«شعبان عبدالرحيم».. غزة والقيمة الوهمية للفن الهابط
تكتسب بعض الأعمال الفنية قيمة خاصة، لا تنبع من ذاتها بقدر ما تنبع من الواقع الأسطوري الذي نعيش فيه. وأهم خصائص العالم الأسطوري كما نعلم، هي الجمود أولا والتكرار ثانيا. فما يحدث مجرد انعكاس لحياة سابقة جسدتها الأساطير، وسوف يحدث إلى ما لانهاية، وما أشد ما نجده في واقعنا من جمود وتكرار مأساوي لنفس الأحداث. الأمر الذي تبدو معه بعض الأعمال الفنية وقد امتلكت قدرة على استشراف المستقبل، وقدرة على البقاء رغم مرور الزمن، وهي أبعد ما تكون عن روح الاستشراف، أو هي من الصمود أمام الزمن. لكن الواقع الخارجي الغريب هو ما يوهمنا بتلك القدرات، كما هو الحال مع أغنية (بكره إسرائيل) لشعبان عبدالرحيم، التي بعثتها من مرقدها أحداث غزة الجارية.
قدم شعبان عبدالرحيم أغنيته سنة 2001، أي منذ ما يقرب من ربع قرن. وكان من الطبيعي أن تنطفئ الأغنية بعد اشتعالها بوقت قصير بسبب ضعف قيمتها الجمالية وخلوها من العمق، وتعبيرها السطحي والمباشر عن شعور جماعي عام.
الشعور الذي تعبر عنه الأغنية ليس عاما فحسب، لكنه يتجدد باستمرار، ولهذا يختلف عن طبيعة المشاعر التي تبرد عادة بمرور الوقت، فدائما ما يجد الوقود الذي يؤججه من جديد. لتبدأ دورة أخرى من نفس الشعور الأليم، وهكذا، نظل ندور في نفس المكان والزمان وإن اختلفت تواريخ التقويم.
***
هكذا كانت أغنية شعبان عبدالرحيم تتجدد بحكم الظروف لا بقوة دوافعها الجمالية. ولعل أشهر تجدد لها تم عند توظيفها فنيا في فيلم “السفارة في العمارة” لعادل إمام والذي ظهر سنة 2005، بفضل الفيلم حافظت على تجددها لأن مناسبات عرضه كانت أكثر بكثير من مناسبات عرض الأغنية. ناهيك عن الجماليات الأخرى التي تمتع بها الفيلم وأفادت الأغنية بقدر ما استفادت منها.
تأتي حرب غزة الأخيرة لتستدعي أغنية شعبان عبدالرحيم لا لتلبي حاجة شعبية كانت تعبر عنها. لأن النفوس العربية تجاوزت مرحلة “أنا بكره إسرائيل” إلى مرحلة أعمق من حيث حدة الغضب والنقمة عليها وعلى العالم أجمع. لكن الأغنية تكتسب هذه المرة قيمة توثيقية تجعل الأحداث أكثر وضوحا. يقول نص الأغنية التي كتبها إسلام خليل:
العمر لو يطولْ
لو حتى كان قليلْ
هفْضل طول عمري أقولْ
أنا بكره إسرائيل.
حد يلحق ياسادة
إسرائيل يُوقَفْ لها
عاملة حرب إبادة
على غزة كلها.
***
عاملين زي الديابة
شعب كله سفَّاح
بيحاربوا ناس غلابة
ما عندهمش سلاحْ.
ياعالم مستفزة
خلاص الكيل طفح
نازلين ضرب في غزة
قريِّب من رفح.
أنا كل يوم أبيِّتْ
جوايا فيه مرار
وكل طفل ميت
بيقِيد في قلبي نارْ.
***
فحروا تحت الأقصى
ماحدش قال غلط
وكل يوم في كارثة
خلاص عيارهم فلت.
هيعيشوا ويموتوا أعداء
ودولة مفترية
واللي ما عندهوش انتماء
اتجوز إسرائيلية.
مش قبل ما يمشي ناوي
يقلبها مدعكة
من يومه وش بلاوي
مولود في معركة.
***
الدعوة يابوش قريب
عليك أنت وأبوك
كان يوم أسود منيل
ساعة ما رشحوك.
كان حكمك أكبر غلطة
صدق اللي قال مجنون
يارب يجيلك جلطة
زي بتاعت شارون.
لو كان فيه قسم دولي
كنت اشكي منهم
وكنت أعور نفسي
وأحبسهم كلهم
ياعرب شوية همة
الناس عايشين في نار
أنا نفسي في مرة قمة
نطلع فيها بقرار
العمر لو يطول
أو حتى لو كان قليل
أنا هفضل طول عمري أقول
أنا بكره إسرائيل
بس خلاص أنا قرفت منكم.
***
لقد تكرر أداء الأغنية في أكثر من مناسبة مع إضافة بعض المقاطع، يقول مثلا في إحدى صياغتها:
بكره إسرائيل.. وأكره إيهود باراك
عشان دمك تقيل.. والناس كلها كرهاك
طول عمر مصر راسيه.. وبتستحمل كتير
ولكن لما تغضب أهي سحبت السفير
بكره إسرائيل.. واسأل دم الشهيد
واسأل اللي عبرو.. أكتوبر المجيد.
من الواضح هنا احتواء النص على صور وكأنها منزوعة من أحداث اليوم. ومن الواضح أيضا امتلاء النص بالأفكار السخيفة التي تشوه الموضوع، وتدمره بغباء شديد. وتساهم في هبوطها الفني كما هو حال المقطع الذي يأخذ فيه المتكلم المدافع عن القضية صورة البلطجي الكذاب الذي يجرح نفسه كي يلقي بالتهمة على سواه. ويتسبب في سجن أبرياء، الأمر الذي يتعارض تماما مع شرف القضية التي تحملها الأغنية، وموقفها الصارم ضد البلطجي الأكبر الذي تتعدد أشكاله ويبقى سلوكه كما هو، سواء ارتدى قناع بوش الابن أو الأب أو كلينتون أو بايدن.
***
الأغنية مازالت صالحة حتى الآن، وإن فقدت رونقها، فقد كان من المثير وقتها، خروجُ الصرخة من مطرب مثل شعبان عبدالرحيم تحديدا، لأنه يرتبط في الأذهان بالأمية والبعد عن القضايا الجادة. وبمرور الوقت فقدت المفاجأة قيمتها، كما أن صلاحية الأغنية زادت لأنها تحولت إلى وثيقة تؤكد من ضمن ما تؤكد على أن المقاومة ليست سببا فيما يحدث من عنف وحشي وجنوني ضد المدنيين وخاصة المرضى والأطفال.
لأنه حدث من قبل مرات ومرات بدرجات مختلفة. فالصور التي ترسمها الأغنية تنطبق تماما على الصور الحالية، وما يجري في غزة الآن لا يمكن رده للمقاومة لأنها بدأت بالهجوم، فلا جديد في الأمر سوى أن إسرائيل دفعت هذه المرة جزءا من الثمن.
للزمن مفعول السحر، مجرد مروره على بعض الكلمات يمكن أن يمنحها قيمة إضافية. ومن الخطأ رد القيمة لصاحب الكلمات، لأن قيمتها جاءت لأسباب لا دخل لإرادته فيها. ولا تشهد بأصالته الداخلية بقدر ما تشهد على جمود الواقع أو تحجره.
هذا الأمر لا ينطبق على كلمات الأغنية وحدها. بل ينطبق على نصوص كثيرة تتفاوت من حيث قيمتها الفنية. وبعضها يملك قيمة فنية لا شك فيها، لكن صمودها لا يرجع إلى تلك القيمة بقدر ما يرجع إلى جمود الواقع، والتكرار المأساوي لأحداثه.