رصاصة في قلب توفيق الحكيم.. يطلقها ممثل مرفوض

في عام 1934 أصدر الكاتب الصحفي أحمد الصاوي محمد مجلة أطلق عليها اسم “مجلتي” وبرغم من قصر عمر المجلة، إلا أنها كانت من أشهر المجلات الأدبية في وقتها، وكتب فيها أهم كتاب ذلك العصر وعلى رأسهم طه حسين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، والدكتور هيكل وغيرهم، وكانت المجلة أيضا من أوائل المجلات الأدبية التي تعقد مسابقات للقصة بجوائز مالية لتشجيع الأدباء الشباب.

وفي ذلك الوقت كان توفيق الحكيم قد كتب مسرحيته “رصاصة في القلب” وكان يعارض في نشرها لأنها باللغة العامية. ويومها كان الحكيم قد انتقل للعمل في وزارة المعارف بقسم التحقيقات وكان وكيل الوزارة يومئذ رجلا متقعرا لا يمت إلى الفن الرفيع بصلة قريبة أو بعيدة ولا يفهم دقائقه ولا نحائفه ولا حتى غلائظه – على حد قول توفيق الحكيم-.

توفيق الحكيم

خشي توفيق الحكيم من بطش وكيل الوزارة وكاد يطلب من المطبعة التوقف عن جمع وإعداد المسرحية لولا صديقه الدكتور حلمي بك بهجت بدوي، القاضي بالمحاكم المختلطة، أقنعه بنشرها في مجلة “مجلتي” فخضع توفيق الحكيم لحكم صديقه، وبالفعل نشرت المسرحية للمرة الأولى في المجلة.

ويحكي الصاوي رأيه وظروف النشر قائلا: “كنت أعرف قيمة ما أنشره من الوجهة الصحفية ولم يكن تمهيدي للقصة تمجيدا أو تملقا لصديق عزيز من عباقرة الأدب في الشرق، وإنما لاعتقادي حقا بأن القراء سيجدون في القصة عملا جديدا كتبه المؤلف منذ سنوات ولم ينشره”. وصدق حدس الصاوي ونجحت المسرحية.

ويقول الصاوي: “كنت أغار على هذه القصة كأنها ابنتي ووليدة فكري حتى لما أراد أحمد سالم وهو يشتغل مذيعا في محطة الإذاعة أن يمثلها عارضت في ذلك خشية عليها من الابتذال”.

ولكن الذي حدث بعد ذلك كان صدمة للصاوي. فقد جاء الموسيقار محمد عبدالوهاب واختار القصة لتكون فيلمه السادس في السينما عام 1944 ووقع معه توفيق الحكيم العقد ولم يستشر الصاوي إلا بعد التوقيع ويفتح الصاوي النيران على توفيق الحكيم وعبدالوهاب حينما طلبا منه أن يختار معهما البطلة للفيلم فرشح ليلى مراد وقوبل الطلب بالرفض.

ويقول الصاوي: “لولا بخل محمد عبدالوهاب وشحه المشهور وتراجعه القهقرى أمام ما طلبته ليلى مراد وهي أعظم ممثلة ومطربة مصرية ظهرت على الشاشة البيضاء، لولا ذلك لكانت ليلى مراد كفيلة بأن تنقذه من ورطته وأن تعوض عليه ما تأخذه أضعافا ولكن أذل الحرص أعناق الرجال.. ثم أن الغيرة التي تنهش قلبه من نبوغ ليلى وبروزها الرائع وعدم تكلفها إطلاقا وصوتها.. هذه كلها كانت كفيلة أيضا بأن تنقذ الفيلم الذي أخرجه محمد كريم هذا الإخراج الكسيح وأن تقيل عبدالوهاب من كبوته وأن تحجب شيئا من رغبته البروز بمفرده على المسرح بطلا أوحد وقطبا أمجد “هارون رشيد” آخر الزمان، إذ كيف يرضى عبدالوهاب شريكا له في تعبد المفتونات به الطائشات بجماله المسحورات بجسمه العاري؟.. أليس هو نفسه مفتونا بهذا الجسم الهزيل الذي ليس له من جمال الرياضة ولا جمال الطبيعة ولا من حسن التكوين كثير ولا قليل بحيث يعرضه مجردا على الناس في جرأة”.

ثم ينتقل الصاوي للهجوم على المخرج والمؤلف معا قائلا: “غرور عبدالوهاب كان يغذيه مخرج لا يعني بفن الإخراج بقدر عنايته بتملق صاحب المال.. فيتملقه بدلا من أن يزجره وينصحه! فجميع العناصر الكوميدية التي اجتمعت في قصة رصاصة في القلب قد مزقت تمزيقا وتسأل توفيق الحكيم فيقول لك: “وما شأني وهذا ذنب المخرج” ألا تجدون على الشاشة أن السيناريو بقلم محمد كريم؟، وتوفيق الحكيم لم يحضر الإخراج إلا مرة واحدة وأشهد أنه جاء مصعوقا مخذولا يائسا يلعن الساعة التي عرف فيها بمحمد كريم، ثم أين الحوار الذي ميز الله به توفيق الحكيم؟، أين هو؟… لقد مزقه المخرج إربا إربا ومسخه مسخا وشوه معانيه وأبطأ حيث ينبغي الإسراع وأسرع حيث ينبغي التأني..” وبعد سلسلة طويلة من عبارات التقريع في كل صناع الفيلم وأبطاله يختتم الصاوي حديثه قائلا: “وسواء كانت هذه الرصاصة في قلب توفيق الحكيم، أو في قلب عبدالوهاب، أم في قلب محمد كريم، أو في قلب الفن والأدب، أو في قلوب هؤلاء كلهم جميعا فهي على أي حال درس يعلم من يريد أن يتعلم أن الجمهور المصري يعد من أشد الجماهير حساسية وتذوقا للفن يستحيل أن تغريه شهرة أو تخدعه إعلانات أو تؤثر فيه أقلام مأجورة ولو تغنت ليل نهار بالنبوغ والنابغين”.

بطبيعة الحال لم يسكت توفيق الحكيم على حديث أحمد الصاوي محمد. وأرسل لذات المجلة التي نشرت مقال الصاوي- الإثنين والدنيا- ردا على الصاوي شرح فيه وجهة نظره مدافعا عن المخرج والمطرب وباق طاقم العمل قائلا: “أنا الواضع أسمي أدناه أقر وأعترف باني أنا المسؤول عن فيلم (رصاصة في القلب) من الألف إلى الياء”.

وما أحسب أحدا كان ينتظر مني أن أقف موقفا آخر غير هذا، بعد أن جمع صديقي الصاوي كل المصائب والنوائب وألقاها على رأس المطرب والمخرج. فأنا لا أتخلى عن شركائي أبدا. ولا أرضى أن يحملوا العبء عني. فالحقيقة التي لا شبهة فيها هو أنه إذا كانت هنالك جناية، فأنا وحدي الجاني. فليس هذا أول فيلم لعبدالوهاب. بل هذا فيلمه السادس. والناس كلها تعلم أنه أنتج قبل اليوم خمسة أفلام ظفرت كلها بالنجاح. وكانت كلها من إخراج عين المخرج، وتمثيل وغناء نفس المطرب، وتلحين ذات الملحن. فما الذي استجد إذن في هذا الفيلم الأخير الذي رأى فيه الصاوي تلك الخيبة الثقيلة؟، لم يستجد غير حضرتي”أنا ولا فخر”. فإذا كان هنالك لوم يوجه إلى عبدالوهاب، فهو أنه لجأ إلى ذلك الذي سماه الصاوي”من عباقرة الأدب في الشرق”! أو ربما كان هناك سبب آخر لهذا الاختيار. يخيل إليّ أن عبدالوهاب قد جرفه هو أيضا تيار”الموضة” الشائعة اليوم في الخطب العامة من التزامها السجع في الكلام، فرأى أن يسجع في انتقاء كواكبه، فجعل الممثلة الأولى راقية إبراهيم، والمخرج محمد كريم، والمصور عبدالعظيم، فليكن المؤلف إذن توفيق الحكيم.. وبهذا تم الوزن وكمل النظم.. وعاب علينا الصديق العزيز بعد ذلك أننا غنينا ورقصنا في”بانيو” الحمام.. وأشهد الله أني أنا أيضا المسؤول عن ذلك.. بل حتى عن الصابون وعدم وجوده!.. سبحان الله في طبعك يا صاوي!.. حتى استحمامنا تتحكم فيه، وتلزمنا باستعمال الصابون.. ومن يدري.. ربما اشترطت أيضا علينا صنف “الساتلايت” أو “البالموليف”؟! كلا يا سيدي.. هذا حمام ماء دافئ لتهدئة أعصابنا فقط لا للتنظيف ولا “للتلييف”!.. ثم تناول الصاوي بالنقد جسم غريمه المطرب وعسيره بالهزال، ونسى أنه سوف يظهر أمام الدنيا عاريا بالمايوه على بلاج ستانلي وسيدي بشر هذا الصيف، وسيجد من يعيره بالكرش المحترم الذي اكتسبه فيما اكتسب من سمات أصحاب المال والأعمال.

مفاجأة محمد كريم

المفاجأة الكبرى في هذه المعركة كانت مداخلة المخرج محمد كريم الذي فجّر عدة مفاجآت مدوية ورد الرصاصات إلى قلب الصاوي، فقد كشف محمد كريم عن حقيقة أن الصاوي لا يكتب لوجه الله، ولكنه كان يريد الدخول في تجربة التمثيل وعرض عليه أن يجسد الدور الذي مثله سراج منير في الفيلم، وعندما اعترض كريم على المبلغ الذي طلبه الصاوي غضب وانسحب وهاجم الفيلم ومؤلفه ومخرجه وأبطاله.

ويقول محمد كريم: “يعلم كل من يعرف الأستاذ أحمد الصاوي محمد أنه لا يكتب شيئا لوجه الله ولكنه مع هذا هاجم فيلم “رصاصة في القلب” الذي أخرجته للأستاذ محمد عبدالوهاب، وأرسل مقاله إلى مجلة الإثنين مجانا لوجه الله لماذا؟، هناك أسباب كنت أفضل عدم ذكرها لولا أن المجلة قالت أن الرد لي.. يا أستاذ صاوي إنني في حل من القول إنك عرضت علينا القيام بدور الدكتور سامي الذي قام به الأستاذ سراج منير اعتقادا منك أنك تقوم به خيرا منه.. نظير ألف جنيه ولما عرضت عليك خمسمائة جنيه رفضت بإباء وشمم لأنك استصغرت هذا المبلغ ويظهر أنك اعتقدت أن ميدان السينما ميدان ثان يمكنك غزوه بسهولة لتظهر للعالم أن في مصر منافسا خطيرا لكلارك جبيل وروبيرت تيلور، بعد أن كاد الناس ينسون أحمد الصاوي محمد ذلك الأديب التي أفلتت من بين يديه الملكة الأدبية والروح الفنية التي كانت تظهر في كتاباته في الماضي واختفت في كل كتبه ومقالاته الحديثة المترجمة والمنقولة عن أدباء الغرب لأنه أصبح الآن ولا هم له إلا جمع المال”.

ويبدو أن رصاصة محمد كريم أصابت أحمد الصاوي في مقتل فلم يرد عليها، وأيضا وجد توفيق الحكيم أن ما كتبه صديقه المخرج قد كفى فلم يعود ثانية للسجال مع صديقه الأدبي القديم أحمد الصاوي محمد.

مشاركة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر