رخا سجينا: الكاريكاتير في الزنزانة

في عام 1933 كان فنان الكاريكاتير الشهير «رخا» (1910-1989) يعمل في مجلة «المشهور» لصاحبها عمر عزمي، والتي كان يدعمها الأمير عباس حليم. وفي أحد الأيام أضرب عمال شركة الأتوبيس بسبب سوء معاملة الشركة فضربهم رجال البوليس وقبضوا عليهم. فرسم رخا على غلاف مجلة المشهور صورة كاريكاتورية للمدير الأجنبي يضرب عاملا بخنجر في ظهره وقد سال دمه. ورسم رئيس الوزراء إسماعيل صدقي في ملابس عسكري بوليس يجري نحو العامل المصاب. ويقول له: وكمان وسخت بدلة الخواجة بدمك الزفر؟ وأمرت النيابة بالقبض على رخا وقبل أن يذهب إلى النيابة رسم عدة رسومات كاريكاتورية وسلمها لصاحب مجلة المشهور حتى لا تتعطل المجلة في حال اعتقاله. وتم حبسه ثلاثة أيام.

***

وفي اليوم الرابع قال له رئيس النيابة: “أقسم لك يا رخا أنني سأفرج عنك خلال يومين”. وفي اليوم الخامس جاءه السجان وقال له: “عاوزينك، وحمد الله أنه سيخرج من سجنه واستوقفه نائب مأمور السجن “محمود طلعت”. وسأله عن سبب سعادته، فأجابه رخا: مبسوط لأنني سيفرج عني. فدهش طلعت وقال: إفراج إيه ده أنت وقعت في مصيبة وأخرج من درج مكتبه العدد الجديد من مجلة المشهور وٍسأله:

  • أنت رسمت الصورة دي؟
  • أجابه رخا: طبعا دي صورتي. ما فيهاش حاجة دي صورة محرر يحمل أوراقا.
  • فسأله محمود طلعت: هل قرأت الكتابة المكتوبة على الورق؟

ودقق رخا في الصورة فإذا حروفا صغيرة أسفل الصورة تسب الملك فؤاد بكلام غير لائق.

لم يكن الخط هو خط رخا ولم يستطع إثبات براءته. وقال كلمته المشهورة «العدالة لم تكن في صفي فقد كانت العدالة مشغولة بما هو أهم من الرسام رخا». وحكمت المحكمة عليه بأربع سنوات ولم يصدق أذنه وتصور أنه يحلم. فلم يتصور أن تسمح السماء بسجن شاب برئ أربع سنوات في جريمة لم يرتكبها. وظل رخا في السجن ولم يخرج منه إلا في نهاية عام 1936.

أربع سنوات في مقبرة الأحياء

دخل رخا السجن أو مقبرة الأحياء كما كان يحب أن يسميه ليلة 7 يوليو 1933 وخرج 11 ديسمبر 1936. ومن سوء حظه أن المسجون إذا كان حسن السير والسلوك فهو يفرج عنه في أول مناسبة رسمية إذا قضى ثلاثة أرباع المدة. وكانت أول مناسبة رسمية بعد انتهاء هذه المدة هي عيد جلوس الملك فؤاد. ولكنه مات قبل عيد جلوسه نكاية في رخا حتى يقضي بقية المدة ويشرب الكأس حتى الثمالة ولتتأكد مقولته أيضا “العدالة لم تكن في صفي”.

ومن المفارقات المؤلمة والتي تؤكد أيضا أن العدالة لم تكن في صف رسام الكاريكاتير رخا أنه سجن أربع سنوات في نفس الوقت الذي سجن فيه محمد التابعي في نفس التوقيت 1933 أربعة أشهر فقط بسبب هجومه على الحكومة في مجلة روزاليوسف. ولم يسجن محمد توفيق دياب صاحب جريدة الجهاد سوى تسعة أشهر فقط بسبب هجومه على حكومة إسماعيل صدقي أيضا.

كما أن العقاد سجن عام 1930 تسع أشهر فقط، وهو الذي هاجم الملك فؤاد علانية في البرلمان. بينما رخا قضى في مقبرة الأحياء أربع سنوات من عمره تحدث عنها في العديد من المقالات.

***

يصف رخا العيد في السجن في مقال له بعنوان “7 أعياد في السجن”: (للأيام الخاصة حنين في السجن إلى الأهل والأصحاب لا يحسه إلا الذين سمعوا صوت الباب الحديدي الضخم في مقبرة الأحياء يغلق من ورائهم. وقبل العيد بيومين بدأ جو التزمت والكآبة يخف من السجن شيئا فشيئا. وطفت بغرف السجن وكنت أتمتع فيه بحرية نسبية، إذ كان عملي هو رسم الأرقام فوق الزنزانات ولمحت في كل زنزانة مررت بها علامات الابتهاج. ثم جاء الليل وإذا السجن يصخب بحفلات السمر يقدم فيها الملبس والحلوى التي هربت للذين سيعفى عنهم في العيد بعد قضاء ثلاث أرباع المدة، ورأيت ليلتها أول شمعة تضاء في السجن. ثم أضيئت بعدها شموعا كثيرة”.

ويتابع رخا ذكرياته في السجن قائلا: “جاءني صديق السجن الذي لم يفارقني فيه يوما. وكان شابا من أسرة طيبة كل عيبه أنه يصرف قدر دخله مرتين، وأبرز ما فيه عيناه الخضروان العميقان وابتسامته التي لم تفارق شفتيه حتى أحلك الأوقات وقال لي وهو يضحك:

  • فرحتين

ونظرت إليه من فوق السلم الذي كنت أتسلقه لأنقش الأرقام المكتوبة على باب إحدى الزنزانات. وقال لي: الفرحة الأولى نويت أن أقضي الليلة كلها في ضحك وسرور، والثانية لقد جاءنا ضابط جديد بدل صاحبنا الفظ القاسي).

***

وغادر رخا السلم استعدادا لليلة طويلة من الفرح والسرور في أول عيد له في السجن. وجاء فجر أول أيام العيد ووقف رخا مع باقي المساجين، وأقبل الضابط الجديد ونظر رخا إليه وأحس أن فيه شيئا يخيفه. وبدأ الضابط الجديد يتكلم وهمس مسجون عجوز كان يقف جوار رخا، وقال: الضابط ده مجنون! وشعر رخا أن كلمة المسجون العجوز صادقة وهذا هو الشعور الذي تسلل إليه أيضا. ولم يترك لهم الضابط فرصة طويلة للحدس والتخمين فقد انتقى أحد السجناء وقال له بالإنجليزية:

?What’s your name

ولم يفهم السجين بالطبع ووقف أمام الضابط حائرا لا يأتي جوابا وصاح الضابط:

  • ما بتردش عليا يا ابن…. ثم أهوى عليه بيديه ضربا وأحس رخا بالرعب يسري في ضلوعه، وتكررت المأساة مع سجين ثاني وثالث ورابع. وجاء وقت طابور العصر ووقف المساجين أمام الضابط الرهيب. وانتهى الطابور وقد فتك الضابط بعشرة آخرين.
***

يقول رخا متذكرا أيام سجنه: “بدأت أبحث عن الله واستنجد به وأعطاني الله صبرا وأعطى أمي وزوجتي ما يكفي لشراء بضعة أرغفة من الخبز وقطعة جبن كل يوم. وأعطاني الله القدرة على أن أضحك مع كل من حولي. ولم أمض السنوات الأربع في سجني ألعن العدالة وألعن الرجل الذي دس الكلمات النابية في رسمي الكاريكاتيري. لقد نسيت ظلمي ونسيت أنني مظلوم ورحت أحاول أن ارسم أبوابا مفتوحة في زنزانتي وأتصور أنني طليق. وأن السجان هو السجين وأن مفاتيح الزنزانة عندي، فقد رسمت المفاتيح على أرض الزنزانة. وفي كل ليلة كنت أرقد على الأرض وأغمض عيني وأتصور أنني أمضي ليلة في مسرح الريحاني أو في مسرح رمسيس أو في صالة بديعة.

وكنت أسمع في زنزانتي ضحكات نجيب الريحاني وصراخ يوسف وهبي. وأرى تحية كاريوكا وهي ترقص، وكنت أضحك مع الريحاني وأبكي مع يوسف وهبي وأتلوى مع تحية كاريوكا. وفي الصباح كنت ارسم صورا كاريكاتورية في الخيال وأعجب بها وأضحك، وكانت ضحكاتي تثير دهشة المساجين والسجانين ولكنهم بعد فترة راحوا يضحكون معي على الدنيا”.

وتمر سنوات رخا في مقبرة الأحياء ويأتي يوم العيد الأكبر في حياته. وهو اليوم السابق ليوم الإفراج عنه وأخذ يضحك مع أصدقائه ويقف أمام كل منهم. ويقول لهم ضاحكا: ?What’s your name، ليذكرهم بالضابط المجنون، ويفتح باب السجن ويخرج ليستقبل نسمات الحرية ويستقبل معها أيضا أتعس لحظات حياته. فقد شعر رخا أنه خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير. وذهب يبحث عن أصدقائه في مطبعة الشباب وكان مركز الإنتاج الصحفي يوم دخل السجن. وفيه ترك أصدقائه القدامى فاكتشف أن مطبعة الشباب تحولت إلى مخزن أخشاب.

البحث عن عمل

وذهب رخا ليطرق باب آخر مجلة كان يعمل بها ويتقاضى مرتبا شهريا قدره ثلاثون جنيها، وفتحوا له الباب على الفور. وبدأ يرسم وجاء موعد صرف الراتب فاعتذر له الصراف بأن اسمه لم يرد في كشف المرتبات. وجاء الشهر التالي فاكتشف أن راتبه انخفض من ثلاثين جنيها إلى ستة جنيهات. فقد نزلت قيمته في بورصة الصحافة بعد خروجه من السجن وجمع أوراقه وأقلامه. وانتقل إلى مجلة روزاليوسف بمرتب ثمانية جنيهات في الشهر. وكانت السيدة روزاليوسف تعاني وقتها أزمة مالية حادة وعجزت روزاليوسف عن دفع مرتب رخا. ولكنه بقى جانبها يقاسمها الفقر.

وكانت السيدة روزاليوسف تتقاسم معه كل أسبوع كل ما في حقيبة يدها من نقود، وفي بعض الأسابيع كان كل ما في حقيبتها 50 قرشا فقط. وفي عام 1941 أصبح مصطفى أمين رئيسا لتحرير مجلة “الإثنين والدنيا” وأخذ يعمل معه رخا وكانت الفترة الذهبية له. وظل رخا يعمل بجانب مصطفى أمين حتى انتقل مصطفى أمين مع شقيقه التوأم إلى جريدتهما الوليدة “أخبار اليوم”.

وبعد عامين من إصدار أخبار اليوم انتقلت ملكية مجلة آخر ساعة إلى التوأمين ليتألق فيها رخا برسومه ويبدع ويبتكر شخصيات كاريكاتيرية تصبح ماركة مسجلة باسمه، مثل بنت البلد ورفيعة هانم وقرفان أفندي. وفي عام 1946 أصبح رخا رئيسا لتحرير مجلة “مسامرات الجيب” التي كانت تصدر عن دار الجيب لصاحبها “عمر عبدالعزيز أمين”. ليصبح رخا من أوائل رسامي الكاريكاتير الذين يتولون مسؤولية تحرير المجلات. وفي شهر يوليو 1946 أصدر رخا كتابه “صور ضاحكة” وكتب على صفحته الأولى: “كثير من رسوم هذه المجموعة نشر في جريدة أخبار اليوم ومجلة آخر ساعة ومجلة الإثنين. في عصرها الذهبي عندما كان يرأس تحريرها مصطفى أمين بك ويرسمها رخا.”

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: «زكي محمد خطاب» الأزهري قائد الشمامسة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر