«شنطة سفر»: في سلوفينيا بصحبة السيدة مونيكا كوزنار(2-2)

يوم آخر جميل في لوبليانا، أخدتني مونيكا فيه إلى القلعة، وحجزنا تذاكر العرض التاريخي، والذي يأخذونا في جولة حكي تفاعلية بالقلعة، من خلال ممثلين يحكوا الحكاية وهم يرتدون الأزياء التاريخية المناسبة لكل حقبة زمنية من الحكاية. إلى أن وصلنا إلى أعلى مكان في برج القلعة، لمشاهدة بانوراما أخرى مكتملة للمدينة من جميع جهاتها. ثم دخلنا إلى قاعة عرض سينمائي صغيرة لمشاهدة فيلم تسجيلي عن تاريخ ليوبليانا والقلعة.

وفي الحديقة رأيت أماكن قراءة مفتوحة وكتب متروكة لمن يريد القراءة، وعدة أماكن للعب الأطفال، وجلسات الحكي والقراءة سواء فرادى أو مع الأهل أو بصحبة مدرسين. الألعاب والكتب متروكة في مكانها، والتنين (رمز المدينة) يلاعب الأطفال في كل مكان. نزلنا من القلعة وروت لي كيف كانت القلعة هي مكان إقامة أسرتها وأسر تانية كتير وقت الحرب العالمية الثانية، وكيف كانوا يصعدون ويهبطون مشيا إلى مدارسهم.

وبينما كنا نتمشى مررنا بمنطقة عمل يقوم فيها مجموعة عمال ببناء مسرح في أحد الشوارع تمهيدا لبدء حفلة موسيقى روك، قعدنا شوية وحدثتني مونيكا عن تدينها وعن تمسكها بعقيدتها الكاثوليكية، وعن ارتباكها حين اعتنقت ابنتها نينا الإسلام حتى التشدد، وكيف تقبلت الأمر وتعايشت معه حتى وجدت أن الرسالة واحدة في باطنها. وحدثتني عن علاقتها بأحفادها آية وآلاء وآمنة (آية وآلاء كانوا بيتدربوا باليه مع بنتي وآمنة كانت بيبي وقتها).

***

وأخذتني مونيكا إلى بيتها، وهو عمارة كبيرة مثل عمارات جاردن سيتي أو الزمالك القديمة، تحيط بها حدائق من كل الجهات. وصورت لي كيف كانت بناتها تلعب بالدراجات في أمان في هذا المكان. وفرجتني على بيتها، وعلى حجرة نينا وبعض من كتبها المتبقية. وفي حجرة المعيشة الدافئة ذات اللوحات الزيتية على الحائط خلف كنبة كبيرة لا أتذكر أن كانت قطيفة خضراء اللون، ولا أتذكر هل كان يوجد بالحجرة بيانو أو لا. وأعتقد أنه كان هناك زرع طبيعي أخضر. أكدت مونيكا على ضرورة ساعة السمر بين أفراد الأسرة مساء ولو لساعة واحدة، يتبادل فيها أفراد الأسرة حكايات يومهم لتقوية الأواصر والروابط. نصحتني أن أجتمع مساء في حجرة المعيشة مع أولادي ولو نصف ساعة كروتين يومي، كما نصحتني أن أخبز بالبيت، حتى تعلق رائحة الخبيز بذاكرة الأولاد في ربط بين البيت والخبيز ووجود الأم.

ذهبنا إلى متحف الفن، ومدرسة الفنون الثانوية، وفي الأوبرا كانوا يصورون برنامج مواهب سلوفينيا (سلوفينيا جات تالنت). وذهبنا إلى مبنى “الدراما المسرحية الوطنية”، وتواصلت مونيكا مع مدير المسرح فأخذنا إلى متحف ومصنع الأزياء والديكورات القريب من المسرح. كما أخذتني إلى المعرض المقام تحت الأرض لإحياء ذكري 2000 عام على إنشاء “إيمونا” المدينة الرومانية ومنطقة الجدار الروماني. وهو مكان به منتزه البيت الإيموني الأثري فيميرجي، والموجود على طرف المدينة القديمة. حيث كشفت الحفريات الأثرية عن مبنى سكني روماني تتكون أرضيته من فسيفساء هندسية ذات لونين (الفسيفساء دليل على ثراء صاحب المنزل).

***
مبنى الأوبرا
مبنى الأوبرا

وعلى الجانب الآخر من المكان كان هناك ممر يؤدي إلى غرفة الشتاء، وبها نظام تدفئة تم تصميمه بالتحكم في الهواء المضغوط: من مكان التدفئة الموجود في الغرفة المجاورة، كان يتم توجيه الهواء الساخن تحت أرضية غرفة الشتاء ويتم تسخين الجدران أيضًا بالهواء الساخن. ومن أجل تحقيق التوصيل الحراري، تم بناء الجدران من الطوب المجوف. كما تم توصيل المبنى أيضًا بشبكة الصرف الصحي من خلال مصارف صغيرة مغطاة بالحجارة في مجموعة أكبر لتصريف مياه الصرف الصحي (المجاري) التي تتدفق أسفل الطريق المجاور وتؤدي إلى النهر. لقد رأيت أخيرا ما كنت أقوم بتدريسه في تاريخ العمارة!

كما أخذتني مونيكا إلى متحف التعليم الهندسي، وأخذنا يومها القهوة في متحف سلوفنسكياتنوجرافسكي وهو مكان جميل مع حديقة جميلة ومقهى ودود بجوار العديد من المتاحف الأخرى، هذا المكان به برنامج ثري وجذاب. إنه ليس فقط مكان للعروض الرائعة، فهناك الكثير من الأحداث وورش العمل والبرامج الثقافية والحرفية ذات الصلة، ومطعم/بار رائع أمامه مباشرة. إنها نقطة التقاء العديد من المثقفين، ولكنها أيضًا محيطة صديقة للأسرة والكثير والكثير والكثير من كل أنواع الكلاب.

***

ودخلنا إلى كافيتيريا ومطعم تحت الأرض، كان يوما ما مكان قبو لاختباء الراهبات وتم تحويله إلى هذا المطعم الجميل، من الحجر والخشب والعقود من الطوب والثريات الحديدية والكثير من الشمع والزرع وكثير من اللوحات الكلاسيكية للراهبات، وذهبنا إلى المكتبة الوطنية والجامعية. وعرفت أن جامعة ليوبليانا تأسست في القرن الثامن عشر وهي واحدة من أهم المؤسسات التعليمية والثقافية الوطنية في سلوفينيا.

أما مبنى المكتبة، فيقع في وسط ليوبليانا، بين شارع أورشبرج، وشارع جنتري، وشارع فيجا، والمبنى صممه المهندس المعماري يوزيه بليشنيك في الثلاثينيات من القرن العشرين. يعتبر المبنى أحد أعظم إنجازات بليشنيك. وعبرنا النهر لنختار مطعم أسماك على المياه مباشرة، وبينما نحن نتكلم، سمعت صوت كلام عربي مصري في الترابيزة اللي جنبنا. رجل متوسط العمر مع اثنين من أبنائه، وبالحديث إليهم، عرفت أنه أستاذ جامعي بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وهو ابن خالة أستاذي وصديقي د. طارق عبداللطيف أستاذ التخطيط العمراني.

واتضح أن أحد أبنائه طالب ماجستير العمران بجامعة برلين التقنية فرع الجونة، وصديق أحد تلامذتي القدامى وصديقي المعماري محمود عبد النبي. وعلمت أنهم في رحلة حول أوروبا. ربما كنا الأربعة المصريين الوحيدين على أرض ليوبليانا أو سلوفينيا كلها. وذهبت مع مونيكا إلى مدرسة كريجانكه الثانوية للتصميم والفوتوغرافيا التي كانت ابنتها طالبة بها. وهو مبنى خلاب في منتهى الروعة. وعلمت أن المبنى كان أساسا دير، ثم تغير استخدامه بواسطة المدرسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت المدرسة وقتها اسمها مدرسة “الحرف الجميلة”، وتم تجديده في الخمسينيات بواسطة المعماري السلوفيني الأشهر بليشنيك. وللمدرسة مسرح كبير مكشوف تقام به عدد من مهرجانات ليوبليانا العامة.

مهرجان التنويريين
مهرجان التنويريين
***

يوم السبت أو الأحد كان يوم سوق الطعام المركزي. يصطف صانعو الطعام من كل جنسية يطبخوا ويبيعوا الأكل في ساحات المدينة المركزية المتصلة. الناس بالآلاف تتذوق وتأكل. وتنتشر على السلالم وقوفا أو قعودا على الترابيزات البلاستيكية أو الخشبية. وبالساحات حنفيات وأحواض مياه صالحة للشرب.

وفي نهاية الساحة الرئيسية، تصطف ترابيزات بائعي الورود المجففة. وتكلمت مونيكا مع إحداهن كثيرا، وفي النهاية، أهدتني هذه السيدة الجميلة (الكبيرة جدا سنا) باقة جميلة من الورد المجفف قامت بعملها خصيصا لي، مازلت احتفظ بها إلى جوار سريري حتى اليوم. وفي الساحة المقابلة كان سوق الورد الطبيعي، وسوق الخضار والفاكهة والمخبوزات وغيرها. وعلمت أن هذا المكان أصلا موقف سيارات، ويستغل كسوق مركزي أيام السبت والأحد من كل أسبوع حتى الرابعة أو الخامسة مساء. وبعد هذا الوقت لم أر ورقة على الأرض، ولا أية متعلقات ولا أية قاذورات.

تمشينا كثيرا على جسر التنين، وأخذنا الكثير من الصور سويا. ثم ذهبنا للتمشية والتصوير على جسر كوبلر، وجلسنا على شاطئه لاحتساء فنجان القهوة. وفي كل مكان ذهبنا إليه، كانت مونيكا تتواصل مع مدير المكان أو الشخص المسؤول وتقدمني إليه، وتجعلنا نتبادل الأرقام والبريد الإلكتروني. وكانت تجعلهم يقومون بالشرح، وتطلب منهم المزيد من المعلومات والروابط التي قد تكون مفيدة لي.

***
 الورد المجفف
الورد المجفف

وقد قابلنا عمدة لوبليانا مرتين في القلب التاريخي، فهو دائما مع الناس. واستمعنا إليه مرة كضيف في برنامج على الراديو يجيب على أسئلة السكان ويناقشهم في أمور مدينتهم. كانت مونيكا كريمة معي في كل شيء، بوقتها، بشرحها، بكلامها، بفلوسها. فلم تدعني أدفع أبدا سوى لمرات قليلة جدا، وبعد إلحاح شديد مني. كانت صبورة ومحدثة ومستمعة رائعة، وكانت “تتعافى” على نفسها على الرغم من تقدمها في العمر. وعلى الرغم من مرضها بالقلب (مكان عملية القلب المفتوح كان ظاهرا من تحت عنقها ويختفي تحت ملابسها). ظلت تتحدث عن بناتها وأحفادها طوال الوقت وأعطتني هدايا أوصلها لحفيداتها. وأهدتني تذكارات لطيفة من ليوبليانا سأعتز بها إلى الأبد.

هذه هي حكاية سفرية ليوبليانا، رحلة لمدة أسبوع لم تكن أبدا في الحسبان. لكي أتعرف على السيدة مونيكا كوزنار، فتريني مدينتها بعينيها، وليظل كلامها وشرحها وانطباعاتها ماثلين في ذاكرتي. شكلها ولبسها وصوتها وحركاتها ولزماتها هي ليوبليانا بالنسبة لي. وعلى المستوى الشخصي، فالعديد من دروس الحياة: المثابرة والاستقلال هي قليل من كثير. الصبر والمرونة والتسامح أيضا.

لقد علمتني أنني أستطيع أن أكون ناعمة وسلسة، وحازمة وحاسمة في نفس الوقت. علمتني أن أكون رحيمًة مع “الآخر”، وأن أعامل الناس بثقة وتعاطف. وأن جمال المرأة يكمن في قلبها وعقلها. والصداقة نصيب وليس لها حدود مكانية ولا زمنية ولا عمر افتراضي، وأن الصداقة الحقيقية خالدة في قلوبنا الى الأبد.

بصحبة السيدة مونيكا كوزنار على كوبري الأقفال
بصحبة السيدة مونيكا كوزنار على كوبري الأقفال
***

وبعد عودتي إلى القاهرة، ظللنا نتراسل بالبريد الإلكتروني من وقت لآخر. وعندما أتت إلى مصر، التقينا وقضينا وقتنا رائعا في القاهرة التاريخية، وكانت سعيدة كطفلة صغيرة. حاولت أن أرد لها أي شيء مما فعلته معي في ليوبليانا. وافترقنا مع وعد باللقاء مرة أخرى. ثم سمعت بخبر مرضها بالسرطان وبعثت لها لأسألها إذا كان بإمكاني القدوم لزيارتها، فأجابتني “انتظري حتى أكون أفضل”. ولم تصبح أفضل أبدا، رحم الله السيدة مونيكا كوزنار.

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: في سلوفينيا بصحبة السيدة مونيكا كوزنار (1-2)

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر