رمزية الشوارع: أم كلثوم تسبق عبدالناصر في تونس
أسماء الشوارع ليست مجرد علامات صامتة يقتصر دورها على تحديد الأماكن. أسماءُ الشوارع رموز تحمل في طياتها دلالات كثيرة، منها ما يتعلق بصاحب الاسم ومنها ما يتعلق بالشارع نفسه. وهي وعاء كبير يستوعب طاقة رمزية لا حدود لها، ومع ذلك يمكن أن يُترك الوعاء فارغا مع وضع غطاء فوق فوهته.
وهذا الغطاء هو الاسم الذي يخلو من المعنى، أو الاسم الذي نضعه بشكل عشوائي بحيث يبقى مجرد إشارة فقيرة. ومن ثم تتفاوت أسماء الشوارع في قيمتها الرمزية. فهناك الشوارع ذات الثراء الرمزي والتي تحتوي أسمائها على تواريخ وأحداث موحية، وهناك الشوارع القاحلة رمزيا. تلك التي نمر عليها دون أن تثير داخلنا أية مشاعر أو أفكار.
وجود اسم معين على شارع يعتبر تاجا يعبر عن مكانة صاحب الاسم، وبقدر حجم الشارع ومكانته تكون المكانة. فالشارع الصغير غير الشارع الكبير، والشارع الكائن في منطقة معزولة يختلف عن الشارع الموجود في قلب العاصمة. والشارع الموجود في بلدة الشخصية غير الشارع الموجود في دولة أخرى، وكل ذلك يعبر عن درجات متفاوتة من المكانة. فكبر حجم الشارع يعبرعن كبر حجم المكانة. كما أن أهمية الشارع قياسا بالمركز والهامش تعبر عن أهمية الشخصية. وكذلك وجود الشارع في دولة أخرى يعبر عن مكانة لا تبلغها إلا فئة نادرة جدا من الشخصيات.
1ـ أسماء الشوارع وقيمة الأسئلة
تبدو أسماء الشوارع عادة وكأنها إجابة، لكنها تظهر مع شارع أم كلثوم وكأنها سؤال. ونحن نسأل عادة عن الشارع، لكن الشارع هنا هو الذي يثير التساؤل.
شارع أم كلثوم في تونس من الشوارع ذات المحتوى الرمزي الثري، خاصة مع مقارنته بشارع آخر في تونس وهو شارع جمال عبدالناصر. حيث نكتشف أن تسمية أحد الشوارع باسم أم كلثوم كانت أسبق من تسمية أحد الشوارع باسم عبدالناصر، ليس هذا فحسب، بل هناك دلالة أخرى تكشف علاقة الأسماء بالموت والحياة. حيث ظهر شارع جمال عبدالناصر بعد وفاته عام 1970، بينما ظهر شارع أم كلثوم أثناء حياتها سنة 1968. أي قبل ظهور شارع عبدالناصر بسنتين، فلماذا كانت الأسبقية لكوكب الشرق، ولماذا حُرم عبدالناصر من تسمية شارع باسمه أثناء حياته طالما كان جديرا بذلك؟
كما في النص الأدبي، حيث تُعتبر إثارة الأسئلة علامة من علامات الثراء، يتحقق الأمر في أسماء الشوارع، فكلما كان الشارع مثيرا للأسئلة، كلما كان ثريا في محتواه الرمزي.
ترى ما سر أسبقية أم كلثوم، وما علاقة أسماء الشوارع برمزية الموت والحياة؟
2ـ سر أسبقية أم كلثوم
هل المكانة الفنية تتجاوز المكانة السياسية، ولهذا كانت أم كلثوم هي الأسبق؟
لاشك أن القيمة الفنية لها اعتبارها الكبير، لكن تسمية الشوارع تخضع لاعتبارات سياسية. لأن السلطة هي التي قامت بتسمية الشارع، وهذا يعني أن السياسة هي التي تلعب بأسماء الشوارع لتحقيق غايات معينة، أو لاجتناب أمور معينة.
لا يمكن فهم أسبقية شارع أم كلثوم بعيدا عن فكرة الزعامة، الزعامة الفنية التي تمثلها أم كلثوم، والزعامة السياسية التي يمثلها جمال عبدالناصر. وبالحسابات المنطقية وفق الثقافة السائدة في الشرق، نجد الأسبقية تصب في صالح عبدالناصر. أي هو الأجدر بأن يسبق أم كلثوم في تونس، لكن ذلك لم يحدث، والسبب هو وجود طرف أساسي يتحكم في التسمية وهو السلطة التونسية، وهي تعرف خطورة الأسماء وأهميتها. ومن ثم تضعها بحساب، وتتعامل معها كأداة من أدوات التكريم والتهميش والهيمنة والخضوع وغيرها من العناصر الرمزية التي تستوعبها أسماء الشوارع.
لقد كان هناك خلاف سياسي بين عبدالناصر والحبيب بورقيبة، (1903-2000)، أول رئيس للجمهورية التونسية. وقد نشأ الخلاف من خلال طبيعة الخلفية التي جاء منها كل منهم، وطريقة نظرته للأمور، وتطلعه للزعامة العربية.
**
وقد ظهر التوتر بين الزعيمين عندما استضافت مصر صالح بن يوسف، وزير العدل التونسي (1950ـ 1952) وأحد أبرز قادة الحركة الوطنية التّونسية الذين خاضوا حرب الاستقلال. ثم تحول إلى صفوف المعارضة، وصدر ضده حكم بالإعدام في تونس، وطلب الحبيب بورقيبة من مصر تسليمه إلى السلطات التونسية، ورفضت الحكومة المصرية طلبه. الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين. لكنها عادت إلى مجاريها مرة أخرى بعد زيارة عبدالناصر لتونس، رغم أن الزيارة لم تنته بوضع اسمه على شارع كما حدث أثناء زيارة أم كلثوم.
التوتر بين الزعيمين عاد مرة أخرى، بعد خطاب بورقيبة في أريحا في 3 مارس سنة 1965م، والذي دعا فيه الفلسطينيّين إلى قبول التقسيم الأممي وإقامة دولتهم. الأمر الذي تعالت معه أصوات الرفض لدرجة خروج المظاهرات في بعض الدول العربية تتهمه بالخيانة وتحتفي في نفس الوقت بموقف جمال عبدالناصر المدافع عن فلسطين، وهكذا انتصر الأخير انتصارا كبيرا في مجال الزعامة العربية.
وكما ذهب التوتر الأول بزيارة عبدالناصر إلى تونس، ذهب التوتر الأكبر بزيارة أم كلثوم. حيث تم استقبالها استقبالا شعبيا ورسميا كبيرا، ولاشك أن دورها الإيجابي في دعم العلاقات بين البلدين يعبر حالة فريدة ونادرة من حالات نجاح الفنان في لعب أدوار تتجاوز الميدان الفني.
اقرأ أيضا| مركز أحمد بهاء الدين في الدوير: من حماس البدايات إلى ضرورة المراجعة
3ـ شارع أم كلثوم ورمزية الموت والحياة
تنقسم تسمية الشوارع إلى قسمين، هناك أسماء نطلقها على الشوارع أثناء حياة أصحابها، وهذا نادر جدا. وهناك أسماء نطلقها على الشوارع بعد وفاة أصحابها. وكأن الموت واحد من الشروط الأساسية التي يجب توافرها في بعض الأسماء.
إطلاق أسماء الشوارع على الراحلين ـ لا الأحياء ـ ظاهرة منتشرة في العالم العربي. وعندما يكون الشخص جديرا بوضع اسمه على شارع أثناء حياته، ويتم إرجاء الأمر حتى وفاته، فالأمر لا يخلو من دلالة. وكأن وضع اسم الحي على شارع يحمل خطرا، والغريب أننا كثيرا ما نطالب بتكريم الأشخاص بعد موتهم دون أن نسأل عن سبب عدم تكريمهم أثناء حياتهم. وكأن تكريم الموتى لا الأحياء صار قاعدة أو عادة اجتماعية راسخة.
لقد جاءت تسمية شارع أم كلثوم أثناء حياتها. بخلاف جمال عبدالناصر الذي جاءت تسمية الشارع باسمه بعد رحيله، رغم أنه كان جديرا بذلك أثناء حياته.
ظهر شارع أم كلثوم خلال جولتها العربية لمساندة المجهود الحربي بعد نكسة 1967، وبدعوة من السيدة وسيلة بن عمّار حرم الرئيس التونسي لزيارة تونس. وفي يوم 31 مايو 1968، أحيت أم كلثوم حفلها الأول بتونس في صالة القبة بالمنزه بحضور الرئيس التونسي وحرمه. وفي تلك الليلة ـ حسب جريدة الأهرام ـ أحيط المسرح بمائة ألف وردة. وعلى الساعة التاسعة رُفع السّتار ليجد خمسة آلاف متفرج أنفسهم أمام كوكب الشرق. حيث أدت أغنيتين هما “فكروني” و”الأطلال”.
وفي يوم 3 يونيه 1968 وعلى ذات المسرح أحيت أم كلثوم حفلها الثاني الذي أدت فيه أغنيتي “أنت عمري” و”بعيد عنك”.
**
لقد قام الرئيس التونسي باستقبالها في قصر الرئاسة بقرطاج. وعبّر لها عن ترحيبه بها، وتقديره لدورها في خدمة وطنها والتقريب بين الجماهير العربية. كما قام بتكريمها بوسام الجمهورية من الدرجة الأولى ودعوتها إلى مأدبة غداء حضرتها زوجته وسيلة وعدد من أعضاء الحكومة.
وفي يوم 2 يونيه 1968 قامت أم كلثوم بإزاحة الستار عن اللوحة البيانية للشارع الحامل لاسمها في قلب العاصمة التونسية، في حضور عدد من المسؤولين.
مشهد إزاحة الستار عن اللوحة البيانية بيدها يعتبر من المشاهد النادرة جدا في ثقافتنا العربية. وهو يعبر عن المكانة العظيمة لها في الوجدان العربي، ويكفي أنها كسرت السائد في ثقافتنا العربية. وهو إطلاق أسماء الشوارع على الراحلين لا الأحياء.
رمزية الشارع هنا تقول شيئا خاصا جدا يعبر عن المكانة، ويقدم دلالة إضافية لا نجدها في علامة أخرى.