شعراء السيرة الهلالية.. “جابر أبوحسين” أمير سيرة بني هلال
كتب – مصطفى عدلي
بقدوم رمضان، نستقبله بسيرة شعراء السيرة الهلالية وحكاياتهم، وكيف أثروا السيرة و كل من سمعوها منهم فى سلسلة شعراء السيرة الهلالية، ونستهل السلسلة بـ”أمير السيرة الهلالية “جابر أبو حسين.
“قد خاب عبدُ لا يصلي على النبي، نبي عربي قد جاء بالبرهان، أصلي على طه الذي جاء بالهدى، نبي الهدى يا صفوة الرحمن، يا سعد من أكثر صلاته على النبي، ويا سعد من صلى وصام رمضان، أصلى على المبعوث من آل هاشم، نبي الهدي صفوت كريم رحمن”.
كانت هذه المقدمة وهذا المفتتح من المديح النبوي الذي طالما استهل به الشاعر جابر أبوحسين، ابن مركز أخميم بمحافظة سوهاج، كبير شعراء السيرة الهلالية في الوطن العربي، الحفلات التي كان يحيها العم جابر أبوحسين، وكانت غالبيتها مناسبتها في الأفراح التي كانت تمتد لثلاثة أيام يسرد خلالها الراوي أحد قصص السيرة ذلك التراث الشعبي الخالد الذي كان يسجل من خلال مسجلات شرائط الكاسيت ماركة 543 “الخورفيشة” يابانية الصنع، وكانت تعرف باسم مسجل سماعة ونص، وكانت من أفضل أنواع المسجلات وأكثرها شهرة واقتناء لأبناء الصعيد فترة من الستينات وحتى مطلع التسعينات.
اكتشاف
العم جابر، كما كان يحب يناديه الشاعر القنائي الراحل عبدالرحمن الأبنودي، وهو من اكتشفه وقدمه للإذاعة المصرية، بعد أن عرفه عليه الإذاعي القدير الخال فهمي عمر، ابن قرية الرئيسية بمركز نجع حمادي، الذي كان قد تتلمذ بمدرسة دشنا الابتدائية، وشغل منصب مدير إذاعة الشعب فترة السبعينيات، حينها خرج المارد من القمم، وأصبح لابن آبار الوقف شأن أخر، ومكانة غالية لدى عشاق السيرة الهلالية الذين ظلوا يحتفظون بشرائط الكاسيت التى كانت تسجل عليها حفلاته ماركة أمير -حتى وقتنا هذا-، وهو نوع شهير من شرائط الكاسيت الفارغة التي كانت تعبأ بصوت الشاعر أثناء الحفلات التي كان يحييها، وبفعل دوران عجلة التكنولوجيا انسحبت قصص ومواويل الشاعر الكبير منها إلى اسطوانات (cd)، ومنها إلى كروت الذاكرة، فلاشات الميموري، وشبكات الإنترنت التي أعادت بعث صوت الشاعر لأجيال الألفية الثالثة من جديد، وإن كان الشباب منهم يفضلون تسجيلات الإذاعة عن الحفلات لنقاء صوتها، فيما يرفضها الأجيال القديمة بسبب تداخل صوت الأبنودي في كثير من الأحيان لتوضيح ألفاظ ربما تكون ثقيلة على مستمع السيرة الجديد، أو من أجل الترتيب الزمني لأحداث السيرة.
الحريف
يقول الحاج عدلي أبو الحمد، واحدًا من أهم مؤرخي قصص السيرة الهلالية عبر شرائط الكاسيت في الصعيد، إن مقولة “لولا أنه يخشى حرمة الله، كان رقص الطير في سماه”، والتي كان يرددها محبو الشاعر، لم تأت من فراغ، مشيرًا إلى عذوبة الصوت التي كان يتمتع بها الشاعر وتمكنه منه أدواته فبجانب أنه كان شاعرًا وقوالاً لا يشق له غبار.
يؤكد عدلي: أن أبوحسين كان “حريفًا” في العزف على الرباب، وكان سبيب الرباب يضحي بين يديه قطعة من الحرير ينسج بها معزوفات تجبر أصحاب البنادق على التوقف عن ضرب النار الذي كانوا يطلقونه تحية لأهل الفرح، للاستماع لصوت الشاعر الذي كان يكره عادة إطلاق الرصاص في الأفراح، وكان يردد دائمًا: “بتطرد الملايكة من المكان”، وحرصًا على مزاج الشاعر كانت تنكس البنادق وتخضع رجالة بشنبات وتسيل دموعهم مثل الأطفال عندما يصل لهذا الموال: “يقول أبوزيد المسمى سلامة جور الليالي يبهدل الإنسان، آهين من الأيام يا كبير بلوتي، تريها الليالي تبهدل الشجعان، بتميل على الأمراء وتهدم فرشهم، وترفع أسافل مالها برهان، وتميل على الأخين تاخد عزيزهم ما تخلي غير الخاين الندمان، كنا بنجد في سرور مع هنا، كنا فى راحة وخصمنا حزنان، جتنا ليالِ شوم لا مرحب بها، خلت دموعي مزقوا الأجفان، ياما ضحكنا وكان البكاء عند غيرنا وادي اليوم بكينا وخصمنا فرحان، فاصبر على حلو الليالي ومرها لما يريد الواحد الرحمن”.
السر درويش
“محدش يعرف إن كل الهلومة اللي وصل ليها جابر بسبب دعوة درويش دعي ليه في وقت كانت أبواب السما مفتوحة، الدرويش أتبسط من الشاعر لما قسم معاه لقمته ورضاه فربنا رضي عنه، وفيه ناس بتقول إن سيدنا الخضر تفل في خشمه فبقي الشعر خاتم في يده”.
مضيفا: قليلون هم من يعلمون أن السر في النجاحات التي حققها الشاعر الراحل، بسبب درويش كان هائم على وجهه، تقابل مع الشاب جابر أبوحسين في مقتبل عمره، وكان مزارع يحمل الغلال على ظهر حماره، رفقة أحد أقاربه وكان شريكًا معه في المحصول، فاستوقفه الشيخ وطلب شيئا من هذه الغلال.
يستكمل أبوالحمد، أن شريكه رفض طلب الدرويش خاصة بعد أن جلس بجوارهما وطلب مشاركتهما في طعام الغداء، فأصر الشاب جابر على إطعام الدرويش وإعطائه ما يريد رغم أن ذلك الأمر كان سببًا في الانفصال عن شريكه، ولكنه وبحسب قول عدلي فإن دعاء الدرويش الذي أرضاه يبدوا أنه كان مستجابًا عند ربه، وتحققت دعوة ونبوءة الدرويش الذي قال له أنه في يوم من الأيام سيكون له شأن عظيم ومقام كبير بين الناس، “كان معروفًا بحبه للدراويش وأولياء الله الصالحين، وكان يخصص وقتًا كبيرًا من حفلاته في مدحهم وذم من يحقرهم أو يتجاهلهم، من خلال مربعات الشعر التي أشتهر بها.
السنباطي
“الله عليك يا سنباطي”، اقترن هذا اللقب بالعم جابر وكانوا ينادونه به أثناء الحفلات كناية بفنونه التي لامست عظمة وجمال ألحان الموسيقار الكبير رياض السنباطي، الذي يعد واحدًا من أشهر ممن قاموا بتلحين أغنيات سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
“يا عبدالعظيم”، كان يقولها في وسط حفلات السيرة التي كان يحيها بصوته غلب الألم والحسرة، يقول عدلي: قليلون من كانوا يدركون أن الشاعر تذكر نجله عبدالعظيم جابر، الذي استشهد أبان حرب أكتوبر 1973، وكان هذا النداء بمثابة مرثية للشهيد الفقيد أو تخليدًا لذكراه، وظل البعض ينادونه بعد هذه الواقعة بلقب أبو أحمد الأبن الأصغر للشاعر الذي قام بزيارة المأذون لعقد قرانه في مناسبتين.
ويلمح تاجر شرائط الكاسيت أنه بخلاف الشعراء السابقين والحاليين الذين كانوا يحرصون على تخصيص وقت كبير من الحفلة “للسلامات” بأسماء الأشخاص المتواجدين في الفرح، كان “مقل” في السلامات فلم يكن يومًا يسعى فى طلب المادة، وفي أحد الحفلات التي أقيمت بدشنا فترة الثمانيات كاد أن يشتبك مع أحد المدعوين الذي أطال في التحية بالنقودة، وخاطبه قائلاً كما أوردت شرائط الكاسيت التى سجلت الموقف “أنا مش بقول شوبش، معاك حاجه إنفقها في سبيل الله، ممعاكش اقعد مؤدب زيك زي باقي الناس اللي في الليلة”، وأضاف: العقلاء قاموا باحتواء الموقف وعاد بعدها الشاعر لصفوه مرة أخرى.
الصندوق الأسود
“لم يكن الشاعر جابر أبوحسين، مجرد راوي ماهر تراث السيرة الهلالية فقط، ولكن كان يمثل الصندوق الأسود لهذا الموروث الشعبي الخالد”، هكذا يؤكد الحاج سالم رمضان، موظف بالمعاش، ابن قرية السمطا، التي طالما احتضنت حفلات الشاعر الكبير الذي ولد عام 1913 وهو نفس العام الذي ولد فيه خالد بن عبدالعزيز آل سعود، الذي تولى حكم المملكة العربية السعودية في 25 مارس 1975 عقب واقعة اغتيال الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وهو نفس العام الذي ولدت فيه الممثلة الكوميدية زينات صدقي، أشهر عانس في تاريخ السينما المصرية، مضيفًا: “لابد أن يتم تخصيص يوم للاحتفال والاحتفال بميلاد هذا الرجل الممتع الذي مازال يمتعنا بفنونه رغم أنه فارق محبيه أواخر الثمانينات”.
ذكريات
يورد رمضان، أنه لديه في منزله كرتونة من شرائط الكاسيت القديمة غالبيتها من تسجيلات حفلات أبوحسين، والبعض منها لكوكب الشرق، مشيرًا إلى ثمة رابط مشترك بين الاثنان، فكلاهما قدم فنون ظلت باقية رغم دوران عجلة الزمن، وكلاهما مر بمعاناة في مقتبل حياته، مضيفًا: يقال أن الشاعر عمل كناسًا في مقتبل عمره، قبل أن تأسره نداهة السيرة فتارة يدندن في مقتبل السيرة بلهجة تدعو للفخر: “أنا الهلالي أنا جمل المحاميل، كل العرب يفهموني، راجل عمري عن الحدود ما حمل، للمرجلة قدموني، أنا سلامة زعيم النجود، ابوي رزق وأمي الشريفة”، وتارة أخرى يخفض صوته الذي ينساب مع صوت الرباب كواحدًا من شلالات فيكتوريا “متى اللى انكتب فيه أحد يمحيه، تربي صغير السن علشان ينفعك إن خالفك خسارة الرباية فيه، كمان توضع السمن مطرح الزيت تعدمه، كل ماعون ينضح بما هو فيه، تور ازرع المرير والشوك في الخلا، هات له من خاص العسل واسقيه، وغيب عنه عام وارجع ذوقه، تلقاه مرير وشوكه فيه.
يذكر أن الخال عبدالرحمن الأبنودي، استضاف “جون رينولدز” وهو أحد الباحثين الأمريكيين، وقام بتسجيل ساعات عديدة من السيرة الهلالية بصوت الشاعر الراحل جابر أبو حسين، الذي يقال أيضًا أنه كان يحفظ نحو مليون بيت من الشعر، وبخاصة الإمام الشافعي والإمام على بن أبي طالب، كرم الله وجهه، رغم أن الشاعر أبو أحمد كان أمي لا يجيد القراءة أو الكتابة.