«شنطة سفر»: في سلوفينيا بصحبة السيدة مونيكا كوزنار (1-2)

على طول الحياة، نقابل ناس، ونعرف ناس، ونرتاح ويا ناس عن ناس طبقا لعبدالحليم ومرسي جميل عزيز وبليغ حمدي. حقيقي، في كل مرحلة من مراحل الحياة، نقابل أشخاص ونتصور أنها صدفة، بينما تكون هي فرصة، نتعلم منها درس، أو تغير فينا حاجة، ويسيبوا فينا أثر ما، ويذهبون. وهذه هي قصتي الغريبة والتي حدثت لي عام 2014، اعتقدت وقتها أنها صدفة، لكنها لم تكن أبدا كذلك.

كان عليا أن أحصل على فيزا شنجن لمرافقة ابنتي إلى مقدونيا لحضور مهرجان رقص تابع للباليه. لم تكن هناك مواعيد متاحة في جميع سفارات دول الاتحاد الأوروبي في القاهرة قبل شهر على الأقل، باستثناء سفارة سلوفينيا التي لم تكن تحتاج إلى ميعاد مسبق. وكان القنصل رجلاً عدوانيًا للغاية، متعالي، وأسلوبه حاد جدا. وصرح لي أنه يشك في سبب سفري، ويعتقد أنني أنوي الهروب إلى إيطاليا أو النمسا عبر سلوفينيا، فقد عمل في القنصلية منذ 2011 ولم يلتق قط بسيدة مسلمة متزوجة تسافر بمفردها للسياحة! وكان أسبوع مهين وصعب للغاية لاستيفاء المستندات المطلوبة وأرهقني بالطلبات والإثباتات وتعقب فيزي السابقة ودخولي مدن منطقة الشنجن على مدار عمري وأماكن إقامتي فيها.

وحذرني أنه إذا لم أدخل أوروبا من سلوفينيا، فسيتم إدراجي على القائمة السوداء في دول الشنجن كلها. ولكن، وبعد الحصول على الفيزا (لفترة محدودة)، كان لطيفا، واقترح عليا عدة أماكن وأنشطة في سلوفينيا، وأعطاني العديد من الكتيبات.

***

على أية حال، انتقل مهرجان الرقص إلى تركيا (لكن هذه قصة أخرى)، ولم أعد في حاجة لهذه الفيزا في هذا الوقت المحدد. وكان زوجي سخيًا جدا وأقترح عليا أن أسافر لاستكشاف سلوفينيا لبضعة أيام. وفي واقع الأمر، فلم تكن سلوفينيا يوما على قائمتي، بل لم أكن أعلم أي شيء عن سلوفينيا، ولم أكن أعرف كيف أنطق اسم عاصمتها ليوبليانا! وبينما كنت أدردش مع صاحبة ومديرة مدرسة الباليه التي تتدرب فيها بنتي واسمها “نينا”، أخبرتني أنها من سلوفينيا وأن مديرة الاستديو “آنا” أيضا سلوفينية، وأن مدربتي أنا شخصيا “فيدا” أيضا سلوفينية. اتصلت آنا على الفور بوالديها لينتظروني في المطار و”ياخدوا بالهم مني وأعطتني نينا رقم والدتها في ليوبليانا “عشان لو احتجت حاجة”.

وبينما كنت في الطائرة، طالعت النت، فكشفت مراجعتي السريعة عن بعض الحقائق المثيرة للاهتمام حول سلوفينيا: عدد السكان 2 مليون، وعدد السياح السنوي 4 مليون! يبلغ عدد سكان ليوبليانا العاصمة أقل من 300 ألف نسمة وهي في مركز سلوفينيا الجغرافي وهي أيضا مركزها الثقافي، وبها الجامعة والعديد من المتاحف. وتصنع ليوبليانا الأجهزة الإلكترونية والآلات والمنتجات الورقية والمنسوجات. رمز المدينة هو التنين “ليوبليانا” وهو الشعار الرسمي للمدينة ويرمز التنين للقوة والشجاعة والعظمة.

هبطنا في مطار صغير نظيف، وركبت للفندق بالتاكسي المخصوص (الشاتل). كان موقع الفندق في الغابة خارج المدينة مباشرة. أخذت تاكسي الفندق مرة أخرى إلى وسط المدينة عبر حقول الذرة، وشاهدت ممرات الدراجات وسط الغابات والحقول! ووصلت إلى مركز المدينة، كان التاكسي المرسيدس هو كبسولة الزمن التي أخذتني الى عالم الحكايات الخرافية والأساطير. التنين موجود بالفعل، في كل مكان وبكل الأشكال. النهر موجود والغابة موجودة وكذلك القلعة ذات الأبراج.

***

كان أول ما رأيت هو اللون الوردي لكنيسة الفرنسيسكان في ميدانبرشرن، والتي تطل على نهر ليوبيانا ذو الثلاثة جسور (واسمهترومورتوفي). هذه الساحة برشرنوف هي قلب مدينة ليوبليانا وتعود للقرن السابع عشر وهي على بعد خطوات من البلدة القديمة أو القلب التاريخي. وقرأت اسم المعماري يوزيه بلشنك وهو الاسم الذي سمعته عدة مرات بعد ذلك، فهو المخطط والمعماري الأهم الذي غير وجه مدينته منذ ثلاثينيات القرن العشرين بمفرده بموهبته وإبداعاته.

تسكعت هنا وهناك وأكلت ذرة مشوية وذرة مسلوقة. وركبت القطر الصغير (الطفطف) الذي يدور بالمدينة ويصدر الموسيقى ويصعد في الغابة حتى سور القلعة. ويحكي لنا قصص وروايات لم أستطع التمييز بين الحقيقي منها والخيالي. وبعد الهبوط إلى القلب مرة أخرى، وجدتني في بلاتوه سينمائي لقصة من قصص الأميرات. الأميرة حبيسة برج القلعة، والتنين يسكن النهر ويطلق النيران إذا اقترب أحدا من قصر الأميرة. والمدينة كلها في انتظار أمير شجاع يأتي على حصان أبيض فيقتل التنين، وكل ما يقتل تنين يظهر تنين آخر.

لابد من التأكيد على أن القلب التاريخي للمدينة كله للمشاة، وتكثر به الكافيتريات والمطاعم ومحلات التذكارات (صنع في سلوفينيا) وخاصة على مستوى النهر، وهو مستوى منخفض عن مستوى المدينة وننزل إليه بعدة درجات ينتشر عليها أهل المدينة والسياح. وفي النهر أيضا مراكب ثابتة (كافيتريات ومطاعم) ومراكب متحركة للرحلات.

لوبليانا من الأعلى
لوبليانا من الأعلى
***

وبقلب المدينة ثلاثة ساحات رئيسية، الأول هيبرشرنأوبرشونوف نسبة لتمثال الشاعر السلوفيني العظيم فرانس برشرن، وساحة مستني وتعتبر قلب المدينة حيث توجد بها نافورة روبا وساحة ستاري جنوبا وهي القلب الحقيقي للبلدة القديمة. وتصطف المتاجر الخشبية من القرن التاسع عشر على واجهات الساحة، والممرات المرصوفة بالحصى الهادئ المتقن. ساحة غورني هي المكان الأكثر هدوءا في القلب التاريخي ويوجد بها بعض المباني التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى. وفي كل زاوية من “مدينة المشاة” العظيمة تلك يوجد عمل فني ميداني تفاعلي أو لعبة كبيرة يمكن للأطفال والكبار اللعب بها على قارعة الطريق. وتكثر مكاتب المعلومات السياحية في كل ركن، وكذلك وتليفونات الشارع والحمامات العامة (النظيفة). وأثناء تجولي في ساحة بريشيرين، عابرة الجسر الثلاثي، قررت الاتصال بالسيدة والدة نينا احتياطي، يمكن تحب تبعت معايا حاجة لبنتها وحفيداتها الثلاثة، وقررنا أن نلتقي في صباح اليوم التالي.

في العاشرة من صباح اليوم التالي (وكان يوم خميس) التقيت السيدة مونيكا أمام تمثال برشرن. ولمدة أسبوع، لم نفترق أبدًا إلا وقت النوم. تركت السيدة مونيكا جميع التزاماتها وتفرغت لي بالكامل. قادتني في كل شبر من المدينة. وكانت دليلي الناطق وموسوعتي السلوفينية عابرة لكل أزمنة وفواصل التاريخ، والفن، والثقافة، والناس، والعادات، والأنوثة، والأمومة. وكل أوجه الحياة.

مبنى البلدية
مبنى البلدية
***

لا أتذكر ترتيب الأيام والزيارات، لكني أتذكر كل مكان ذهبنا إليه، وشرحها، وكل كلمة قالتها لي. وكل من عرفتني عليهم. أصبحت لنا قهوة نتقابل عندها في العاشرة صباحا. ونبدأ يومنا بالكابوتشينو، وقهوة أخرى في العاشرة مساء، ننهي يومنا فيها بشاي إيرل جراي بالياسمين. أعتقد اننا بدأنا بمبنى البلدية (قاعة المدينة)، والذي كان به متحفا صغيرا للمدينة. وكان المبنى نفسه يستحق الزيارة والفرجة. وأكلنا يومها في نفس الشارع، وقد طلبت لي مونيكا أكل سلوفيني على ذوقها. وأصرت على إحضار قطعتين حلوى لأتذوق من كليهما ولو قضمة. وكانت قد عزمتني على القهوة صباحا. فاستأذنتها بعد الغذاء على أنني حدخل الحمام، ودفعت ثمن الغذاء وكان فعلا مبلغ بسيط (سلوفينيا رخيصة عامة واليورو كان مقدور عليه وقتها).

وعندما انتهينا طلبت هي الحساب، ولما عرفت أنه مدفوع ثارت علي النادل لأنه أخذ الحساب من ضيفة عندهم! وذهبنا يومها إلى برج لوبليانانبوتشينيك لاحتساء القهوة، وحكت لي مونيكا عن تاريخ البرج: من أشهر معالم المدينة، ثلاثة عشر طابقًا، صممه المعماري السلوفيني فلاديمير شوبيك وافتتح عام 1933 وكان وقتها أطول مبنى في مملكة يوغوسلافيا (كانت سلوفينيا وقتها جزء من يوغوسلافيا حتى عام 1989).

وهو برج للشركات والأعمال والتجارة، ولكن الطوابق من السادس إلى التاسع مساكن خاصة. يوجد في الطوابق الثلاثة العلوية مقهى وبار ومنصة مراقبة. يتميز بتصميم داخلي رائع، وآخر طابق نصعد فيه على سلالم خشبية أنيقة إلى الطابق العلوي والتراس الموجود على السطح وبانوراما للمدينة كلها! مساءا، حضرنا حفلة راقصة في الشارع تقيمها مدرسة رقص البوليرو الشهيرة. وكانت من أروع ما شاهدت من مهرجانات راقصة في الشارع.

***

صحبتني مونيكا إلى متحف العمارة والتصميم ويقع خارج قلب المدينة وبالتحديد عند محطة فيوتزينه. بالقرب من منطقة الدراجات والمراكب المشهورة بيسيكلج – برودارجيف. وهو مبنى بدا لي أثري، فكرني جدا بالمبني الذي تقابل فيه مايكل كورليوني بالأب (اللي أصبح بعدها البابا) في سيسيليا في الجزء الثالث من سلسلة أفلام الأب الروحي. والذي قام فيه بالاعتراف له بخطاياه. وأصابته نوبة السكر وجابوا له عصير برتقال وبومبوني – لكن المتحف كان أقل زرعا وورودا.

تأسس المتحف عام 1972 كمتحف معماري، مما يجعله أحد أقدم متاحف العمارة والتصميم في أوروبا ويرتاده المهتمون بجمع التراث الوطني. وهو وجهة للمهنيين والطلاب والزوار ويوفر برامج مبتكرة مخصصة للحفاظ على التراث ودعم المبدعين الناشئين. (وهو ما حاولت تحقيقه عندما توليت إدارة بيت المعمار المصري بوزارة الثقافة). ويقوم المتحف بجمع وتخزين ودراسة وعرض المواد المختلفة من المجالات الإبداعية في المعارض المؤقتة والدائمة بشكل منهجي.

كان المكان بسيطا، وفي غاية الجمال والهدوء. وبالإضافة إلى المتحف، كانت هناك قاعة في الدور الأرضي مطلة على الفناء بواجهة زجاج، تباع فيها الكتب المعمارية. كما تباع فيها منتجات من الجوخ مصنوعة يدويا وبألوان براقة. حاوية كومبيوتر، برنيطة، شنطة ظهر، إلخ. تجولنا في المكان، وصعدنا إلى شرفة بها قفص كبير، مثل قفص العصافير، من الحديد المشغول الأبيض، أو ربما أشبه بعربة سندريلا. بعد أن حولت العرابة الطيبة اليقطينة إلى عربة ملكية فاخرة، لتقلها إلى حفلة الأمير.

وبعدها، أخذتني إلى مطعم صغير في منطقة تبدو ريفية، تخترقها قناة مائية، وسط صخور تتهدل عليها نباتات وفروع شجر. المطعم عبارة عن بيت، استغلت صاحبته جزء مفتوح منه مطل على هذه القناة. ووضعت بعض المناضد في هذا المكان الفردوسي. اختارت لي مونيكا الأكل، وأحضرت نوعا من النبيذ الأحمر. وقالت لي أنها تعلم أنني مسلمة ولا أشرب، ولكنها تدعوني إلى تذوق النبيذ ولو بطرف لساني بعد تبخره. أو تذوق عصير العنب الأحمر الطازج أو أي مشروب بيتي تصنعه صاحبة المطعم، والتي هي أيضا الطاهية.

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: أمان للسيدات المسافرات وحدهن(2-2)

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر