو، الاستعراضات المتعددة والمتقنة جدا، واللي بتدل على عبقرية التدريبات اللي وراها عاملة إزاي، باليه على جمباز على رقص على ترابيز على طيران على موسيقى على ديكورات بتغوص في الأرض وغيرها بتنزل من السقف، وخلفيات ثلاثية الأبعاد، ميكانيكية المسرح متطورة جدا، وألوان وألوان وأزياء وأزياء. عرض ما ينفعش يتفوت أبدا، إبداع لا يوصف. إبهار إبهار إبهار – شد 100 خط وعلامة تعجب. أثناء العرض، لا ننتبه لملابس الراقصات “الكاشفة” أبداً أبداً، إنما نكون في حالة دهشة طوال الوقت، منتبهين وبنحاول نستوعب اللي بيحصل قدام عينينا.
في إبريل 2017 كان عندي اجتماع وتحكيم جوايز في برج مونبارناس. وكانت بلكونة أوضتي بتبص على سينما. وفي وسط الاجتماع جاني خبر وفاة نجلا أبو خطوة توأم روحي على مدار 40 سنة، واللي عانت من المرض حوالي ست سنين لحد ما غدر بيها وبينا. وقفوا الاجتماع وحاولوا يطيبوا خاطري، وصديقاتي التركيات كلموا أهلهم في أنقرة عشان يقروا لها قرآن، وقعدت معايا صديقاتي مينا (من رومانيا) وماجدالينا (من بلغاريا) لحد قرب الفجر. تاني يوم نزلت مش عارفة أودي نفسي فين. دخلت السينما. كان فيلم بوهيميان رابسودي وكان قالب الدنيا وقتها. كان مدبلج بالفرنساوي. فضلت أحضر عرض ورا الثاني لحد ما نمت على نفسي من وجع قلبي.
***
وبخصوص منطقة المونبرناس، فهي دي المنطقة اللي كانت أمي الله يرحمها مقيمة فيها لما سافرت تدرس في باريس سنة 1985. كل مرة بأقيم هناك عشان اجتماعاتنا في البرج بدّور في الشوارع على ذكريات ماما. نفسي أروح أسواق البراغيث (مارشيه أو بوس) اللي حكت لي عنها، بيت الطلبة اللي كانت عايشة فيه، نفسي أشوف المطبخ اللي كانوا بيطبخوا فيه كل واحد طبخة من بلده. رجعت أمي من السفرية دي جايبة حاجات كثيرة جدا، ليها وليا وللبيت ولأحمد أخويا ولجهازي. ولسه معظم الحاجات عندي ببص لها وأستعملها وأتواصل من خلالها مع أمي واقرأ لها الفاتحة وأترحم عليها.
آخر مرة سافرت باريس أجرت أوضة عند “موني” (مش فاكرة جنسيتها لكنها كانت من الشرق الأقصى، إنجليزيها تقريبا مفيش وأنا الفرنساوي بتاعي بعافية – مفيش مشكلة) في الدور الرابع في مبني قديم بيبص عالبرج والميدان. شقة موني “قد الحُق”، أوضتين ومطبخ وحمام فيه بانيو، وتواليت. كان شهر نوفمبر، يعني الدنيا برد عليا هناك، وعلى حظي كان فيه مشكلة في السخان، وكانت نهاية الأسبوع، موني وأنا كنا بنسخن مياه عالبوتاجاز، ونخلطها بمياه من الحنفية عشان الدش (بالكوز). ودي خبرات اكتسبتها من حياتنا العادية أوائل السبعينات في مصر. ومن شقة موني المتواضعة إلى بيت صديقتي الفنانة إيفا ستروزينسكا، بيت قديم عريق فخم كلاسيكي كبير حوائط حاملة من الحجر، كله ذوق وفن ولوحات لها وتماثيل وأسقف عالية وأوضة من أوضة وزرع كثير وحاجة كدة زي الأفلام الفرنسية القديمة الحلوة.
***
ومن أهم أحداث سفرياتي في وجود مينا وماجي هو الاستكشاف لمباني ومناطق جديدة عليا. والمرة دي كانت زيارتي التانية لغابة بولونيا بس المرة دي لزيارة مؤسسة لوي فيتون تصميم المعماري الأشهر فرانك جاري. والمبنى كان من دواعي انبهاري بعمارة جيري، زي لما معهد العالم العربي بباريس أبهرني أول مرة زرتها. مبنى كأنه سفينة طالعة من وسط الغابة من المعدن الخفيف والزجاج وحواليه بحيرات يسبح فيها البط ومتنزه للعب الأطفال اسمه “جاردان داكليماتاسيون”.
استعمل جيري الزجاج بسخاء سواء الشفاف أو الملون ألوان زاهية، مع الماء مع الإنشاء المعدني الظاهر. كتلة المبنى انسيابية ومتوائمة مع محيطها. داخل وخارج المبنى، جيري مهتم بأدق التفاصيل، مثل الإضاءة الخفية، والانحناءات التي تشير إلى تأثره بالكنيسة التي صممها لوكوربوزييه في رونشونوربطه مختلف الحيزات ببعض، وإدخال الدفء عليها بألوانها الهادئة والوظيفية، وتفاصيل التشطيب، وإزاي فراغات المبنى بتفاجئ الزائر. ففي الطابق السفلي مثلا، شلال من الماء ومسابح الصغيرة تعكس الضوء على أعمدة بزوايا مثلثة مصنوعة من زجاج مورانو. المبنى دة مش مجرد متحف، لكنه معلم ثقافي جاذب لفئات عمرية وخلفيات ثقافية مختلفة لأنه بيقدم أنشطة زي معالم ثقافية أخرى في مدن، لجأت لمعماريين كبار أو مسابقات وبالتالي أصبحت المباني علم للبلد كلها، زي مبنى زها حديد في باكو أذربيجان، وبومبيدو في باريس وجوجنهايم في بيلباو أسبانيا وأوبرا أوسلو في النرويج ومكتبة إسكندرية مصر، والمتحف الكبير في الجيزة مصر وغيرهم…
***
جبت من المتحف قلم خشب عشان ينضم لأخواته الكتير اللي مجمعاهم من مختلف البلاد. وكتاب (بوب أب) تشرح المبني من بره ومن جوه. الكتاب ده بعتبره كنز حقيقي. كتاب مبسط عن المبنى والمعماري اللي مصممه، وإزاي بدأ مشواره وإزاي استوحى التصميم وإيه هي مراحل التصميم ومراحل البنا. كلها كتابات مختصرة ورسومات يدوية، وبعض صفحات الكتاب لما يتفتح تلاقي صفحاته ثلاثية الأبعاد بتوري مجسم للمبنى ومسقطه وقطاعه ومكانه وسط الشجر. نفسي نفسي نفسي أعمل كتب زي دي عن مبانينا الهامة في مصر. والكتاب دة أوحي لي بحاجات كتير جدا في تدريس مواد تاريخ ونظريات العمارة وكذلك في برنامج العمارة والأطفال – مصر. وجوايز المكعبات الذهبية اللي كنت بنظمها في بيت المعمار المصري وقت إدارتي له لمدة 10 سنوات متتالية.
السفرية الأخيرة لباريس أتاحت ليا فرصة السنكحة اللي اتسنكحتها مع بابا قبلها بحوالي 30 سنة. لف على الأماكن، قعدة وساندوتش في حديقة لوكسومبور (جاردان دي لوكسومبور). تمشية في الحي اللاتيني والتسكع بين الفنانين والدكاكين وغدا باريسي أصيل أمام الكاتدرائية. زيارة كنيسة القلب المقدس وركوب الـ”الفيناكيولير” (زي عربة مترو بتطلع الجبل بالورب) ونزول على الدرجات الكثيرة وسط الخضرة كاشفة المدينة. ولكن أهم ما يميز باريس بالنسبة لي كان أكلة، في مطعم شكله متواضع في منطقة المونبارناس. اسم المطعم “لو بيتي جوزلان”، ويقع بشارع مونبرناس.
***
الخشب أهم عناصر المكان، الفرش بسيط، والستاير بيضا بخيوط كروشيه زي من 100 سنة وزي شغل جدتي اللي مالي بيتي. لكن التحف والأعمال الفنية ماليين المكان في دواليب أو على بوفيهات أو أرفف. صوت موسيقى الأكورديون بتأكد الهوية السمعية الباريسية 100%. المكان مكتظ بالتحف. الإضاءة خافتة ونازلة من فوق في نجف واطي فوق الترابيزات. الأكلة اللي كلتها يا جماعة ما بيعرفش يعملها غير عيلتين، عيلة طبق زادة وعيلة سلطح بابا زادة وما بيدوش سره لحد أبدا على رأي بهيجة اسم الشخصية اللي قامت بيها الممثلة إحسان شريف في فيلم إشاعة حب. أنا أكلت كريب سوزيت يا ولاد!