«شنطة سفر»: روما.. عاصمة العالم(1-2)

لا يذكر التاريخ إلا وتذكر روما. فقد امتدت الدولة والحضارة الرومانية ما قبل التاريخ والعصور الوسطى وحتى عصر النهضة – حتى عندما تغيرت العاصمة إلى كونستانتيوبل (إسطنبول فيما بعد). روما يعني النوافير والتماثيل والميادين والشوارع الضيقة المتبلطة بالكوبالت وطالعة نازلة على هضابها السبعة. يعني الكنائس والكاتدرائيات والرخام والحجر. روما يعني الباستا وزيت الزيتون والكابوتشينو اللي مافيش زيه في أي حتة في الدنيا. الموتوسيكلات الفسبا الملونة والعربيات الصغيرة، وأوسم رجال شرطة. روما، زي أي مدينة في بلاد حوض البحر المتوسط، يعني الكلام بصوت عالي، والتشويح بالإيدين والمعاكسات، وعزومات المراكبية. روما يعني صوفيا لورين، وجينا لولو بريجيدا وكلوديا كاردينالي ومونيكا بلوتشي وآل باتشينو وروبرت دي نيرو.

***

إيطاليا عامة وروما خاصة كانت أول مدينة على قائمة أمنياتي للسفر. دورت على مؤتمر عمراني سمعته العلمية محترمة حيتعمل في روما، ولقيت. في يوم السفر الأحد 19 مايو 2013، رحت المطار الصبح بدري جدا، قبل ميعاد الطيارة بساعتين ونص- ثلاثة، لقيت المطار على آخره، أتاري فيه “إضراب عمال التحميل” يشل المطار ويؤخر إقلاع 20 رحلة، وإقالة رئيس الخدمات الأرضية بمصر للطيران، والمباحث تنجح في تهريب الوزير بعد اقتحام الركاب للمكاتب، والمسافرون: “واحد اثنين – شنطنا فين؟!”.

10 ساعات تأخير وقعدة عالأرض، تعرفت فيهم على سيلفيا، مدربة يوجا من جزيرة كورسيكا و عايشة في فلورنس. كانت جاية من فلسطين ترانزيت في القاهرة ومنها إلى روما ومنها إلى فلورنس بالقطر. كانت شايلة في إيدها شتلة زيتون من فلسطين عشان تزرعها في بيتها.  وبالرغم من ضعف لغتها الإنجليزية، رغينا كتير لحد ما اتفرقنا في الطيارة. ولما نزلنا في مطار روما فيوميتشيتن، اتقابلنا تاني وأنا محتاسة في حجز تذكرة القطر لمحطة روما ترميني وساعدتني.

وفي القطر، عرفت منها إن مفيش قطارات من روما لفلورنس قبل 6 الصبح، فعرضت عليها تبات معايا في الفندق بتاعي “امبيرو” القريب من المحطة ومكان المؤتمر واللي بيبص عالأوبرا، وقريب من شارع الجمهورية ومن كنيسة سانتا ماريا دي ماجيوري. وفعلا حصل. وفي نص الليل اتخضيت من نفسي، إيه اللي أنا عملته دة؟! إزاي استأمن واحدة معرفهاش كدة تبات معايا؟! يا ترى حتخليني أغيب عن الوعي وتسرقني؟ حطيت الكاميرا والكومبيوتر في شنطة السفر وقفلتها وحطيتها تحت رجليا ونمت. حسيت بسيلفيا الفجر وهي نازلة، والموضوع عدى الحمد لله.

***

السبب الأول في اختيار أوتيل أمبيرو دونا عن مئات الفنادق متعددة المستويات وعدد النجوم في روما هو أكيد موقعه في شارع فيمينالي، وسعره المناسب بالنسبة لي وبالنسبة لفطاره المتنوع. والسبب المحفز لي هو ديكوره، بيفكرني بفندقي ويندسور ومتروبول في محطة الرمل. محندق مش كبير، الرخام الأخضر، المرايات، التماثيل، الصالونات الكلاسيكية، فرش الحجرات الكلاسيك، الستاير، ورق الحيطة المذهب أو القماش… إحساس القدم، ريحة الخشب، الحوائط الحاملة، السقف العالي، جلسات الشبابيك العريضة، ضلف الشيش والزجاج.

إحساس كده إن وأنا نازلة السلم حلاقي ياوران الملك فؤاد معدي، ونبيل ما قاعد في الصالون بيحط مكعب سكر في فنجان الشاي الصيني التشيكي الساعة ٥ العصر مع شريحة كيك وشوكة فضة، وأميرة قاعدة تعزف بيانو تحت سقف مرسوم بالزيت، أو واقفة ساندة على جرامافون بتسمع أسطوانة للآنسة حياة صبري.

المهم، نزلت رحت مشي لمكان المؤتمر، لقيته مبنى كلاسيك كان أصله متحف/حوض سمك أو معرض للأحياء المائية. وأنا داخلة، لقيت سيدتين قاعدين في الجنينة عاليمين، واحدة ندهت عليا: “يا مصرية” من العلم اللي كنت لابساه في رقبتي. وطلعوا دكاترة من جامعة إسكندرية وقضينا السفرية مع بعض ومن ساعتها وإحنا أصحاب. نحكي بقى على عاصمة العالم. أول حاجة تتعمل في روما هي الأتوبيس السياحي (24 يورو للكبار/24 ساعة) مع التعليق باللغة المناسبة في السماعات. أحسن مكان فوق ورا الزجاج على طول عشان الرؤية تكون بانورامية والتصوير يكون كويس. عادة أنا بحجز تذكرة يومين واتنقل بيه داخل المدينة وأنزل عند أهم المعالم أو الميادين، وده تقليد اتبعته كتير في المدن الجديدة عليا. وبعد كدة مش بحتاج خرايط أصلا. ونادرا ما بستعمل مواصلات داخلية في سفريات الفسحة. بمشي طول النهار والليل.

***

كنت قبل السفر استرجعت معلوماتي التاريخية ومعلوماتي عن المباني والميادين من مقررات وكتب تاريخ العمارة، وركزت مع أكل جوليا روبرتس في فيلمها Eat Pray Love، ومع لف أودري هيبورن في فيلم إجازة في روما (اللي اتمصر في فيلم عبد الحليم حافظ وزبية ثروت “يوم من عمري”)، وكذلك فيلم هيلاري داف “ليزي ماجواير”. مليت عيني من الحتت اللي ناوية أروحها بالنهار حسب ترتيبها المكاني بما يسمح بيه وقت المؤتمر. وفضلت مشكلة الليل اللي لقيت حلها في المطويات الكتيرة الموجودة في الفندق عن العروض الموسيقية لمقطوعات أوبرالية واللي بتقام في الكنائس مساء. بالإضافة إلى أن كتير من المتاحف مفتوحة مساء. وبما أن روما من المدن السهيرة، فالكافيتريات في الشوارع الكبيرة والميادين “البياتزا” مفتوحة لوقت متأخر.

البانثيون
البانثيون

أول مرة ركبت الأتوبيس السياحي في روما حسيت إني ركبت كبسولة الزمن وسافرت لكل حتة كنت بحلم أكون فيها. حياة كاملة بشوفها وبسمع حكاياتها وموسيقتها في ودني، أقف هنا أمام احترام الطليان لتاريخهم وإزاي مبروزينه وعارضينه ومتعاملين معاه، حتى المهدم منه وحتى اللي اتغير على إيد حكام كانوا “بيطوروا” المدينة في حقبات مختلفة. أكتر حاجة ملفتة للنظر أن أهم ميادين روما (وهي كتير جدا) فيها مسلات مصرية قديمة.

المسلات إما على قواعد منفردة ومتصممة مخصوص لها، أو متصمم لها قواعد ضمن تصميم النوافير من الحقبات الفنية المختلفة بعد عصر النهضة (باروك أو روكوكو أو نيو كلاسيك). مصر -حرفيا – في كل حتة في روما! والشعور هنا متضارب جدا، بين الفخر بمواقع المسلات وتزيينها لأهم وأكبر ميادين روما، وهي دايما مركز النظر والاهتمام ونقطة التلاقي، وبين الحسرة على غياب أو سوء تصميم الميادين عندنا، وعدم الاستعانة بالمفردات المعمارية القديمة، أو الفنية منها إلا اللهم في كام ميدان ما حدش يقدر يعديهم إلا جري خوفا من السيارات اللي ليها الأولوية عن المشاة، حتى فقدنا الشعور بحقنا في مياديننا كحيزات عمرانية لها أدوار إنسانية واجتماعية (وسياحية).

***

أجمل خروجات روما هي السنكحة في ميادينها الجميلة الكبيرة الواسعة المخصصة للمشاة، واللي معظمها بيرجع لروما القديمة وبرغم انتفاء النشاط الأساسي لها، لم يتم هدمها والبناء فيها/عليها، بل تغيير نشاطهم وإعادة تصميمهم أو إضافة تماثيل أو نوافير واستغلالهم كمناطق عمرانية نشيطة وجاذبة لقطاعات وأعمار مختلفة وجنسيات مختلفة أيضا. مثلا ساحة نافونا مثلا، واللي كانت أصلا مضمار سباق في روما القديمة، وعدت عليها السنين، وعدى عليها فناني الباروك والروكوكو بروميني وبرنيني، صمم فيها كاتدرائية، واللي صمم فيها نافورة. وزي أي عمل فني أو معماري في روما، فإحدى نوافير نافونا الثلاثة تتوسطها برضه مسلة مصرية قديمة وهي “الأنهار الأربعة” لبرنيني، والأنهار هم نهر النيل في إفريقيا، نهر الغانج في آسيا، نهر الدانوب في أوروبا ونهر ريو دي لا بلاتا في الأمريكتين. والشيئ بالشيئ يذكر، البياتزا دي كانت بتطل عليها شقة صوفيا لورين في فيلم “أمس، اليوم وغدا” إنتاج 1964.

أول مرة رحت البانثيون اتخضيت، كان في بالي إني حلاقي حاجة كدة ليها رهبة من بعيد زي الهرم. صدمت من صغر حجم البياتزا وكمية الزحمة والكافيرتيريات والرجالة اللي لابسين أزياء المحاربين الرومان، وبيضحكوا علينا – السياح- عشان نتصور معاهم. البانثيون بجلالة قدره. البانثيون يا ولاد. إلحقوني يا ناس. البانثيون أي حد يقدر يدخله كدة؟!!! لا تذكرة ولا أمن ولا ممنوع ولا قفلنا ولا ممنوع التصوير ولا فين التصريح ولا ممنوع الستات ولا أي حاجة من اللي بتعرض لها في مدينتي القاهرة؟؟؟؟ عادي كدة؟؟؟؟ وإذ بالبانثيون من جوة له هيبة غريبة. وألوف الزوار الموجودين فيه دول مالهمش حس (ألوف دي مش صيغة مبالغة، فمتوسط عدد زوار البانثيون سنة 2019 كان 9 مليون يعني متوسط اليوم الواحد 25 ألف زائر)؟؟ الصوت الوحيد المسموع في المكان هو صوت قداس مقام على جنب.

***

الحاجة الوحيدة الممنوعة هي الفلاش بس!!! الخروج من البانثيون زي الخروج من جلسة مساج، الجسم والعقل والنفس في حالة استرخاء تام. غالبا الزيارة دي بتكون محتاجة قعدة صمت وتأمل كدة بعدها، يا إما على سلالم النافورة عند المسلة، والعينين على مدخل البانثيون، أو في واحدة من الكافيتريات الكتيرة اللي في الساحة، واللي مش عاملين دوشة، واللي كلهم أحلى وأبسط من بعض، واللي كلهم أسعارهم في متناول سائحة مصرية على قد حالها زيي، واللي كلهم من غير حد أدنـى واللي كلهم فيهم واي فاي مجاني.

برضه اللي اتخضيت لما زرتها لأول مرة كانت نافورة تريفي. الساحة من حيث المقاس كانت أصغر من توقعاتي بالنسبة للي رسمته في خيالي من الأفلام. الشوارع حواليها والمؤدية لها وعندها زحمة غير عادية والناس عمالة ترمي العملات وتتمنى أماني وأغاني. لما بنتي أمينة كانت معايا، قعدنا ييجي ساعة نحاول نتصور لوحدنا وورانا النافورة وما عرفناش! وفضلنا ندور عالكوافير اللي قصت فيه أودري هيبورن شعرها “ألا جارسون” هناك في فيلم اجازة في روما مع جريجوري بيك 1953 بس للأسف ما لقيناهوش. بس قعدنا شويتين ثلاثة نحس بالمكان ونتأمل ونرغي ونتصور ونكلم الناس. لاحد قال “كل سنة وإنتي طيبة”، لا حد قال “اللي حيطلب راح يقعد، واللي ما يطلبشي يبعد”، ولا شحاتين يبيعوا أي حاجة بالعافية ولا أي مضايقات من أي نوع.  الناس بس تسألني: “مدام، ممكن تصورينا مع بعض؟”.

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: حكايات عن الناس والعمران والتقاليد والفنون

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر