«شنطة سفر»: كريب سوزيت (1-2)
باريس بالنسبة لي طول عمري كانت المدينة الحلم. من سفريات بابا الدائمة للندن وباريس، من سحر اللغة الفرنسية وأنا بسمع أغاني داليدا وإنريكو ماسياس وكلود فرنسوا وجو داسان وأديِب بياف، من معرفتي إن كلية الفنون الجميلة اللي كنت بحلم أدخلها أصلها فرنساوي “البوزآر”، ومن حكايات وذكريات ماما عن باريس لما سافرت تدرس دبلومة الاعلام والسينما وقعدت في منطقة المونبارناس، ومن فيلم الصعود إلى الهاوية لمديحة كامل ومن فيلم قاهر الظلام لمحمود يس اللي بيحكي قصة حياة طه حسين.
ومن كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي اللي تعلمنا عنه في المدرسة، وقصة الثورة الفرنسية “حكاية مدينتين” لتشارلز ديكنز اللي درسناها في المدرسة برضه، ومن تاريخ انبهار الخديوي إسماعيل بباريس لدرجة محاولته أنه يجعل القاهرة الحديثة باريس الشرق، من مسلسل لنور الشريف كان دايما يوصفها فيه بـ”مدينة الجن والملائكة” ومن حكايات أنكل صلاح النجار عن باريس، وإني لازم أسافر أدرس هناك، وغيرها.
باريس يعني الفن والثقافة والأناقة والقهوة باللبن والكرواسون وأفلام السينما الضلمة اللي فيها مطر وأصوات خطوات غامضة، أفلام ليها رؤى فلسفية خاصة. أو دة اللي كنت فاهماه زمان. وعشان كدة حضرت نفسي بمذاكرة اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي في مكانه القديم في شارع صبري أبو علم من ميدان الإسماعيلية في مصر الجديدة، ووصلت لمستوى يؤهلني للحياة والدراسة في البوزآر!
***
وسافرت باريس لأول مرة مع بابا في شهر أغسطس سنة 1990، وكنت لسة قايمة من مرض الـ”صفرا” وكنت عايشة على العسل الأبيض. نجلا صاحبتي أدتني فلوس أجيب لنفسي هدية عيد ميلادي. وبابا أداني أول 100 دولار أمسكهم في إيدي عشان أحولهم فرنكات. أول حاجة اشتريتها من باريس كانت من المطار، برفان بالوما بيكاسو، وساعة ملونة كلها ورد، والمينا سودا مدورة وفيها نحلة. ودي كانت هدية نجلا.
انبهرت من الأتوبيس اللي ركبناه من المطار، فيه سوستة بتخليه يلف وجزئية مقسومين زاوية قايمة. ووصلنا ميدان الأسد (بلاس دي ليون) عند البانسيون اللي كنا حنقيم فيه. وهناك إحنا اللي بنشيل شنطنا ونطلع بيها السلالم وننزل. وقتها كانت فانيسا بارادي عاملة قلق في فرنسا بأغنية “جو سواق التاكسي” اللي كانت طالعة بقالها سنتين وكانت بوسترات بارادي- اللي كان عمرها 18 سنة وقتها- في كل حتة في باريس.
السفر مع بابا يعني صحيان 7صباحا ولف ومشي لحد ما نقع من طولنا ننام. كان وقتها بابا بيشتغل مع المرحوم الدكتور أحمد قدري -رئيس هيئة الآثار وقتها- في عمل سيناريو ومحتوى العرض المتحفي والمجسمات لعدد كبير من المتاحف. زرنا في السفرية دي معظم متاحف باريس. من متحف الإنسان واللي كان فيه نماذج معمارية كتير معظمها كلاسيك، للمتحف البحري ومتحف الفن الحديث لمتحف رودان وأشهر تماثيله “المفكر” واللي عندنا نسخة منه في متحف محمود خليل في الجيزة. لمتحف بيكاسو اللي فيه لوحات وتماثيل وكولاج. لمتحف اللوفر وما أدراك ما متحف اللوفر، واللي ما يكفيهوش أسبوع لو عايز تلفه كله نص نص.
***
وقتها كان الهرم الزجاجي في منتصف فناء القصر لسه جديد. وعجبني جدا تصرف المعماري أنه يعمل الدخول ونقطة التوزيع من تحت الأرض. وكان فيه تحت معرض (أو معارض) من اللي حنشوفه فوق. وكان أهمهم وأكبرهم الجزء المصري القديم. اللي شدني في اللوفر كمان كانت الحاجات اللي ذاكرتها في تاريخ العمارة والفن. زي التماثيل والبوابات واللوحات للفنانين اللي ذاكرتهم في تاريخ الفن وعلى رأسها الموناليزا. وكان فيه قاعات صغيرة فيها مدرجات وحاجات بتتعرض على شاشة والأطفال وأهاليهم قاعدين يتفرجوا ويتناقشوا. وفهمت يومها وفي السفرية دي عامة يعني إيه تربية متحفية.
عجبني جدا متحف أورسيه اللي كان أصلا محطة قطر وتم إعادة استخدامه مع الحفاظ على أهم عناصره المعمارية وروحه. وكل ما يضاف في المبنى يتوارى أو “يبروز” عمارته وملامحه. أجمل عنصر معماري في أورسيه هو الساعة الكبيرة. وأهم ما لفت نظري فيه من معروضات بعد أعمال الفنانين كان فيه نموذج لمدينة باريس بنمشي فوقيه بزجاج. وكان فيه نموذج قطاع أوبرا باريس– النموذجين دول كانوا إعجاز بالنسبة لي. الكافيتيريا فوق سطح أورسيه كاشفة لنهر السين والشجر الكثيف على جانبيه وكباري السيارات والمشاة اللي بتربط بين ضفتي المدينة. وكذلك الجزيرة المتوسطة اللي عليها كاتدرائية النوتردام. قلب المدينة.
وكان فيه متحف جميل جدا ناحية غابة بولونيا كدة مش فاكرة اسمه، كان متحف تفاعلي وكانت أول مرة أشوف النوع دة من المتاحف. بيحكي برضه عن تاريخ الإنسان وتطوره. ولميت كمية كبيرة من ثمر شجر الصنوبر من الغابة عندي لحد دلوقتي. متحف الشمع من أجمل متاحف باريس، وبعدها بقيت بزور متاحف الشمع دايما وخاصة متاحف مدام توسو المنتشرة في معظم مدن أوروبا.
***
ومن ضمن المتاحف والمراكز الثقافية كمان مركز بومبيدو (على اسم جورج بومبيدو رئيس فرنسا آخر الستينات وأوائل السبعينيات)، ودة له حكاية. كان عطا معماري ما بين 45 دولة قدموا 659 مشروع، ورسي على المعماريين رينزو بيانو وريتشارد روجرز أوائل السبعينات. وهو في منطقة مركزية في باريس (البوبور)، بالقرب من منطقة الأسواق القديمة (لي هال) ومبني المركز المحلي المدينة (بي آش في) زي البلدية كدة، ومحلات برينتوم.
ناس كتيرة وقتها اعترضت على شكل المبنى الحداثي جدا، متوازي مستطيلات زجاجي شفاف وطالع منه مواسير ملونة لأنابيب التهوية والكهرباء والتكييف والمياه والسلالم الكهربائية عالواجهة، وأمامه ساحة كبيرة منحدرة ناحية الواجهة والمدخل. حاجة ضد كلاسيكية المنطقة تماما. كانت الفلسفة التصميمية هي أنه يبان وسط محيطه العمراني، زي عنصر جاي من الحاضر أو الواقع، يعمل مفاجأة أو صدمة. ويضم المركز أعمال لفنانين ومدارس القرن العشرين. ويقام به العديد من المعارض وتضم مكتبته أكتر من مليون كتاب ووثيقة. بالإضافة إلى قاعات تعليم اللغات والمكتبات السمع-بصرية ومركز الإبداع الصناعي وغيرها.
أما الساحة المنحدرة أمامه، فقد أصبحت من أهم نقاط ملتقى باريسي للفنانين والموسيقيين والعازفين والكثير من العروض. وحولها كتير من الكافيتريات والمطاعم ومحلات التذكارات وخلفه مناطق لعب أطفال عند نافورة مائية كبيرة ذات ألوان باهرة ودنيا. نروح بقى نزور معهد العالم العربي للمعماري جان نوفِل على ضفاف نهر السين عند الحي اللاتيني ومكتبة فرانسوا ميتران (المكتبة الوطنية). المبنى اتفتح أواخر الثمانينيات، وفلسفته التصميمية أنه “حوار بين الثقافة الغربية والعالم العربي”. التكنولوجيا والعلم مع المفاهيم الأصيلة بتتمثل في المشربيات المعدنية على واجهته، بتفتح وتقفل حسب شدة الإضاءة.
***
وانبهرت بمعهد العالم العربي بباريس واستعمال مفهوم المشربية من خلال تجريدها إلى وحدات زخرفية هندسية مستوحاة من الأطباق النجمية. وهي معدنية تعمل بالحساس حسب شدة الإضاءة. ومن ساعتها دخلت عالم المعماري جان نوفل وتعلمت كتير عن واجهات المباني مش مجرد سطح يتم إسقاط الفتحات عليه. بل هو “إنترفيس” أو مرحلة يحدث فيها تفاعل بين الخارج والداخل.
ومن معالم باريس محطات المترو الآرنوفو فوق الأرض، وعالم المترو تحت الأرض. اندهاشي بما رأيته لأول مرة قتل أو خلينا نقول شكك فرحتي بمترو أنفاق القاهرة اللي كان لسه مفتوح عندنا بقاله سنتين. بوسترات الإعلانات، قيشاني المحطات، الشحاتين الموسيقيين اللي بيعزفوا أجمل المقطوعات الكلاسيكية. وممكن يكون منهم حد بيغني، وفاتحين علبة الكمانجا أو الجيتار عالأرض، أو برنيطة مقلوبة عشان نحط لهم فيهم فلوس. البياعين الأفارقة. خرائط المترو اللي بندوس على اسم المحطة تقوم تنور لك خطوط المترو بألوانها فتعرف تنزل فين وتركب خط إيه في اتجاه إيه.
كنت راجعة مرة في مترو متأخر، ووقفني واحد سكران عالمحطة اللي كانت تقريبا فاضية. وكنت مرعوبة وعملت نفسي مش فاهمة كلامه، ولما زهق سألني “إسبانية؟”، هزيت رأسي بالنفي، سألني بحركات إيدين “منين” قلت “مصر”، فابتسم الرجل ورجع رأسه لورا وقال لي “ممم، تعرفي توت عنخ آمون بقى” ومشي وسابني. شكرا يا جدو توت، أنقذتني.
***
ومما يميز باريس أيضا كافيترياتها العريقة. وكل كافيتريا ليها حكاية. كافيه دي لابيه (كافيتيريا السلام) مثلا اتفتحت من أكتر من 160 سنة (بالتحديد عام 1862م)، كجزء تابع لفندق “جراند دي لا بيه”. ضمن خطة هوسمان لتجديد باريس وقتها وبتبص على أوبرا جارنييه. واكتسب المكان شهرة دولية واسعة بسبب إقامة كتير من زوار باريس في الفندق أثناء المعرض الدولي المقام في باريس عام 1967. واللي كان من ضمنهم الخديوي إسماعيل اللي استعان بهوسمان بعدها لإنشاء ما نطلق عليه الآن القاهرة الخديوية. الأكل والحلويات في الكافيه فرنسية وباريسية تحديدا وبامتياز: شوربة البصل، القواقع والمحار، حلوى الإكلير والنابليون وجاناش الشيكولاتة. وعندنا في إسكندرية نسخة من الكافيتريا بنفس الاسم.
ومن الأماكن اللي كانت على قائمة زياراتي كان ميدان الباستيل، بحثا عن أماكن رواية قصة مدينتين لتشارلز ديكنز اللي ذاكرناها في الإعدادية. الباستيل كان سجن من العصور الوسطى بيرمز للسلطة الحاكمة وسط باريس. وتم اقتحامه وكان سقوطه إشارة اندلاع الثورة الفرنسية 4 يوليو 1789 (ودة يوم إجازة هناك من ساعتها). ودلوقتي المكان دار أوبرا وحولوا الخندق الكبير اللي كان وراه إلى مرسى قوارب ترفيهية، ومنطقة كافيتيريات ومطاعم وخلافه.
***
ومن أهم ذكرياتي من سفريتي الأولي مع بابا، هو شراء الكتب والكتب والمزيد من الكتب، وشيلها في شنط الظهر أو عالكتف. كعب داير، وفلوس الفسح خلصانة عالكتب، والفلوس اللي أصحابي مديينهالي أشتري لهم بيها حاجات بنشتري بيها كتب! تاني علامة فارقة في الرحلة كانت إني أروح المحلات اللي كان بابا بيشتري لي منها زي ناف ناف وأشتري حاجات حلوة ومختلفة معظمها محتفظة بيه لحد دولوقتي. وكذلك محل آني بلاط بتاع خيوط التريكو والبلوفرات المصنوعة يدويا. ومن السوبر ماركت نشتري لبن وعسل أبيض وخوخة (مندرينة) وموزة ورغيف باجيت وجبنة جروير وجبنة كامومبير. أما الكافيه أو ليه (القهوة باللبن) فلازم تتشرب عالقهوة. وأول ماكدونالدز دخلته كان فيه باريس والبنت الباريستا صلحت لي تأنيث السلطة إينِ سالاد مش آن سالاد. يادي الكسوف.