«شنطة سفر»: أمان للسيدات المسافرات وحدهن (1-2)
لم تكن إسطنبول أبدا على قائمة مدن أمنياتي. فكتير من جيلي كان ارتباطه بإسطنبول وبتركيا عامة هو الأيام المفتوحة في البيوت لشراء هدوم وارد تركيا. وخاصة وقت جهاز العرايس، وشوية مفارش “سيرما”. حتى أمي لما سافرت أيام ما كنت في الجامعة جابت لنا شوية هدوم ذوقها حلو من شارع “عثمان بيه” الشهير.
وفي ثقافتنا بعض التباهي باللي أصله تركي زي حالاتنا، وإحنا بنحاول نلاقي لنفسنا ارتباط بمحمد علي باشا باني مصر الحديثة. وكان عندنا دايما علاقة متوترة كدة مع الأتراك، خلافة عثمانية واحتلال حوالي 500 سنة، وتأثر بالحبرة واليشمك. وحاجات كتير من أصناف الطعام الجميلة والكثيرة: الشركسية، كفتة داوود باشا، ضولمة، وقائمة طويلة على رأسها القهوة التركي.
ومن المعروف كمان إن التدخين و”القهاوي” ومشروب “البوظة” حاجات اشتهرت في مناطقنا الشعبية وقت العثمانيين. ارتباطي الشخصي بإسطنبول كان من خلال تاريخ العمارة. لم أكن من محبي العمارة العثمانية في مصر لأنها دايما بقارن بينها وبين العمارة المملوكية. وإن كنت من عشاق محمد علي باشا والخديوي إسماعيل وسلالة السلاطين والملوك والأسرة العلوية كلها.
***
أول زيارة ليا لإسطنبول لم تكن مخططة، كان وراها حكاية لا يسع المجال لذكرها هنا. المهم أنها كانت مجرد ثلاثة أربعة أيام مع أمينة بنتي وناتالي صاحبتي وبناتها مايا ولارا وأختها مادلين، وصاحبتنا نرمين وبناتها مايا وتيا. عادة لما بسافر مع حد “نابه” زي ناتالي، بسيب نفسي، وبسبب ظروف السفرية كان كل أملي نقضي يومين لطاف. وفعلا، أخدت فكرة لطيفة عن إسطنبول وأحيائها وآثارها وأهم أكلاتها وحلوياتها.
وبعد الزيارة الأولى السريعة غير المخططة، حطيت إسطنبول في دماغي، بس ما رتبتش رحلة ثانية لحد ما جت الزيارة الثانية برضه صدفة. آخر 2015 كنت مسافرة سكوبيا عاصمة مقدونيا عشان أدي محاضرات عن العمارة الإسلامية في القاهرة وأتفسح يومين في مقدونيا بلد الإسكندر الأكبر. وكان عندي كام يوم إجازة بسبب مجموعة مناسبات دينية ورا بعض وقتها: مولد النبي على الكريسماس على نهاية أسبوع على إجازة المذاكرة اللي بنديها للطلبة قبل امتحانات آخر الترم. وأنا بحب السفر بالليل عشان أوصل البلد الصبح بدري أبدأ اليوم من أوله.
الترانزيت كان في مطار إسطنبول. وعند وقت ركوب الطيارة لسكوبيا، أبلغونا إن مطار سكوبيا مغلق بسبب الثلج، وإن عندنا فرصة نركب طيارة ونروح بلادنا، أو نبات في فندق المطار ونسافر سكوبيا في نفس الطيارة تاني يوم. كان قراري إني أخرج من المطار إلى إسطنبول أعيش الـ24 ساعة دول وأرجع تاني بكرة الفجر أركب الطيارة لسكوبيا، وبعت لهم في جامعة سكوبيا إيميل بهذا المضمون.
***
وبعد موال صعوبة التفاهم مع الأتراك بخصوص الشنط والإجراءات، أخدت الفيزا من المطار وطلعت. قابلني سائق تاكسي لا يتحدث الإنجليزية زي معظم الأتراك، بكام يا عم لحد السلطان أحمد؟ قال بالإشارات 50. وصلني لحتة كدة بالقرب من السلطان أحمد أمام مكتب تاكسيات وأديته 50 يورو. وأصر أنه يأخدني لفندق محلي متواضع وحيعجبني جدا وححس إني في زمن “حريم السلطان”. لا يا عم شكرا مش عايزة، لا دة رخيص وبيحبوا المصريين وحيخدموا. طيب ماشي.
بالرغم من إني نقيت أصغر وأرخص حجرة، إلا أني فوجئت لما طلعت الأوضة ودخلت عالواي فاي وراجعت سحب الفيزا أنهم أدوني “الجناح السلطاني” بمائة دولار في الليلة (كان وقتها بسبعة جنيه وشوية). الحجرة كانت فعلا غريبة، سرير بأويما من الورود الملونة وبستاير و”كهارب” وحاجة كدة فرح العمدة اللي ممكن تعجب أثرياء الخليج في السبعينيات. أما الحمام فكان فعلا حكاية، رخام أبيض بحوض رخامي وبانيو وشمع وكوز حمام وغيره. حريم السلطان جدا قوي خالص.
المهم، نزلت أتفسح، الأتوبيس السياحي، وسنكحة في منطقة السلطان أحمد/آيا صوفيا/توب كابي لحد وقت الغدا في أحد مطاعم الأكل التركي الشعبي مش السياحي ثم حضور جلسة سماع في هودجا باشا (مركز ثقافي تراثي). ثم عشا أكل بحري تحت كوبري جلاطة، وبعدين أكل حاجة حلوة وقهوة مضبوطة في حافظ مصطفى أجمل حلواني في العالم، أو سنكحة في ميدان تقسيم وأكل فاكهة طازة من بياعين الشارع هناك اللي في منتهى النظافة. رجوع للفندق، المطار، تسجيل الدخول، نفس الإعلان: مطار سكوبيا مغلق بسبب الثلج، وإن عندي فرصة أركب طيارة وأروح بلدي، أو يدوني حجرة في فندق المطار وأسافر سكوبيا في نفس الطيارة تاني يوم. “إلغي رحلتي”، كان القرار.
***
وبعت رسالة لجامعة سكوبيا بالاعتذار عن الحضور، وأبعث رسالة أخرى رسالة للعائلة: أنا حقضي الإجازة كلها هنا. وبعد مهاترات الإجراءات في المطار، طلعت، لقيت نفس سائق التاكسي بتاع إمبارح. بس المرة دي أنا اللي رحت عليه، وكنت حجيبه من شعره، لأنه إمبارح لما قال 50، وأديته 50 يورو، اكتشفت لما جيت أركب تاكسي الفجر إن ثمن الرحلة 50 ليرة تركي مش خمسين يورو، يعني هو سارقني في مبلغ كبير جدا، واعتمد على إني سائحة ومش فاهمة حاجة ودبسني في الفندق إياه اللي كمان ضحكوا عليا فيه.
الواد اعتذر وقال ممكن يرد باقي الفلوس وممكن يوصلني ببلاش. المهم، المرة دي كان لازم أختار فندق بمزاج. نزلت تاني ميدان آيا صوفيا وعديت المترو وقعدت على قهوة ودخلت على تطبيق بوكينج.كوم. لقيت في منطقة الشوارع الضيقة والحواري اللي أنا موجودة فيها دي، فندق صغير محندق كدة كله على بعضه كام أوضة، وموصوف أنه “أمان للسيدات المسافرات وحدهن”.
من حارة لسلم لحارة دخلت الفندق وأخدت حجرة في الدور الرابع لها شباك قدام السرير بيبص على بانوراما السلطان أحمد وشباك على الشمال بيبص على آيا صوفيا وخلفيتها لحد البوسيفور. وعلى السطح كان المطعم بالمنظر البانورامي المفتوح من كل النواحي. كان عليا بقي أخطط للكام يوم كويس. حبيت إسطنبول بالقدر اللي خلاني أتصور إني لو حعيش في يوم في مدينة غير القاهرة أو روما، حتكون إسطنبول. وزي روما، أصبحت إسطنبول بالنسبة لي محطة مهمة، ولو لسبب ما ماسافرتش على مصر للطيران بيكون الطيران التركي، واستغل فرصة سهولة الحصول على الفيزا التركية (غالبا معايا شنجن +فوق 40 سنة) وأعدي على إسطنبول.
***
عندي بعض التحفظات على ضيق بال الأتراك وحديتهم أحيانا وعدم تحدثهم الإنجليزية في كتير من الأماكن والمواقف اللي لازم يتكلموا فيها إنجليزي. وبالرغم من ذلك، إلا أن إسطنبول فعلاً من أجمل المدن اللي بتجمع بين التاريخ والتنوع الثقافي والعمراني. وبالرغم من اتساعها، وزيادة عدد سكانها ووجود بعض الزنقات المرورية في ساعات الذروة، إلا أنها مدينة نظيفة حتى في المناطق اللي زي الموسكي عندنا، واللي لفيتها كويس.
مفيش ورقة مرمية عالأرض، المترو زي الفل، وكتير من محطات المترو في الشارع متحجزة بزجاج بلاستيكي (بلكسي) دايما متلمع ومفيش أي بصمات أو وساخة. الأكل والشرب رخيص حتى في المناطق السياحية، وكمية الأكل وفيرة وفي كتير من الأحيان أكبر من قدرتي كأكيلة على الانتهاء منها. وبياعين الورد وبياعين الشاي (ويساوي في أهميته شرب القهوة عند الأتراك) وبياعين الأكل والشرب من الذرة والسميط وأبو فروة والعصير الطبيعي والفاكهة الطبيعية المتقطعة بمزاج ومتغلفة زي الفل وبياعين آيس كريم “المستكة” والساندوتشات والشيبسي (مش البطاطس المحمرة) في الشوارع وفي المعديات إلى جزر الأميرات في كل مكان وكلهم زي الفل وبأسعار رخيصة جدا.
***
إسطنبول بلد سهيرة وأمان وفيها ناس كتير جدا محتفظة بثقافتها القديمة اللي قريناها في قصص أورهان باموق “إسطنبول” و”غرابة في ذهني” وقصص أليف شافاق “لقيطة إسطنبول” و”بنات حواء الثلاثة” وغيرها مما يجعلها متميزة بالنسبة لي وقريبة مني. إحساسي أنها متقدمة ونظيفة، وفي نفس الوقت بأسمع فيها الآذان، وبلاقي فيها خليط من البشر من كل الأديان والثقافات. الأتراك أقويا وعنديين وبيقفوا للي مش عاجبهم.
وحضرت مظاهرات عنيفة في ميدان تقسيم ضد أردوغان اعتراضا على اقتراح بيع حديقة في الميدان لبناء عمارات سكنية، وانتصرت إرادة الشعب!!! وشهدت أيضا مظاهرات ضد “لطع” مفردات عمارة عثمانية تاريخية على مباني حديثة “للحفاظ على الهوية” حسب وجهة نظر أردوغان.
كما تنتابني غيرة شديدة من كلام الأتراك الإيجابي عن بلدهم ورفرفة العلم التركي فوق معظم المباني في المدينة. ومن أكتر الأمور إثارة لغيرتي هو أن تذكارات إسطنبول الرخيصة في الأكشاك صنع في تركيا مش في الصين. وفي إسطنبول، وفي أكثر المناطق السياحية ازدحاما توجد مراحيض عامة، ومعظمها “بلدي”. وكلها نظيفة زي الفل (حتى حمامات البازار الكبير التي يقف أمامها آلاف الناس في طوابير طويلة). كمية المناطق المفتوحة والخضرا ومناطق المشاة في كل مكان بتسهل الحياة وتحليها. وأحب أضيف أن الطيران التركي هايل وكان دائما اختياري الثاني بعد مصر للطيران، ودايما يكسب مركز أفضل شركات الطيران الأوروبية.
***
قبل ما أسافر إسطنبول أول مرة كانت بعض الدراما التركية آخذة في الانتشار. لكن ما كانتش لافتة انتباهي، بداية بنور ثم فاطمة. لكن كنت بلمح مشاهد لما أكون مع أصحابي، وكان بيلفت نظري نظافة الشوارع ورقة البيوت وتفاصيلها. وخاصة البيوت أبطال القصص من الفقرا زي فاطمة مثلا، ووجود الكثير من التفاصيل اللي “شبهنا”.
بعدها جه الانبهار بمسلسل “حريم السلطان”. وبرغم المغالطات التاريخية في المسلسلات دي، إلا أنها قربتنا شوية من الثقافة التركية. بعد ما ارتبطت بإسطنبول وجدانيا، ابتديت أشوف تمثيليات وأفلام تركية عشان أتعرف أكثر على إسطنبول وأهلها. قررت أشوف إيه حكاية المدينة دي. ابتديت بمسلسل نساء حائرات اللي بيحكي علاقة مجموعة من سيدات الطبقة الوسطى في إحدى حارات إسطنبول في سياق كوميدي. الحقيقة المسلسل عجبني. وأتعلمت منهم حاجات كتير مفيدة وفيه حاجات ما عرفتش أطبقها عندنا (زي قلع الحذاء بمجرد الدخول إلي المنزل). والنظافة مع البساطة في الديكورات والحدائق الخاصة الصغيرة، وبعض الأكلات. واعتمادهم على نفسهم في كتير من الأعمال المنزلية مثل الخبيز والحياكة والـ“بستنة”.
وبعد نساء حائرات كان مسلسل على مر الزمان اللي ربطني بإسطنبول السبعينات اللي وصفها أورهان باموق بحذافيرها في رواياته. وبعدين وقعت في حب الأفلام التركية وخاصة بعد تعلقي بالممثل التركي أنجين التان بطل مسلسل “أرطغرل”.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: روما.. عاصمة العالم (2-2)