رفاييل كورماك في «منتصف ليل القاهرة»: حكايات المدينة الصاخبة في بدايات القرن (2-3)
بعد هدوء الأنشطة المسرحية في سبعينات القرن التاسع عشر ثم الاضطرابات السياسية في 1882، بدت الدراما العربية وكأنها تسير في منحنى هابط في مصر (بعد الغزو البريطاني في 1882، لم يتم تسجيل أي مسرحيات بالعربية حتى 1884). ولم ينقذ المشهد المسرحي إلا موجة من الفرق المسرحية القادمة من بلاد الشام. كانت الدراما العربية موجودة هناك منذ 1848 على الأقل، عندما قامت فرقة في بيروت بتقديم مسرحية مستوحاة من البخيل L’Avare لموليير Molière.* وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت العديد من الفرق المزدهرة تباشر عروضها في شرق المتوسط.
بحلول منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، بدت القاهرة مرة أخرى مكانًا جذابًا للزيارة – مستقر سياسيًا واقتصاديًا على الأقل بالنسبة للحظة – وفي الوقت نفسه، دفع الفقر والجوع وأحيانًا السياسات العثمانية القمعية الناس للنزوح عن الشام. بدأ اللاجئون من المنطقة في الارتحال في جميع أنحاء العالم، بعضهم انتهى به الحال للوصول لأماكن بعيدة كالأمريكتين، لكن العديد منهم جاء إلى مصر. حيث توافد أصحاب الفكر المسرحي على الأزبكية وبدأوا في تقديم عروضهم الخاصة للجمهور المصري المتعطش للمسرحيات العربية. بدأت خطط إسماعيل الطموحة للمسرح تترنح. وبعد عقدين من بدء الخديو أربعة مشروعات كبيرة بالأزبكية، وهي دار الأوبرا والمسرح الفرنسي والسيرك ومضمار سباق الخيل، لم يبق منها سوى دار الأوبرا. لكن هؤلاء الممثلين ذوي الخبرة والمتحدثين بالعربية الذين كانوا بالفعل يقدمون عروضهم في بيروت ودمشق، بدأوا ثورة جديدة في المسرح المقدم باللغة العربية في القاهرة.
***
سرعان ما وجدت الفرق الشامية دعمًا حماسيًا من المصريين. اجتمع “عدد من الوطنيين” معًا لبناء مسرح للمخرج الشامي سليمان القرداحي. كان هذا المسرح يقع شمال حدائق الأزبكية بالقرب من جراند بار Grand Bar. انتقل اثنان من هؤلاء المهاجرين الجدد من جميع أنحاء المتوسط إلى المسارح التي كانت قائمة في الشارع كل منهما مقابل الآخر، في ميدان بالقرب من دار الأوبرا يُعرف بالعتبة الخضراء. وتعَرَّض أحد هذه المسارح للدمار إثر حريق عام 1900، بينما ظل الآخر مزدهرًا لسنوات.
كان لهذه الفرق المسرحية أعمالا متنوعة. قدموا في كثير من الأحيان نسخهم العربية الخاصة من كلاسيكيات المسرح الأوروبي؛ وكانت أعمال راسين Racine وكورني Corneille وشكسبير من بين أكثر الأعمال شهرة. كان كسب مبالغ لا بأس بها من الأموال من الترجمة ممكنًا، كما تشكلت صناعة منزلية من الكُتَّاب متعددي اللغات تمكنت من تلبية الطلب على النصوص الجديدة.
غالبًا ما كيُفَّت المسرحيات تكييفًا خفيفًا إرضاء للأذواق المحلية؛ فكانوا تارة يغيرون الأسماء والأماكن أو يغيرون الحبكة نفسها تارة أخرى. وكانوا “دائمًا” يضيفون الأغاني والفواصل الموسيقية إلى الحدث (حينما حاولت إحدى الفرق عرض هاملت بدون أغاني، اشتكى الجمهور كثيرًا لدرجة أن الفرقة لم تكرر الأمر أبدًا مرة أخرى). منحت العناوين إشارات للجمهور حول ما يمكنهم توقعه، لأن الكثير منهم لم يكن على دراية بعناوين الأعمال الأصلية؛ لذلك صار عنوان روميو وجولييت Romeo and Juliet العربي “شهداء الغرام”. وأطلق على عطيل Othello عنوان “القائد المغربي” أو “حيل النساء”، وعُرِفَت مسرحية كورني السيد Le Cid باسم “غرام وانتقام”.
***
لكن الفِرَق لم تُعِدْ صياغة الكلاسيكيات الأوروبية فحسب؛ بل كان المسرح العربي في أيامه الأولى هذه يستقي مؤثراته من أي مكان يمكن أن يجدها فيه. اعتمدت بعض العروض على قصص مأخوذة من التاريخ الإسلامي أو من قصص ألف ليلة وليلة. كانت الأساطير حول الخليفة العباسي هارون الرشيد مصدرًا شائعًا بصفة خاصة للمسرحيات. وكذلك سيرة البطل الجاهلي عنترة بن شداد الذي كانت لا تزال سيرته الشعبية ينشدها الرواة في مقاهي القاهرة.
لم يمض وقت طويل حتى شرع بعض الكُتَّاب المصريين في كتابة مسرحياتهم الخاصة وتقديمها للمسرح. ضمت هذه المجموعة المحامي الشاب إسماعيل عاصم الذي تخلى عن مهنته المربحة لينضم إلى حركة الدراما الجديدة. ومن أشهر مسرحيات عاصم مسرحية صدق الإخاء التي ركزت على قصة شاب متحرر يُدعى نديم والذي أهدر حياته في البارات وأوكار القمار في الأزبكية، لكنه تاب في النهاية بعد وفاة والده – لقد تخلى عن حياته الفاسدة وتحول إلى تاجر ناجح يعمل على ضمان معيشة الأسرة.
في البداية، كان عالم المسرح الآخذ في الاتساع عالمًا ذكوريًا بشكل كبير. في تلك الأيام الأولى، غالبًا ما كان الصبية يلعبون دور الإناث في المسرحيات، لأنه لم يكن ممكنًا العثور على إناث لتمثيل تلك الأدوار. وكما هي الحال في كثير من الأحيان، كان يُنظر إلى مهنة “الممثلة” في مصر أنها مرادف للفجور بل والبغاء، ولم تكن تعتبر مهنة محترمة بالنسبة للنساء. جاءت معظم النساء اللاتي كسرن هذا المحظور من بلاد الشام.
***
عندما وصلت فرقة سليمان القرداحي السورية لأول مرة إلى مصر في ثمانينات القرن التاسع عشر، ظهرت زوجته كريستين على خشبة المسرح. كما ظهرت ممثلة أخرى على الأقل، كانت تُعرف باسم “ليلى اليهودية”. لم تكن النساء المسلمات يمثلن عادة على خشبة المسرح في هذه الفترة المبكرة. وهي ظاهرة ملحوظة غالبًا لكن قلما يقدم أحد تفسيرًا له؛ ربما لأن المسلمين في ذلك الوقت كانت لديهم آراء أكثر صرامة حول ظهور المرأة في الأماكن العامة مقارنة باليهود والمسيحيين. أو ربما كانت أوجه القلق أكثر عمومية فيما يتعلق بالحفاظ على اللياقة. ومن ثمَّ قد يكون أتباع ديانات الأقليات، الموجودة بالفعل خارج التيار السائد، أقل قلقًا بشأن مثل هذه التفاصيل الدقيقة مقارنة بالمسلمين الذين كانوا يشكلون حوالي 90 في المائة من السكان.
كان الجمهور في ذلك الوقت أيضًا من الذكور بشكل كبير. كانت النساء تحضر بالتأكيد معظم العروض المسرحية، لكنهن كن أقلية وعادة ما كن في أماكن منفصلة. كانت دار أوبرا إسماعيل تضم ألواج منفصلة، مخبأة بنوع من المشربيات تمكن الحاضرات من النساء من المشاهدة دون أن يراهن أحد. لا يمكننا أن نكون كذلك متيقنين من أن كل مسرح كان بنفس الطريقة؛ اهتمت النخبة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر بـ”عزل” الإناث أكثر كثيرًا مما كان عليه الأمر بين الطبقات الأخرى، لكن الراجح أنه كانت هناك ممارسات للفصل بين الجنسين في معظم المسارح في أواخر التاسع عشر.
***
لذا ربما بدا مدهشًا أن تكتب امرأة أحد أكثر كتابات السيرة الذاتية عمقًا عن إحدى الممثلات بتلك الفرق المسرحية الشامية في مصر. في مقال نُشر في 1915 بالأهرام أعطيت الفرصة لمريم سماط، وهي واحدة من أكبر نجمات أوائل المسرح المصري لتروي قصة حياتها المهنية. “وقفت على المراسح العربية أمثل للشعب المصري الكريم مختلف حوادث التاريخ منذ خمس وعشرين عامًا كنت في خلالها موضع احترام مديري الأجواق والممثلين”. أخيرًا، وبعد كل هذا الوقت، ستخبر مريم قراءها عن “الأدوار التي أخذها التمثيل من نشأته إلى ما وصل إليه وما نشأ عليه من التغيرات والترتيب”.
كانت لمريم ككثيرات غيرها صلة عائلية بالمسرح. كان والدها تاجرًا في سوريا اشتغل بتجارة المجوهرات والأحجار الكريمة. ثم في أحد الأيام في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، ولأسباب لم تشرحها بشكل كامل، قرر أن يحزم كل أغراضه ويجرب حظه كممثل في مصر. حدثت أول انطلاقة حقيقية له بعد أن أصبح صديقًا لقائد الفرقة الشامية إسكندر فرح الذي بدأ في منحه أدوارًا في مسرحياته. كانت هذه الصداقة أيضًا العامل في رسم مريم لطريقها إلى المسرح. ذات مرة، عندما كان إسكندر يزور بيت عائلتها، شجع والدها على السماح لمريم بالبدء في التمثيل. تحدث بإسهاب عن الأمجاد النبيلة التي حققتها الممثلات حول العالم.
سمح والد مريم الذي اقتنع بالكلام على ما يبدو لها بالانضمام إلى المهنة وسرعان ما ظهرت لأول مرة كممثلة في فرقة صغيرة تسمى “جمعية المعارف”. كانت مسرحيتها الأولى مقتبسة باللغة العربية من مسرحية ميثريداتس Mithridate لجان راسين، وهي تراجيديا عن الملك القديم بونتوس Pontus، أحد أعداء روما العظماء في القرن الأول قبل الميلاد. لعبت مريم دور مونيمي Monime، خطيبة ميثريداتس التي أنهت المسرحية متعهدة بالانتقام لموت ميثريداتس مع ابنه زيفارس Xiphares، عشيقها الجديد.
***
خرجت المزيد من الفرق إلى الحياة مع استمرار ازدهار المسرح في أواخر القرن التاسع عشر. كانت مريم جزءًا من جيل الممثلات الشابات من بينهن لبيبة مانولي Labiba Manoli وشقيقتها مريم، وميليا ديان Milia Dayan، والأختين إستاتي Estati sisters، وإبريز وألمظ، اللتين يُترجم اسمهما إلى “ذهب” و”ألماس” على الترتيب. كن يتنقلن بين الفرق في تنافس على الأدوار الجيدة. ظلت هؤلاء الممثلات، لسوء الحظ بدرجة كبيرة وبسبب ندرة المعلومات حول حياة هؤلاء النساء ومجرد الإشارات القصيرة في الصحف حول هويتهن، استعراضًا للأسماء على هامش سجل التاريخ.
كانت حياة الممثلة العاملة في هذه الفترة، انطلاقا من مذكرات مريم، معقدة بشكل مستحيل تقريبًا. هي نفسها انتقلت من فرقة لأخرى أكثر من مرة، بالإضافة إلى سرد النجاحات التي حققتها في القاهرة، تتذكر مريم جولاتها في ريف مصر وأسفارها إلى أماكن بعيدة كدمشق وبيروت. كان على الفرق المسرحية أن تفعل كل ما في وسعها كي تتميز. بالإضافة إلى المسرحية نفسها، كانت الإشعارات المسرحية وقتذاك أيضًا تعلن عن عروض هزلية قصيرة وعروض “بانتومايم” pantomimes، إلى جانب الكثير من الغناء والرقص.
كان الغناء جزءًا ضروريًا مما كان يتوقعه الناس من العروض الترفيهية الحية التي تقدمها الفرق لدرجة حتمت عليهم إضافة أغانيهم الخاصة إلى أحداث المسرحيات التي لم يكن بها مقاطع غنائية. على مسارح القاهرة، أصبحت كل مسرحية مسرحية موسيقية musical وكل ممثل مغنيًا. ومع استمرار تسعينيات القرن التاسع عشر، اُخترعت المزيد والمزيد من الحيل لزيادة مبيعات التذاكر؛ حيث أعلنت بعض الفرق أنه سيكون هناك يانصيب قبل العرض. ومع ظهور التكنولوجيا الجديدة كالسينماتوغراف، باتت الأفلام القصيرة أيضًا أحد عناصر الجذب الليلية.
***
لاحقت مشكلات التمويل وصراعات السلطة في قيادة الفرق مريم أينما ذهبت، بجانب الخناق والغيرة بين أعضاء الفرق العاديين. كل هذا جعل مريم مستاءة من تفاهة زملائها من الممثلين والممثلات. كانت أيام المسرح المصري الأولى، بحسب رأيها، ستنتج أعمالا أفضل بكثير لولا الحسد والغيرة من الآخرين وطموحهم. قالت في أسف: “آه من الطمع فهو آفة النجاح وسبيل الخسار والدمار ومقوض الأعمال والآثار!”.
مع ازدهار هذه الفرق المسرحية في أزبكية ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، غدت العديد من أشكال الترفيه الأخرى متاحة. حتى قبل افتتاح دار أوبرا إسماعيل، وفرت البارات والمقاهي الصغيرة في المنطقة للناس أماكن للعب البلياردو والاستماع إلى الموسيقى. ظهر الآن عدد كبير من البارات، مستفيدة من الحياة الليلية المتأخرة في المنطقة. في تسعينات القرن التاسع عشر، كانت أشهر الأماكن هي سبلنديد بار Splendid Bar ونيو بار New Bar. وكانا لنفس المالك، كذلك بوديجا Bodega وبار المحروسة. لكن العديد من أماكن الشرب الأصغر الأخرى كانت موجودة في الأزبكية وحولها. كان الزبائن (ومعظمهم من الذكور) يشملون مزيجًا من الطبقات والجنسيات، من التجار اليونانيين إلى العُمَد المصريين. الذين سرعان ما تحولت أعمالهم الفاسقة في بارات المدينة الكبيرة إلى كليشيهات في القاهرة.
***
كان لعب القمار من أشهر الهوايات الجديدة لتمضية الوقت، وكانت الصحافة مليئة بالقصص والتحذيرات عن الأشخاص الذين فقدوا أموالا طائلة بعد قضاء ليالٍ طويلة بالأزبكية. حتى إن البعض كتب قصائد يحث الناس فيها على عدم الإلقاء بأموالهم على ملذات حياة الليل:
كثير شاهدنا من أعيـــان كانوا عُمَد وأصحاب شـهـــــــره
رهنو العقارات والأطيان والخبص صبحهم فقــــــــــرا
ياما عمد باعوا الأمـــلاك وتمنــــــــها راح في خـــــراره
صرفوا على شرب الكنيا ك وفي الملاهي ياخساره!
كان هناك ما يكفي من المسيحيين واليهود والأجانب في هذا البلد ذي الأغلبية المسلمة لدعم البارات بمفردهم. ومع ذلك، كان هناك أيضًا الكثير من الزبائن المسلمين. وصف أحد الكُتَّاب الإنجليز في بدايات القرن العشرين “سلسلة من المقاهي. معظمها مليئة بالعرب الذين يعاقرون الخمور القوية التي يحرمها دينهم بشكل غير مباشر”. واختتم وصفه بالقول بأن “العربي الذي يرغب في مخالفة هذه الأحكام دون تحديها يؤكد لنفسه أن الشمبانيا مياه معدنية. وأن المشروبات الروحية والبيرة القوية ليست خمورًا أو نبيذًا”. في الواقع، نشر الباحث الإسلامي رشيد رضا قصة غريبة في مجلته الدينية المنار في 1902. زعم فيها أنه مرَّ بحانة وصفت نفسها بأنها “الحانة الإسلامية الوحيدة” في مصر. خارج الحانة، رأى رجلا يشرب نخب القطب الصوفي الشهير السيد البدوي. وعندما سأل رضا هذا الرجل إذا كان الرسول قد أمره بفعل هذا. فأجاب الرجل، “هو يغفر لي”.
***
في 1898، بدأ الكاتب محمد المويلحي في كتابة قصة خيالية كوميدية نُشِرَت على حلقات بجريدة مصباح الشرق. تبدأ حكاية حديث عيسى بن هشام بعودة أحد الباشوات المسنين إلى الحياة من أوائل القرن التاسع عشر. يجد الباشا نفسه في قاهرة غير مألوفة في تسعينات القرن التاسع عشر، ثم عمليًا تحت الاحتلال البريطاني. يلتقي الراوي عيسى بن هشام مصادفة بهذا الباشا المولود من جديد في إحدى المقابر ويأخذ على عاتقه اصطحاب الرجل المسن المذعور في جميع أنحاء المدينة، ليريه كل شيء تغير على مدار القرن – وعلى ما يبدو أنها كانت أمورًا كثيرة إلى حد ما. وعندما أخذ عيسى الباشا المسن إلى الأزبكية صدمته المشاهد التي رآها.
وبينما كانا يتجولان في حدائق الأزبكية التي تم تخطيطها مؤخرًا، تصادف أن عيسى والباشا التقيا بثلاثة رجال كانوا يتمشون أيضًا لشم بعض الهواء النقي. وهم متحرّر مشتت وتاجر وعمدة في زيارة إلى القاهرة. جُرَّ الرجلان إلى التعرف إلى معارف جدد في أثناء سيرهما وسط البارات الصاخبة مرورًا بجميع مناطق المتعة المحلية. التي ظهرت منذ أن كان الباشا على قيد الحياة آخر مرة. تبدأ الأمسية الموصوفة في السرد بمشروبات وبلياردو في بار أوبرا Opera Bar. يليها عشاء والمزيد من المشروبات في نيو بار. ثم المزيد من المشروبات في بار بوديجا.
***
جرَّ المتحرّر الذي كان الآن في حالة سكر ملائمة زملائه إلى نوع آخر من الأماكن التي ظهرت بأعداد كبيرة في أزبكية القرن التاسع عشر وهي صالة الرقص. كانت صالة إلدورادو القديمة Eldorado، وهي أول صالة رقص كبيرة أنشئت في المنطقة واستمرت طويلا، مشهورة منذ ستينيات القرن التاسع عشر. إلا أنه بحلول تسعينات القرن التاسع عشر، كانت المنطقة تعج بأماكن مختلفة بما في ذلك ألف ليلة وليلة. والكازار باريزيان Alcazar Parisien، ومقهى إيجيبسيان Café Égyptien. الذي كان به فرقة موسيقية نسائية جُلبت من أوروبا. سرعان ما أصبحت صالات الرقص هذه الأماكن المفضلة لنوع الراقصات التي شاهدن الرحالة إدوارد لين يرقصن في الأماكن العامة في أوائل القرن التاسع عشر. إذ كن ينافسن مسارح المنطقة في الشهرة.
كانت هذه التياترات تظل مفتوحة في وقت متأخر من الليل أكثر من المسارح. كانت كل ليلة تشمل فقرات متتالية ومختلفة تقدمها المغنيات والراقصات اللاتي كن يختلطن بالجمهور بعد تقديم عروضهن. كان يدفع للفنانات بحسب عدد المشروبات التي يمكنهن حث الزبائن على شرائها. سواء كانت بيرة أو كونياك أو شمبانيا، لذا كانت مستويات السُّكر في الملاهي الليلية مرتفعة للغاية. في هذه القصة الكوميدية، عندما يأخذ الشاب المتحرر مجموعة أصدقائه ومعارفه الجدد لإنهاء الليلة في إحدى صالات الرقص القريبة. يقدم للقارئ جولة في هذه الأماكن الجديدة المنحطة التي كان الجميع يتحدث عنها.
***
وما أن دخلت المجموعة من الباب حتى انفتح أمامهم مشهد قذر ومقزز؛ فالهواء معبق بالكحول والتبغ ودخان الحشيش، وتأتي رائحة مجهولة ولكنها كريهة قادمة بالقرب من المراحيض. تشهد المجموعة خلال فترة إقامتهم القصيرة سلسلة من المشاجرات بين الزبائن؛ وفي البار، يجلس رجل شرطة كبير مع صديقته يراقب المشهد بهدوء دون تدخل. ولدى وصولهم إلى الملهى الليلي، تصعد مغنية على خشبة المسرح للترفيه عن الجمهور. وسرعان ما احتلت مكانها راقصة، وجهها مغطى بمكياج كثيف، وجسمها مزين بالأساور والمجوهرات الثقيلة. لوت الراقصة جسدها بجميع أنواع الأشكال كأفعى، لتأخذ فترات راحة فقط لقرع أقداح من الخمور اشتراها لها جمهور المعجبين (بسعر مرتفع). وفي نهاية كل رقصة، تلقي الراقصة بسلسلة من التعليقات البذيئة والموحية للجمهور قبل أن تمسح العرق عن جبينها بمنديل.
يعمد راوي القصة إلى الاستطراد في وصف اشمئزازه المبهور من المرأة على خشبة المسرح في عدة فقرات. كان يمقت مقتًا خاصًا القوة التي تتمتع بها الراقصة على النخبة في البلاد والذين كانت تغويهم وتأخذ أموالهم. قال آسفًا “خربت بيوتًا عامرة ودنست أنسابًا طاهرة”. كما خلَّفت وراءها عددًا من الرجال الأثرياء الساذجين الذين باتوا الآن مفلسين مُهانين. وشيخ مسن معمم بين الجمهور كان مفتونًا بها لدرجة التصرف كمراهق هائج جنسيًا. كان الراوي، طبعًا، قلقًا إلى حد كبير بشأن فساد طبقة النبلاء. كانت الجماهير في هذه الملاهي الليلية تنتمي إلى جميع الطبقات الاجتماعية. لكنه إما لم يكن يعير الفقراء اهتمامًا أو افترض أنهم فاسدون بالفعل.
***
ومع استمرار الحكاية، أضحى تصوير الراوي للراقصة أكثر تعبيرًا عن كراهية للنساء، من إصراره على قبحها إلى استيائه من الطريقة التي تسحر بها الجمهور. كان أكثر ما أزعجه تلك القوة التي تمارسها، وكان يشاركه هذا القلق، بلا شك، العديد من الرجال في ذلك الوقت. كسبت الراقصات والمغنيات في هذه الفترة أموالهن الخاصة (أحيانًا الكثير منها) واستقطبن المعجبين من ذوي النفوذ. كانت صالات الرقص والكباريهات في القاهرة في نهاية القرن مكانًا يمكن الوصول إليه للتحرر – من الواضح أنه كان مبنيًا على تسليع أجساد النساء واستغلالها – لكن بعض النساء تمكنن من استغلال النظام لصالحهن. لينتهي بهن الأمر بالوصول إلى تحقيق قدر كبير من السيطرة على حياتهن والتأثير على الآخرين.
قَدَّم زوار القاهرة الأجانب أيضًا أوصافًا لكباريهات الأزبكية في تسعينات القرن التاسع عشر، وكانوا مشمئزين تمامًا مثل محمد المويلحي. وصف أحد الكُتَّاب البريطانيين صالة رقص زارها في القاهرة أنها “مكان حقيقي للتعذيب، آلات غريبة، تدفع لليأس بأيدي العارضين أو رئتيهم التي لا تكلّ. تنبعث منها أصوات عالية ومزعجة، وبمصاحبة هذه الآلات فرقة من المغنين. تفصح عن نزعات كئيبة توحي بصورٍ لا توصف من المعاناة الداخلية”.
***
قال الكاتب وهو يشاهد الراقصة إنها كانت “مرتدية عباءة فضفاضة فوق قميص ضيق بلون الجلد. تعلوها قلادات من عملات معدنية مجلجلة، وتألف أداءها من “التواءات بشعة”. ولاحظ أن جميع الراقصات، “حينما لا يقمن بلوي أجسادهن. كن ينفثن باستمتاع تلك السيجارة الموجودة في كل مكان”. الشخص الوحيد الذي يبدو أنه أعجب به هو “المطيب، وهو مصقف الصالات العربية المتجول”. والذي كانت وظيفته إثارة حماس الفنانين: “يدعو جميع المجتمعين هناك ليشهدوا على روعة الترفيه. الذي يستمتعون به ومهارة الموسيقيين وأصوات المغنيات الحلوة وإتقان الفتاة الجميلة للرقص. “كان يدفع له لقاء ذلك، ما في ذلك شك”.
لم يكن الجميع رغم ذلك معارضين بشدة للتياترات. إذ يبدو أن إحدى الليالي التي قضاها أحد مراسلي النسخة الإنجليزية للجريدة الرسمية للحزب الوطني المصري. وهي ذي إيجبشان ستاندرد The Egyptian Standar، في أحد التياترات بالقاهرة كانت أكثر متعة. وصف المراسل الرحلة التي كان قد قام بها في السنوات الأولى من القرن العشرين إلى مسرح إلياس Theatre Elias الشهير. وهو هذا النوع من الأماكن الذي يصفه الناس بأنه مقهى الغناء café chantant. “المقهى مثير للبهجة، رغم بهرجة الزينة بالمصابيح المعلقة والثريات والزهور والكرات الأرضية العاكسة، وما إلى ذلك. الجدران مغطاة بمرايا كبيرة ومطبوعات ملونة – ونأسف لقول إن هذه الأخيرة لا تتمتع بجودة فنية عالية. وهناك نافورة رخامية في أحد طرفيه تعمل باستمرار وتنعش الجو. تتحرك الفتيات الجميلات الموجودات بكثرة – “الآرتيست” ولا شك – هنا وهناك”.
***
في الليلة التي ذهب فيها المراسل إلى مسرح إلياس، كان عامل الجذب الرئيسي امرأة سورية تدعى منتهى. كانت قد عادت مؤخرًا من نيويورك. حيث رقصت باسم “بيلا روزا” Bella Rosa وكان بإمكانها أن تؤدي الرقص الشرقي. بالإضافة إلى “المآثر الرائعة الأخرى التي تحير الوصف”. كان الكاتب مأخوذًا تمامًا بمهارتها: “لقد كانت كشفًا من إمكانات الجسد البشري من حيث الليونة والرشاقة والجمال. ونصح جميع زوار مصر أن يشاهدوا أداء كهذا بأنفسهم. قال إن الجمهور كله من المصريين تقريبًا، لكنه أكد للأجانب أنهم لن يشعروا بأنهم غير مرحب بهم. “سيجد الزائر أن الموسيقى الغريبة والحسية وحركات جسد الراقصة الرشيقة البطيئة تنتج جميعها إحساسًا لا يمكن تحديده [كذا] شرقي إلى حد ما”.
الحلفة الثانية من الفصل الأول من كتاب «منتصف الليل في القاهرة: نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة» الذي يصدر قريبا عن دار الكتب خان. يحكي الكتاب حكاية منسية عن المسرح والغناء والرقص تُظهر الشرق الأوسط الحديث من زاوية مختلفة – زاوية لا تهيمن عليها الحروب أو “المثقفون” أو“الرجال العظماء” أو السياسة العليا. بل ليالٍ متأخرة في الكباريهات وموسيقى صاخبة ونساء يطالبن بالتغيير.
هوامش
*البخيل، أو كما تعرف باسمها الأطول البخيل أو مدرسة الأكاذيب، مسرحية نثرية من خمسة فصول للكاتب المسرحي الفرنسي موليير. عرِضَت المسرحية لأول مرة على مسرح دي باليه رويال بباريس في 9 سبتمبر 1668. ترجمت بتصرف إلى اللغة العربية وعرضها مارون النقاش كباكورة أعماله في بيروت. تعتبر مسرحية البخيل للنقاش نظريًا أول مسرحية عربية في عصر النهضة العربية الحديثة (المترجم).
اقرأ أيضا:
منتصف الليل في القاهرة: نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة (1-3)