«شنطة سفر»: في مراكش.. المدينة الحمراء
كانت آخر محطات الرحلة المدينة الحمراء «مراكش». ويعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر، وبقيت لفترة طويلة المركز السياسي والاقتصادي والثقافي الأهم في بلدان الغرب الإسلامية، وبها العديد من الآثار واجبة الزيارة ومنها مسجد الكتبية، والقصبة، والأسوار، والبوابات الأثرية، والعديد من الحدائق، بالإضافة الى قصر الباهية، ومدرسة بن يوسف، وضريح السعديين، والبيوت الكبيرة، ساحة جامع الفنا، وهي مواقع ادرجتها منظمة اليونسكو على قائمة الإرث غير المادي للإنسانية.
ومن وجهة نظري، فان أجمل ما في مراكش وأهم ما يميزها هو سيادة الحرف والأعمال اليدوية التقليدية والأسواق المحلية بها. فأسواقها تضم الحياك والعطارين والذهيبية والفخارين، والبهارات وصناعة السلال والنجارة والجلود والسجاد، ويباع بها كل ما يخطر على البال: المجوهرات، المزهريات، أباريق الشاي، الفوانيس، المراجل، الصواني، السجاد، الجلد، مستحضرات العناية بالجسم، الملابس، الأقمشة، الفخار، العطور، الطعام، والحلويات المغربية، التوابل، إلخ، إلخ إلخ (والمطبخ المغربي مدرج كذلك على قائمة الإرث غير المادي للإنسانية!!!). وأسواق مراكش متاهات حقيقية من الأكشاك وورش العمل ويتكرر التأكيد على الفخر بالصناعة المحلية والثقة في الرقابة الحكومية التي تضمن جودتها.
***
ولن أتطرق إلى آثار مراكش، فيما عدا مدرسة بن يوسف والتي شيدت في القرن الرابع عشر. تتكون المدرسة من صحن أوسط مكشوف يحفه من الجانب الجنوبي إيوان القبلة، ومن جوانبه الثلاثة الشرقية والغربية والشمالية ثلاث مظلات تحمل جميعها حجرات وسكن الطلاب. ومواد البناء غريبة عني جدا: خشب أرز ورخام إيطالي وجبس منقوش، وزليج بألوانه المتنوعة وأشكاله الهندسية وتقنياته المختلفة. وبالرغم من أني أحفظ هذه المدرسة عن ظهر قلب، إلا أنني وقفت في الصحن ارتجف من رهبة المكان الذي كان بمثابة “السلطان حسن” المغربي، فقد شكلت المدرسة معقلا للعلماء ومقصداً للطلبة المتعطشين للعلم والمعرفة في مختلف العلوم خاصة منها الدينية والفقهية، قبل أن تتحول إلى مزار سياحي وتحفة أثرية وعلامة ازدهار حضاري مغربي سابق.
وانتقل سريعا لعرض الخيول ويقام بحلبة سباق الخيل بهدف الترويج للخيول العربية الأصيلة في جميع أنحاء العالم الألعاب الخاصة بسباقات الخيل، وكذا إنجاز واستغلال البنيات المتعلقة بتنمية وتشجيع مجال الخيول. ويشمل هذا المهرجان سلسلة من سباقات السرعة وسباقات القدرة ورقص الخيول واستعراض التدريبات المختلفة وانصياع الخيول إلى أوامر الفرسان.
وأود أن أتوقف عند تجربة “الحمام المغربي” التقليدي والذي لا يمكن لزائر المغرب أن يفوته، بداية بالمبنى وتفاصيله إلى غسول الطين المغربي، إلى الصابون المغربي الأسود إلى اللوفة المغربية التي تزيل “الجلخ” عن الجسم، إلى الاسترخاء التالي لكل هذا. أما السيدات المغربيات التي يقمن بالطقوس، فلا أعلم من أين جاءوا بتلك القوة الجسدية لدرجة أن السيدة متوسطة العمر تحملني حمل! وبالإضافة إلى إزالة الجلد الميت وتنظيف البشرة، فإن الحمام المغربي ينقي الجسم من السموم وينشط الدورة الدموية ويساعد على إذابة الدهون على المفاصل، وبالقطع تهدئة الأعصاب، والتّقليل من الإجهاد والتّوتر بعد الحمام.
***
كانت تجربة فائقة لكل ما تخيلته. وبالنسبة لي، فأنا أفضل الحمام المغربي عن الحمام التركي بسبب حبي للعمارة المغربية الحميمة وتوليفة الأخشاب المشغولة والمخروطة مع الزليج والرخام الداكن مع الإضاءة الخافتة. يعتمد الحمام المغربي على البخار أكثر من نظيره التركي. ولا يوجد مثيل للطين المغربي ولا للصابون الأسود. وفي طريق العودة إلى الفندق، أقسم بالله أن سائق التاكسي أوصاني بأن “أسلم على عادل إمام لما أشوفه في مصر”!
وكما شرحت في فصول سابقة عن اهتمامي بالأكل في كل بلد ومدينة أزورها، فإن الأكل المغربي كان على قمة أولوياتي للاختبار، وخاصة أن المطبخ المغربي يأتي في المركز الأول عربيا والثاني عالميا، ومدرج على قائمة منظمة اليونسكو للإرث الإنساني غير المادي. وبالفعل، فالمذاق والنكهة غير ما كل تذوقته من قبل. ومن الأكلات التي تشتهر بها دولة المغرب: الرفيسة العمية، الكسكس المغربي، طاجين اللحم، الحريرة، الطنجية المراكشية، السفة المدفونة بالدجاج، البسطيلة وغيرها كثير. الطاجين (طاجن الفخار ذو الغطاء المخروطي)، يطبخ به قطع اللحم أو الدجاج مع الخضروات ويعمل الفراغ المخروطي على تسوية الطعام. وقد حاولت تقليده بعد العودة من المغرب، ولم يكن عندي هذا الطاجين ذو الغطاء المخروطي، فقمت بتشكيل “الفويل” بشكل مخروطي فوق طاجن عادي ووضعته في الفرن وكانت النتيجة مرضية إلى حد ما.
الأكلة الثانية التي أسجلها هنا على قائمة إعجابي هي الكسكسى وتحضر مع البصل والثوم والتوابل المغربية، مع أي نوع من الخضروات مثل القرع والجزر والبطاطس والطماطم واللفت الأبيض والأصفر، ويتم تزيينها بحبات البرقوق المعسل واللوز والسمسم، ويمكن إضافة اللحوم. الأكلة الثالثة هي شوربة الحريرة وأصلها أندلسي وهي من أساسيات المطبخ الأمازيغي المغربي، وقد أتقنتها أمي واشتهرت بها بعد زواجها من أنكل سامي وانتقالها للحياة الدبلوماسية وتتكون من مكعبات اللحم والدقيق والحمص والعدس والأرز ومعجون الطماطم وزيت الزيتون والسمن البلدي!
***
وأخيرا فهناك البسطيلة بالدجاج واللوز أو السمك وفواكه البحر، مع البيض والبقدونس والزعفران، ويضاف إليها الجبن والعسل. وأذكر أنني في أحد أيام رمضان كنت أطبخ طاجن مكرونة بالفراخ، وبدلا من أن أضع دقيق، وضعت سكر بودرة بالخطأ، وعند التقديم، أدركت خطأي، لكنني حاولت أن أصرف انتباه أسرتي عن الخطأ بأن أدعيت إنها وجبة جديدة أجربها، فقال عمر ابني: “دي بسطيلة”، جميلة يا ماما! وليس هذا هو كل المشهور من المطبخ المغربي، ولكن هذه هي قائمتي، والتي أحاول إجادتها في مطبخي.
وأصل لمكاني المفضل في المغرب كلها: ساحة الفنا. رمز مدينة مراكش وقلبها النابض. يحج إليها السكان والزوار ويستعملونها مكانا للقاءات وللترفيه والفرجة على عروض مروضي الأفاعي والقرود والموسيقيين ورواة القصص والأحاجي، والبهلوانيون، والموسيقيون والراقصون وعارضو الحيوانات وواشمات الحناء. وبديهي، فقد أدرجت منظمة اليونسكو هذه الساحة على قائمة الإرث الإنساني اللامادي عام 2001. ويرجع تاريخ الساحة إلى زمن تأسيس مراكش في القرن الحادي عشر كنواة للتسوق، ثم استغلها الملوك والسلاطين لاستعراض جيوشهم والوقوف على استعدادات قواتهم قبيل الانطلاق للمعارك.
ترتبط معي ساحة الفنا بقـطعتين موسيقيتين، احداهما لفؤاد الظاهري والأخرى لإلياس رحباني، فيجسدا لي شعور الوداع والفراق وربما الفقد المرتبط بمشهدي سعاد حسني مع رشدي أباظة في فيلم الحب الضائع، ونجلاء فتحي مع نور الشريف في فيلم دمي ودموعي وابتسامتي. وبما إن روافدي ومرجعياتي عن المدن هما السينما وتاريخ العمارة، فالمغرب بالنسبة لي هي ساحة الفنا والمدارس (وعلى رأسها مدرسة بن يوسف) والزليج. وأضيف المطبخ إلى تلك الروافد بعد رحلة المغرب.
***
وقبل أن أنهي رحلتي إلى المغرب، أود أن أذكر أنها بلد استثنائية، مازال فيها الكثير ليكتشف ويعاش، وفي المرة القادمة، سأتدرب على المحادثة باللغة الفرنسية، لأنني – للأسف- وجدت صعوبة في فهم الكثير من الأحاديث باللهجة المغربية. وأود كذلك أن أبدى إعجابي بالزغرودة المغربية.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: في المغرب.. سلمي لنا على عادل إمام