«شنطة سفر»: في أنقرة.. بالعند في أردوغان
أول مرة أزور أنقرة كانت في نوفمبر 2018، نقطة عبور لمدينة كابادوكيا اللي كان فيها اجتماع ومؤتمر لبرنامج العمارة والأطفال التابع للاتحاد الدولي للمعماريين وكنت مديرته وقتها. وزي ناس كتير تركيا كانت بالنسبة لي هي إسطنبول، ومدن أخرى سياحية أو تاريخية. صداقاتي بسيدات أنقرة بدأت بالتعرف على تزچان قراقوش رئيسة نقابة المعماريين هناك، ست قوية محاربة أناضولية أصلية. كل اجتماع يجمعنا كانت تصطحب معها معماريات أخريات من نقابة أنقرة. ودايما بيجيبوا معاهم هدايا لكل حضور الاجتماعات بمنتهى الكرم الحاتمي، أقلام، نوت ومفكرات، جراب جلد للتليفون، مقلمة قماش، حلويات، لقم، دايما فيه هدايا كتير حلوة. ولما استضافونا في كابادوكيا، كان الكرم لا يوصف. وكل واحدة من الحضور لقت في مكانها سلة صغيرة مليانة هدايا، أحلاها كان الفوط البشاكير القطنية المحلية والصابون الطبيعي بزيت الزيتون وهدايا تانية كتير. أما الأكل والشرب وكرم الضيافة فمن ورا العقل.
من خلال تزچان تعرفت على “طوبى” “وسونجول” و”ميتوبر” و”أوزلم” و”جالة” وغيرهم. معظمهم سيدات أينعم، كل واحدة فيهم بتشتغل في 100 حاجة وكل واحدة ليها 100 هواية. وكل فترة والثانية نعرف أن تزجان في المحكمة، رافعة قضية أو مرفوع عليها دعوى. أي حاجة لها علاقة بتلاعب في قوانين عمرانية أو لوائح أو اشتراطات أو مخالفات تعملها الحكومة، النقابة بتقف لها تزجان والنقابة بالمرصاد. في مجلس الشعب، في التليفزيون أو على الأرض في الشارع. تيزجان والنقابة وشلة صديقاتي مثال للنضال في الدفاع عن الحق في المدينة، الحفاظ على التراث، وممارسة المهنة.
***
أول مرة أبتدي أحس بأنقرة كانت لما النقابة عزمتني أكون ضمن لجنة التحكيم في مسابقة إعادة تصميم ميدان محطة القطر الرئيسية، واللي شهدت تفجير انتحاري يوم 10 أكتوبر 2015، أدى إلى مقتل وإصابة مئات المواطنين من العمال اللي كانوا واقفين في مظاهرات هناك باسم مسيرة “العيش، السلام والديمقراطية” ومعاهم واتحاد نقابات العمال العامة واتحاد الأطباء الأتراك واتحاد غرف المهندسين والمهندسين المعماريين الأتراك، والعديد من الأشخاص من مختلف أنحاء تركيا، وبعد التفجير وصلت عربات الشرطة قبل سيارات الإسعاف ومنعوا المواطنين من إخراج الضحايا لإسعافهم، وكان علاج التجمع هو خراطيم الماء والقنابل المسيلة للدموع. بعدها، تحولت الساحة لساحة شهدا، فغيرت الحكومة معالمها وما بقاش ينفع هناك أي تجمع مرة أخرى، حتى عبور الشارع لمحطة صعبوه على المشاة. ولكن الناس فضلوا حاطين صور الشهدا على الشجر، وحاطين لبس وتريكو وكروشيه وحاجات كتير تحفظ ذكريات اليوم والحدث.
ونرجع للمسابقة اللي كانت عاملاها نقابة أنقرة: غير الاجتماعات اللي جمعت ناس من كل أنحاء العالم، وغير مطاعم الأكل التركي اللي تاكل صوابعك وراها، وغير الرحلات والزيارات الميدانية، كان فيه كذا حاجة في الرحلة دي أحب أسجلهم وافتكرهم. الفندق كان أمامه مدرسة جرسها بيرن 7ص. المنطقة اللي فيها النقابة في منطقة مشاة محلية فيها محلات ومطاعم وكافيتيريات وهيصة. المرة الثانية اللي حسيت بيها بأنقرة أكثر كانت لما عزمتني أوزلم على حضور ورشة عمل في جامعة كوش (أو كوتش) لمنشورات الأطفال الخاصة بالتراث الثقافي، ودي كانت رحلة جميلة وليها ذكريات كتيرة وحصل فيها حاجات بابتسم كل ما أفتكرها.
***
أهم المعالم التي زرتها في أنقرة هي القلعة (كاليسي) من القرن السابع ميلادي، والتي شهدت جميع الحقبات التركية منذ ما قبل التاريخ ومرورا بتاريخ تركيا الروماني والبيزنطي والسلجوكي والعثماني. بندخل المنطقة بدون تذاكر طبعا، وبنصور اللي إحنا عايزينه، وبنلاقي هناك بياعين الشاي والبوريك والمشروبات والفاكهة والكافيتيريات الرخيصة النظيفة والمطاعم البيتي والحفلات الموسيقية التراثية، ومعظم هذه الأماكن بتكون بيوت ناس مستقطعين منها الأجزاء الخارجية وبيسترزقوا منها. وبيخدموك بعنيهم وبيقدموا الشاي والعيران ضيافة وفوق البيعة. البيوت هناك صغيرة وقديمة جدا زي بيوت درب اللبانة وعرب اليسار اللي تم هدمها بدل من استغلالها زي بيوت كاليسي أنقرة. الكلاب هناك كبيرة ومتطعمة وماشية وعايشة وواكلة وشاربة في أمان. ولو مشينا لآخر القلعة وطلعنا برة سور القلعة حنلاقي عشوائيات!
آه والله. فقر وزبالة وعيال شريدة، بس عشوائيات تركي يا لوسي… ولو لفينا ونزلنا على رجلينا وبعدنا شوية عن القلعة، نمر بمنطقة متواضعة فيها محلات لحرف يدوية رخيصة جدا ومنها نعرج على منطقة زي الموسكي ودرب البرابرة بالضبط، يمكن بنفس المنتجات مش بس المحلات وطريقة العرض. الفرق في النظافة. أما إذا خرجنا من باب القلعة الرئيسي اللي دخلنا منه إلى الشوارع السياحية المحيطة، فبازارات وسوق للحرف، وكمية مطاعم وكافيريات تركي وفنادق صغيرة (نزل) غير مسبوقة في الجمال. وكمية بيوت قديمة متحولة لفنادق لا حصر لها، جوها سلجوقي أو عثماني، حاجة كدة مسلسل حريم السلطان في نفسها جدا.. كمية المتاحف في المنطقة يخض برضه، يوجد متحف لكل شيء. وكلها مباني معاد استخدامها. من برة المبنى شكل قديم ومتجدد باعتناء، ومن جوه مجهز بأحدث وسائل العرض المتحفي بما لا يخفي أو يطغى على إحساس الزائر بالمبنى.
***
من أجمل المتاحف وأهمها في المنطقة دي متحف الحفريات الأركيولوجي والفنون. التشطيب الداخلي والعرض المتحفي والكافيتيريا والمكتبة حكاية من ورا العقل، والكافيتيريا فاتحة على منحدرات خضرا ببانوراما لا يمكن وصف جمالها بكام كلمة هنا. أما المتحف فدورين للمقتنيات ودور معرض متغير. من أهم المقتنيات العزيزة عليا، واللي كل ما أروح لازم أروح اتطمن عليها هي لوحات شفافة لوجوه الفيوم، وبعض الحلى الذهبية المصرية. أما المعارض، فمرة حضرت معرض نماذج عرايس لأهم عروض مسرح العرائس المشهورة في العالم، ومرة حضرت معرض صور فوتوغرافية لمدينة رومانية كاملة في تركيا.
فيه كمان متحف أوصي بزيارته لكل من يزور أنقرة، اسمه متحف رحمي كوش، وهو متحف “صناعي”. أسسه رجل الأعمال “كوش” مؤسس الجامعة اللي دعتني لورشة العمل في أنقرة نوفمبر 2022. المتحف مبني زي الخان أو الوكالة، معروض في الفناء العربيات والطائرات المروحية، وفي القاعات كل الصناعات التركية، وإزاي تطورت، من صناعات الجلود للألبان والأجبان للحدادة للنجارة لتفصيل الهدوم للسجاجيد للأدوية للطبخ والتخزين والتعليب للعب الأطفال لوسائل الاتصال. تحتوي المجموعة على مئات العناصر من المنمنمات إلى القوارب والمركبات بالحجم الكامل. كل صناعة تخدم الحياة اليومية للأتراك على مدار التاريخ، مع الإشارة للمبدعين من المهندسين والحرفيين الموهوبين. بالإضافة إلى مجموعة مقتنيات خاصة لمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة ومعشوق الأتراك. المتحف يعج دايما بالأطفال والكبار والسياح، بس مفيش تمييز في سعر التذكرة بين الأتراك والسياح. التمييز دايما للأطفال وكبار السن فقط.
***
من أجمل المتاحف اللي زرتها في أنقرة أيضا متحف آثار الأناضول. مش حتكلم عالموقع ولا على تنسيق المتحف ولا عالخضرة ولا عالعرض المتحفي ولا عالديكور عشان دي حاجات مفروغ من جمالها وتطورها وفي نفس الوقت بطريقة لطيفة وبسيطة. المتحف يضم كل الآثار الموجودة والمتعلقة بالحقب التاريخية التي مرت على بلاد الأناضول منذ الفترة الهلينية حتى الفترة العثمانية، والكثير من المخطوطات باللغات الهلينية والمسمارية، وبقايا الصناعات التي تعطينا فكرة عن تتالي وزخم حضارات تلك المنطقة عبر التاريخ.
حعدي معاكم بسرعة على ضريح أتاتورك (أنيتكبير)، وهو برضه زيارة مذهلة. الموقع مرتفع على هضبة تطل على كامل أنقرة من جميع الجهات تصميمه يوحي بالعظمة وأكيد بالفخر للأتراك. برة الأسوار كمية أتوبيسات مدارس وأتوبيسات رحلات محلية للأتراك تسد عين الشمس. بنمشي كتير وسط غابات لأشجار نادرة لحد ما نوصل للساحة الكبيرة المستطيلة اللي فيها الضريح والمتحف. آلاف مؤلفة من البشر معظمهم أتراك كل الأعمار والأطفال كتير جدا جدا. طوابير ورا طوابير. دخلنا الضريح أولاً. الفخامة والنظافة مش حتكلم عنهم تاني. كمية الناس اللي بتقرا الفاتحة في خشوع حسسوني إن المتوفي فرد من عيلتهم لسه ميت حديثا. الأهالي والمدرسين بيكلموا الأطفال بصوت واطي وبيحكوا لهم عن أتاتورك. والكل بيحطوا ورود عالقبر. طلعنا دخلنا المتحف والديوراما عن الحرب مع المؤثرات الصوتية. وتاريخ تركيا الحديث كله وأسامي الرواد في كل المجالات. جزء خاص من المتحف فيه قاعات فيها ملابس ومتعلقات شخصية وهدايا وكتب أتاتورك. إيه الشياكة والفخامة والعظمة دي يا جدعان!
***
أحكي لكم بقى على متحف “علي الجن”. وعلى شخصية متخيلة لطفل صغير ومكتوب عنه 10 كتب متدرجة في الصعوبة عن الحياة اليومية للأطفال في تركيا والتعليم المدرسي منذ عام 1986 والألعاب التقليدية اللي كل الأطفال كانت بتلعبها قبل عصر الإنترنت. ومن خلال الكتب دي والمتحف التفاعلي الجميل البسيط السهل الممتنع اللي يشرح القلب دة، بياخد المؤلف راسم كايجوسوز الأطفال معاه في رحلة توعية بالتراث التعليمي والترفيهي التركي، خارج نطاق تكنولوجيا الشاشات، وبرة أسوار المدارس والبيوت في الشوارع والحدائق والمتنزهات. المتحف بتديره بنت المؤلف وجوزها وبنتها، والقطة. شيء من ورا العقل بكل معنى الكلمة. يا ريت أقدر أعمل حاجة زيه في مصر.
***
“جالة أرزن” فنانة كبيرة وأستاذة في جامعة الشرق الأوسط التقنية وكتبت عدد هايل من الكتب. اتعرفت عليها من خلال عضويتنا للجنة التحكيم في مسابقة ساحة محطة القطر إياها، ورشحتني أكون عضو في هيئة الجماليات الدولية، وساعدتني أروح قونية وعزمتني عندها في في بيتها اللي عايشة فيه مع قططها. عمارة حجر 4 أدوار عمرها أكثر من تمانين سنة بناها أبوها أحد معماريين أنقرة الأشهر. الدور الأرضي بجنينة كبيرة بتبص على منحدر أخضر مستغلة الطبيعة أجمل استغلال. الجنينة نفسها على كذا منسوب وبتزرعها بنفسها، وفيها نافورة و برجولا وعنباية وشواية ومكان لكذا قعدة على بانوراما أنقرة. بيت فنانين: الحوائط حجر والكتب في مكتبة كبيرة والكنبة الأساسية في غرفة المعيشة العملاقة من الجلد. وبالطبع يوجد دفاية.
دخلنا المطبخ، كل الحوائط عليها أطباق بورسلين أبيض في أزرق. عملت لي شاي “زهرات” وأديتني باقي الكيس. وأديتني قالب جبنة “تركي” وما أدراك ما الجبنة التركي. وقطع (ترانشات) عيش تخينة جدا زي العيش الشمسي بتاعنا. جالة مواليد 1943. ولسه نـشيطة وشغالة ومنتجة وشيك جدا جدا. من 2020 وأنا بسأل عليها كل فترة، والمرة اللي بعدها لما زرت أنقرة روحنا زورناها أنا وأوزلم صاحبتي ومضيفتي. وعملت لنا كيك. ولما كنت في مكتبة متحف الحفريات لقيت كتاب بالإنجليزي عليه اسمها، اشتريته من غير ما أفكر. ولما رحت لها كتبت لي عليه إهداء. وعرفت منها إن في جامعات تركيا العريقة فيه تقليد متبع: عند بلوغ أحد الأساتذة سن المعاش يقوم طلابه/ا بعمل كتاب مجمع عنه، بعد ما يطلع معاش – هاه!
***
تركيا السبعينات اللي قرينا عنها في كتب أورهان باموق وأليف شافاق موجودة في أنقرة ومش موجودة. موجودة في معظم العادات والتقاليد والتصرفات والأماكن المتحافظ عليها. ومش موجودة في كتير من ممارسات أردوغان. وبالرغم من أن تركيا مقسومة بين مؤيدي ومعارضي أردوغان ونظامه، لكن الشهادة لله، الراجل مسك كتالوج الاتحاد الأوروبي ونفذه طمعا في الرضا، مما أفاد أنقرة كثيرا. لكن العديد من سياساته فيها معاداة للحداثة اللي بنى عليها مصطفى كمال أتاتورك تركيا القرن العشرين. وعشان كدة صاحبتي تزجان وباقي مجموعة السيدات ونقابة المعماريين وغيرهم واقفين له بالمرصاد. قضايا ومظاهرات وأحاديث تليفزيونية معارضة، بيكون لها توابع سلبية كتيرة عليهم، من ضمنها التهديد بالسجن – لكن بدون اختفاء قسري، وبدون أقصاء. وحضرت جلسات برلمانية عديدة بيتم فيها تعديد مخالفات أردوغان واختصامه. ومن هنا أعترف، مازلت متأثرة ومعجبة بالنموذج التركي!