سهير الحفناوي تكتب: محاولات أكثر لمعرفة درية
“وكان أكثر من نصف الفتيات في أرجاء البلاد مسجلا في مدارس أجنبية علمانية – قبطية أو يونانية أو يهودية، ونادرًا ما كانت الأسر المسلمة ترسل إليها ببناتها”.
الحقيقة أنا غير مقتنعة بهذه الإحصائية التي تحدثت عنها سنثيا نيلسون في كتاب “درية شفيق: امرأة مختلفة”، لأنه يوجد بعض التناقض. ففي الوقت الذي لا ترسل فيه الأسر المسلمة بناتها إلى هذه المدارس، فكيف يكون سجل بها أكثر من نصف الفتيات من أرجاء البلاد. وأظن في حال التحقت أكثر من نصف فتيات البلاد بهذه المدارس ما كان حال بلادنا بهذا المستوى اليوم!
حديث درية عن الموسيقى ذكرني بعلاقتي أنا أيضًا بالبيانو، وكيف أنى لم أفلح في العزف عليه، على الرغم من وجود ثلاثة آلات بيانو في المدرسة. وربما عدم نجاحي في العزف عليه، يرجع لانشغالي طوال الوقت بسماع البروفات الدائمة لمدرسي التربية الموسيقية بالمدرسة. وكان أغلبهم في فرقة الموسيقى العربية ومنهم ابن القصبجى (عازف عود)، وفاروق البابلي (عازف كمان)، بالإضافة إلى معلمتين في فريق الكورال.
**
كنت أصغي إلى الأنغام الشرقية والأدوار والطقاطيق التي تُطربني وتحلق بي في عالم البهجة والاستقلالية، وأحيانًا الغوص في بحر النغم الأصيل، واكتفيت بالسمع كما اكتفيت بالإصغاء إلى الموسيقى القادمة من الكنيسة المُلحقة بالمدرسة.
زرت مدينة طنطا مرتين سريعتين لم توافق هوايَّ، ولم تمس روحي في أي نقطة ولكن ليس إلى حد وصفها بـ”قناة ضحلة من الطين” كما وصفتها درية.
تؤرقني الطبقية المتغلغلة في أسرة درية والتي عانت وتعذبت منها شخصيًا. ولكنها في الوقت نفسه مصابة بهذا الداء كما الآخرون من حولها، ويُحيرني لماذا تزوج قريبها السيد القصبي الذي يعاني المهانة من لون بشرته السمراء بـ”جارية زنجية” كما ورد في كتاب سنثيا نيلسون “امرأة مختلفة”، وماذا كان ينتظر من الزواج غير إنجاب الأبناء؟
النبش في الذاكرة
في الوقت الذي أبحث فيه عن المحفزات المناسبة لاستعادة حاسة الشم والتي فقدتها منذ أربعة أشهر، إثر دور برد شتوي عادى ولكن من حولي شخصوه بـ”كورونا”، ولكن “ما علينا”. أعيش إحساس الشخص الذي فقد أحد معاونيه، أو إحدى آلياته الحيوية ومجساته التي بمثابة قرون استشعار يتعرف بها على العالم، إنه إحساس ثقيل أن تصبح الحياة بدون رائحة أو طعم.
تزامن ذلك مع بداية مشاركتي لورشة “الرجوع بالزمن إلى الوراء”، ومن خلال فعاليات اليوم الأول، وقراءتي لنص “توريل” للكاتبة داليا أصلان، وقراءة بعض الأجزاء عن حياة درية شفيق ومحطات حياتها ومنها مدينة المنصورة. هنا وجدت المحفزات ولكن لإثارة الذاكرة الممتلئة بالكثير والكثير من المحطات التي شكلت الوعي لديَّ، وحياتي على مر الزمن.
وهنا بدأت كلمة المنصورة تطفوا على سطح الذاكرة وتعلن عن تمردها وتذكرني ببعض الحكايات الصغيرة المرتبطة بهذه المدينة. وذلك من خلال النبش في ثنايا الذاكرة واجترار المواقف والأشخاص المنتمين إليها. وبالطبع كانت أولهم صديقة أمي والتي انتقلت للعيش في القاهرة بعد زواجها من قريب لها يعمل موظفا بالقاهرة. وكنت أول مرة اسمع كلمة المنصورة واعرف انه مكان مثل القاهرة والإسكندرية، وبالطبع قريتي “شبرا بخوم”.
**
حدث ذلك وأنا ابنة تسع سنوات، ومن خلال حكي هذه الصديقة عنها، وارتباطها العاطفي بها، وحديثها عن حاجتها لفترة إفاقة كل مرة تزور فيها أهلها وتعود بعدها إلى القاهرة. وفور أن تسترد طاقتها تزور أمي وتحكي لها الكثير وهى متأثرة جدًا عن جمال ورقي ونظافة وحلاوة مدينتها المنصورة وسهولة العيش بها. وأنا استمع إليها وكأني استمع إلى أساطير، فكانت هذه السيدة تمثل لي وقتها نموذج المرأة العصرية من حيث الشكل والثقافة والحداثة والاختلاف عن صديقات أمي الأخريات، ومن خلالها تكونت رؤيتي عن مدينة المنصورة وهى المكان البعيد الذي يعيش فيه الناس حياة عصرية وأنهم لذو حظ عظيم .
وأتى ذكر المنصورة بعد ذلك أثناء دراسة التاريخ وخاصة الحملة الفرنسية على مصر، وفهمت أن العدو إذا حل بدولة يسطو على أجمل ما فيها.
مرت السنوات وتفرقت الجارات، وانتهيت من دراستي الجامعية وسافرت للعمل في السعودية، وكانت نجوى زميلتي المصرية في العمل هناك من مدينة المنصورة. وقد أحيت لديَّ طيف الذكريات مرة أخرى عن هذا المكان، وبدأت التفكير في ضرورة زيارة المدينة والتعرف عليها ورؤية الجمال بأم عيني، وذلك في العام الأول من التسعينيات، ولكن للأسف لم تتم الزيارة وتقطعت السبل مع نجوى بعد عودتي إلى مصر، واستمرارها بالعيش في السعودية وبقيت فترة أتذكر عنوانها الشفهي “بجوار عصارة القصب”، وخطتها للانتقال والعيش في حي “توريل” بعد أن تعود وتستقر في مصر.
**
كان الاندماج بين جيل الثمانينات والتسعينيات في مجال الأدب والشعر والثقافة والفنون التشكيلية، أكثر هدوءًا وسلاسة، في ظل عدم وجود للصراعات الفكرية الكبرى، وأيضًا السياسية. كما حدث مع الأجيال التي سبقتهم، كل ذلك خلق قواسم للرؤية الفنية المتقاربة والإعجاب المتبادل لما يبدعون. وكانت هناك فعاليات تقام هنا وهناك على المستوى الرسمي وفي المقابل كانت هناك فعاليات خاصة بين الأصدقاء من الجيلين السابقين أحيانا في بيت أحد الكتاب أو المقاهيالتي ترحب بمثل هذه اللقاءات.
وكان بيتنا أحد هذه البيوت العامرة بالأمسيات الثقافية والفنية، وبالتالي الأصدقاء المتنوعون في المجالات الإبداعية المختلفة، وهنا تعرفت على الكثير من مبدعين المنصورة. فكانت هناك اللقاءات والرحلات والزيارات والكثير من الحياة الاجتماعية مع المقربين منهم، ذكرني هذا بانطباعاتي الأولى والمكانة المتميزة في الوجدان الشخصي لهذه المدينة.
وأخيرًا جاء اللقاء بيني وبين مدينتي التي في الخيال، في زيارة خاطفة مع بعض الأصدقاء من المنصورة لتقديم واجب العزاء في وفاة إحدى الصديقات وفي الوقت ذاته زوجة صديقنا أيضًا، والتي توفيت اثر حادث مأساوي. فكانت هناك المشاعر المرتبكة والمختلطة بين الحزن والأسى بسبب الفقد والموت المفاجئ للصديقة الشابة، ووقع هذا على أسرتها ومعارفها، وبين التأهب للقاء المرتقب وتركيزي القوي على كل ما تقع عليه عيني.
**
رأيت النيل حيث تطل عليه العمارة الفخمة بالقرب من “جزيرة الورد”، يعكس ديكور البيت من الداخل وأداء أسرة الفقيدة التي تنتمي إلى التيار اليساري، المزيج بين الفكر المتحضر والأسلوب الحداثي، والذي يعد تفكير سابق لكثير ممن يعيشون في المدن الكبيرة.
تعاطفت كثيرًا في خيالي مع صديقة أمي. وأدركت أنها بالتأكيد بذلت الكثير من روحها للتأقلم وتعيش في المجتمع القاهري. وأنها كانت صادقة المشاعر. حيث أنى تأثرت بهذه المدينة إلى هذه الدرجة، وأظن أن درية شفيق كانت السبب في بلورة الذكريات المتناثرة في الروح عن مدينة المنصورة، وأخيرًا الكتابة والتخفف من أحد الموضوعات التي شغلت الخاطر كثيرًا.
اقرأ أيضا
ملف| راوية صادق تكتب: «درية شفيق»أو الطريق الشاق إلى المعرفة