رجل الحديقة

تميز شارعنا الذي نسكنه وشوارع الأنحاء التي تدنو منه، بالبيوت الخفيضة، طابق أو طابقين. وكذا الڤيلات الأنيقة المتناثرة ذات الأبواب الحديدية المطرزة. مطوقة بحدائق رحبة تكاثفت كائناتها حتى كادت بناية الڤيلا نبتة صغيرة وكأنها جزء من الطبيعة. بدت الحدائق تزخر بالنباتات والورود والأزهار واكتست بالعشب حق شملتها النضارة، محاطة بأسوار واطئة، رشقت إفريز السور، قطع الزجاج الحادة المنكسرة، مخافة تهديد الأشقياء من أبناء الشوارع الخلفية المجاورة. حيث غمرت تلك الأرجاء الناصعة الهدوء والسكون.

وفي صبانا، كنا نظن أن تلك الڤيلات لا يقطنها أحد. سوى الأشباح وحيث كنا نلتقط زهرات الفل والياسمين التي تساقطت على الأرصفة المحاذية للڤيلات.

وليس سوى رجل يعتمر قبعة عريضة ويحمل في يده مقص كبير، عرفناه “بالبستاني”. يهذب ويسوي ذخيرة الحديقة من أشجار الحديقة من أشجار نافرة، تبعثرت أغصانها، وعصت النظام والجمال، فيعيدها إلى سيرتها الأولى. يغمر الحديقة بالمياه العذبة، ليرد الحياة لنباتات ذابلة. ويرد للورود ما تبدد من عبق ورحيق، ورونق، إلى كائنات طالها الشحوب.

وظل البستاني هو الحارس الوحيد، ورب ثمارها، يكترث بكل شئ يخص الڤيلا، يصطحب دراجته المقيدة بجنزير بالباب الحديدي، ويمضي ليأتي بحاجيات أهل الڤيلا، مرورا بإدارة كافة الشؤون.

وفى مواقيت أخرى، تنقص الڤيلات غيوم الظلام والوداعة ليلا، فتضاء البناية وتتلألأ الأركان، في المناسبات العائلية. فالأبواب والنوافذ مفتوحة، تسود الأماكن، ضجة خافتة، رجال ونساء في تأنق ساحر وروعة مشرقة. ولم يغب عن تلك الأمسيات “البستاني” كواحد من عمد العائلة.

أعادني كل ذلك إلى مدارسنا التي درسنا بها سنوات عديدة. حيث احتلت الحديقة الواسعة بقعة رحبة من المدرسة، حفلت بكافة أنواع الأشجار والنباتات. وحيث اعتدنا أن يصطحبنا مدرس التربية الزراعية للحديقة، فصارت رحلة علم وترفيه حيث تغمرنا البهجة والسعادة، حينما نرسم أوراق وأغصان الأشجار والنباتات. ونحمل صندوق الكرتون الذي يحتضن أوراق التوت ودودة القز. لنتعلم نشوء وبزوغ صناعة الحرير، ويخاطرني اقتطاف الورود التي كنا نخبئها بين دفتر الروايات العاطفية والرومانسية لنحملها هدايا للحبيبة.

اقرأ أيضا:

يوليو.. الآخر: المثقفون والثورة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر