«شنطة سفر»: في المغرب.. سلمي لنا على عادل إمام
في عام 2016، أعلنت الجامعة التي أعمل بها عن رحلة بالتقسط إلى المغرب. كانت فرصة نادرة لاصطحب عمر ابني وكان عمره وقتها 19 عام، وأمينة ابنتي وكان عمرها وقتها 11 عام، فيرون الدنيا بعيناي ونستكشف العالم سويا قبل أن يشبا عن الطوق.
***
كانت أولى مدن الرحلة للدار البيضاء، وكانت بداية جولاتنا الحرة لاستكشاف المدينة في الميدان الرئيسي المفضي إلى شارع محمد الخامس. وتعرف الساحة شعبيا باسم «ساحة الحمام» لانتشار الحمام بها، كما كانت تشتهر أيضا بالساحة الكبرى وساحة النصر، وكانت- حتى أوائل القرن العشرين- خارج المدينة القديمة. ويمر بالساحة خطوط الترامواي، وبها الكثير من الباعة الجائلين وبائعي الأكل والحلوى المغربية الشهيرة والعصائر الطبيعية والقهوة. وكان بها بهلوان قام بمداعبة ابنتي. دخلنا من الساحة إلى شارع محمد الخامس، وهو من أهم شوارع المدينة يرجع تاريخ إنشاؤه والمنطقة كلها إلى ثلاثينيات القرن العشرين وأنشئ بها الكثير من المباني “البيضاء” فرنسية الطابع، وأصبحت مثل “وسط البلد” عندنا، فانتشرت بها العديد من المحلات التجارية.
وبالنسبة لي، فقد أعطتني المنطقة بأكملها وبخاصة البواكي والمحافظة على الارتفاع والطابع العام شعور عام بجو الثلاثينيات والأربعينيات قبل أن أعرف تاريخ وفلسفة الشارع، حتى دور السينما المنتشرة بالشارع الرئيسي والشوارع الجانبية إعلاناتها مرسومة يدويا بل وتعرض أفلاما قديمة. والشوارع، مثلنا أيضا، مليئة بالباعة المفترشين للأرصفة ببضائع رخيصة، وفي الشوارع الجانبية كافيتريات ومطاعم شعبية تضع الكراسي على الأرصفة. لا الكراسي متشابهة، ولا الترابيزات نفس المقاس ولا “المشمع” التقليدي المستهلك نفس النقوش. ومن شارع محمد الخامس دلفنا إلى السوق المركزية، حيث المدينة القديمة ومحلات الهدايات التذكارية والحرف اليدوية المحلية ومحلات الجلود للشنط والـ”بُلَغ”. ولاحظت أن المغاربة دمهم حامي وسريعي الغضب ويستثارون للشجار في لمح البصر، لكنهم يهدؤون بسرعة ويتصافون في لحظات وكأن شيئا لم يكن.
***
وفي أحد المطاعم على الكورنيش، احتفى بنا أصحاب المطعم والزوار حين سمعوا اللكنة المصرية، وأوصونا “سلموا لنا على عادل إمام”. وبالمدينة أحياء حديثة وراقية وأحياء أخرى قديمة وتقليدية. أما أنا، فعشقي هو العمارة التاريخية ولهذا وقفت كثيرا أمام باب مراكش أحد ابواب المدينة القديمة. وأعجبني من العمارة الحديثة موقع جامع الحسن الثاني على الساحل. وهو أكبر جامع في المغرب وإفريقيا والثالث عشر في العالم (قبل إنشاء جامع العاصمة الإدارية الجديدة). مئذنته أندلسية الطابع بارتفاع 210 أمتار وهي أعلى بناية دينية في العالم. ويضم قاعة للصلاة، وقاعة الوضوء ومدرسة قرآنية، مكتبة ومتحف. وتزينه الفسيفساء والحفر على خشب الأرز وأعمال الجص المنقوش الملون في الحنايا والأفاريز.
كما زرنا كنيسة القلب المقدس أو كاتدرائية الدار البيضاء (وهي كنيسة وليست كاتدرائية بالمناسبة لأنها ما فيهاش أسقف مقيم). صممها وأتبنت سنة 1930 وتوقفت عن العمل سنة وبعدها أصبحت مركزا ثقافياً محافظة على رونقها الأوروبي المتميز النيو-قوطي. ولكن أجمل ما زرت في الدار البيضاء هي كاتدرائية سيدة لورد وهي كاتدرائيَّة رومانية كاثوليكية صممها المعماري آشيل دانجيلترّي والمهندس بول زيمر، أتبنت سنة 1954 على الطراز الحديث. بالنسبة لي كانت بدعة بزواياها الحادة وخرسانتها الظاهرة وأعمدتها المائلة وزجاجها المعشق برسومات حداثية. ووقفنا كثيراً عند المغارة في حرم الكنيسة.
***
وفي طريقنا إلى الصويرة رأينا شجر الأرجان “أرغانيا” والتي تفتقر إلى الجمال شكلا، حيث لها لحاء خشن وفروع متشابكة مليئة بالشوك. وتنمو بشكل حصري تقريبا في وادي سوس في جنوب غرب المغرب. وهي من الأنواع النادرة والتي تخضع للحماية الآن بعد سنوات من الإفراط في قطعها وإهدارها وقامت منظمة اليونسكو بتصنيفها ضمن “الإرث الإنساني العالمي”. وتنتج الشجرة محصول فاكهة سنوياً، يسمى “اللقمة اللذيذة” ويجذب عدد كبير من الماعز المحلي الذي يقفز إلى الفروع لانتزاع الفاكهة ولهذا تكثر وقفات أتوبيسات السياحة لتصوير “شجر الماعز” الذي يعيش عادة فوق تلك الشجرة.
وقفنا عند مركز تعاونية “تغانمين” الفلاحية النسوية من البربر في إحدى القرى الجبلية التي تنتج زيت الأرغان وتقوم بتسويقه داخل المغرب وخارجه، سواء للأكل مع الخبز، أو مع السلطة، أو لخواصه التجميلية والعلاجية، وتستخدمه شركات شهيرة في صناعة المستحضرات التجميلية فهو مضاد للتجاعيد، ومفيد جدا للشعر. وقال لي أحد سائقي التاكسيات إن أسعار منتجات زيت الأرجان هنا أغلى لأن المنتجات تخضع لرقابة الحكومة، واستطرد: أي منتج حكومي أو خاضع لرقابة الحكومة مضمون وموصى به خلافا لأي منتج آخر لأي شركة خاصة مهما ذاع صيتها. وقبل أن أنزل من التاكسي أوصاني بأن “أسلم على عادل إمام لما أشوفه في مصر”.
***
الصويرة أو “موكادور” بالأمازيغي أو الحصن الصغير في جنوب غرب المغرب مثالا للمدينة المحصنة، ويعود تاريخها إلى نهاية القرن الثامن عشر وهي في نفس الوقت ميناء تجاري عالمي (وهي أيضا مدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو). وبما أن بالصويرة ميناء صيد فتنتشر بها مطاعم المأكولات البحرية الشهية. وأجمل ما بالصويرة هو السوق التقليدي بمتاهاته ومحلاته الملونة التي تبيع كل شيء: من الملابس التقليدية، والمفروشات، والفخار، وحتى الطعام. والصويرة مقصد عالمي للرياضات البحرية ووجهة سياحية مميزة لقضاء العـطلات. وبها الكثير من الأعمال الفنية المختلفة جدا عن أي شيء آخر رأيته في المغرب. ويختلف سوق المدينة القديمة بالصويرة ببيعه للمنتجات (وخاصة الملابس) المستوردة من موريتانيا بألوانها الزاهية وموديلاتها “الهيبي”.
وكانت أول مجموعة “شراويل” لنا نشتريها من هناك. وكنت قد نسيت تليفوني المحمول في أحد دورات المياه العامة، وحين اكتشفت، حزنت جدا، فعلى التليفون آلاف مؤلفة من الصور (الذكريات)، ولم يكن عندي أدنى أمل في الحصول عليه بسبب وجود آلاف السياح والمواطنين الموجودين في المدينة، وقد كان تليفون حديث وغالي جدا وقتها. اتصلت برقمي، فردت فتاة، وأعطتني ميعاد في مكان محدد، وحينما حضرت مع أسرتها الكبيرة -والتي بدا تواضع حالهم من ملابسهم- ورفضت أن تأخذ أي مبلغ نظير أمانتها، علت قيمة المغاربة في نظري جدا جدا. والصويرة عامة إحدى مدني المفضلة والتي أنوي زيارتها والإقامة بها مدة أطول.
***
لم أنفعل وجدانيا في مدينة الرباط إلا مع قصبة الأوداية (القلعة المحصنة)، وقد تم تشييدها بواسطة المرابطين وازدادت أهميتها في عهد الموحدين الذين جعلوا منها رباطاً على مصب وادي أبي رقراق لشن حملات عسكرية ضد الإسبان، وأطلقوا عليها اسم المهدية. بعد الموحدين، أصبحت مهملة إلى أن استوطنها الموريسكيون الذين جاءوا من الأندلس، فأعادوا إليها الحياة بتدعيمها بأسوار محصنة وجعلها مقرا لدويلة أبي رقراق التاريخية. وفي عهد العلويين، عرفت قصبة الأوداية عدة تغييرات وإصلاحات.
وبها الجامع العتيق والقصر الأميري ومنشأتها العسكرية كبرج صقالة. وتضم موقع “شالة” الذي يرجع للقرن الخامس الميلادي، والذي هاجر إليه الأندلسيون بعد طردهم من إسبانيا في القرنين 13 و14، وأبوابها مثل “الرواح” و”الأوادية”، وأسوارها مدعمة بالأبراج العسكرية التي بنيت في القرن الرابع عشر الميلادي مثل سور “الموحدي” و”الأندلسي”، ومساجدها الأثرية “مسجد حسان” في القرن الثاني عشر الميلادي والقصبة والبازارات والأسواق. والحقيقة أنني استمتعت جدا بالتسكع داخل القصبة بين مبانيها ذات اللونين الأبيض والأزرق والتي أثارت فضولي وزادتني شغفا بزيارة مدينة الشفشاوان (المدينة الزرقاء) في القريب العاجل إن شاء الله. كما تعرفت في الرباط على “الطاجين” “والبسطيلة”، وسأحكي عن الأكل المغربي بعد الحلقة القادمة. وهاديت نفسي بدمية الكراب (ساقي الماء) من الرباط.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: مين يشتري الورد مني؟