«ذاكرة البرتقال».. تراث يافا المنكوبة في مقتنيات «نهى بطشون»
«تخيل أن تُهجر من بيتك.. تخرج منه بالقوة.. تتعرض لكل أشكال التهريب لتتركه.. تغادره بالفعل ومن الصدمة لا تستطيع تذكر أي شيء.. وبعد سنوات تُعيد لك رائحة عابرة ذكريات حياتك من جديد».. هذا ما حدث مع الفلسطينية نهى بطشون، التي مكنّتها رائحة البرتقال من توثيق تاريخ بيتها ومدينتها المنكوبة عبر مقتنيات أهل فلسطين.
النكبة في ثوب
في المتحف الفلسطيني الرقمي تستعرض الفلسطينية نهى بطشون، ذكرياتها الشخصية وذكريات أهل يافا الفلسطينية المُحتلة في المعرض الدائم «ذاكرة البرتقال» الذي انطلق في نهاية مايو الماضي ويستمر طوال العام بالتزامن مع ذكرى نكبة 76.
يتضمن المعرض العديد من الصور القديمة، اللوحات، الخيوط، والأثواب الفلسطينية القديمة التي قضت نهى عمرها في جمعها وشراءها وترميمها، بينها ثوب أبيض مطرز بالخيط الأحمر ويظهر توسعته بقماش ذو لون مختلف. أهدت امرأة من رام الله هذا الثوب لفلاحة فلسطينية هجرت من دارها عقب نكسة 1948، لابد أن صاحبة الثوب الجديدة كانت أطول قامة من صاحبته الأولى، فأضافت قطعة أخرى إلى منطقة بطن الثوب وظهره وجانبي الخصر لتوسيعه.
وثق القماش المُضاف الذي ارتجلته هذه اللاجئة، الظروف الصعبة التي عاشتها وكان أبلغ تعبير عن الظروف القاسية التي مرت بها. ما يزال حرف النون (من كيس طحين الأونروا الذي استخدمت قماشه لتوسيع الثوب) واضحا على أحد جانبي الصدر.
يافا.. رحيل إلى الأبد
نشأت نهى بطشون مع أسرتها في يافا الفلسطينية، تصف بيتها بأنه كان كبيرا ودورة المياه والمطبخ كانا في مكان منفصل. وفي عام 1948، شهدت عائلة بطشون – مثل الكثير من العوائل الفلسطينية – مأساة التهجير القسري من أرضهم وبيوتهم. حيث عاشت العائلة في حي العجمي بمدينة يافا.
منزل العائلة كان جميلًا، تصفه نهى بأنه له “كوليدو” أي ردهة، وغرفتان على الطابق العلوي لضيوف العائلة والنوم غرفة منها كانت تنام فيها مع جدتها. أما والد نهى فكان لديه بستان كبير، واعتاد جلب البرتقال إلى المنزل بكميات كبيرة بدلا من شرائه بالكيلو أو القطعة. وفي موسم البطيخ، يجلب كميات ضخمة من البطيخ أيضًا.
يوضع البرتقال في الخارج، وعندما يعود الأطفال من المدرسة، كان والدهم يساعدهم على عصر البرتقال الطازج. كما كان الأطفال يقطعون رؤوس البرتقال ويضعون شبابيك في الجوانب حسب حجم الثمرة، ثم يضعون شمعة في الوسط ويربطون الرأس بالبرتقال بخيوط لإنشاء غطاء للشمعة.
وتتذكر الأسرة هذه الذكريات البسيطة بحنين، حيث كانت الحياة في تلك الأيام أبسط وأكثر بساطة. وكانت كل عائلة تخبز الخبز في المنزل لمدة أسبوع، وعندما ينتهي يذهبون لشراء المزيد.
مجزرة دير ياسين
في يوم 9 إبريل 1948، تغيرت حياة عائلة “بطشون” إلى الأبد. حدثت مجزرة دير ياسين التي هزت الفلسطينيين في يافا. ذُعر والد نهى من المجزرة وقرر أن ينقل العائلة خارج المدينة إلى منزل قريب في حي النزهة، على أمل أن يكونوا أكثر أمانًا هناك.
ثاني يوم المجزرة، كانت النساء الفلسطينيات يشاهدن المشاهد المروعة للقتل والتنكيل بالأطفال والنساء الحوامل. رغم رفضه المتكرر لتخليه عن بيته، لكن علمه بالهجوم على البيوت التي يتواجد بها فتيات زاد من مخاوفه. وفي النهاية، قرر والد نهى ترحيل ابنه وابنته إلى بيروت، وإرسال نهى وأختها إلى عمان لدى أقارب. كان الهدف أن يكونوا آمنين لبضعة أسابيع فقط، لكن الأيام تحولت إلى شهور وسنوات. لم تستطع عائلة بطشون العودة إلى منزلهم في يافا مرة أخرى.
هكذا، تحولت دار عائلة بطشون في حي العجمي إلى كنيس يهودي، وضاعت ذكريات الطفولة البريئة لنهى وإخوتها.
ذاكرة البرتقال
رغم الأحداث العديدة التي عاشتها ورحلتها نهى لترك المنزل والطريق الذي شقته لعمان برفقة شقيقتها ولم تتجاوز أعمارهما 7 و11 عاما. إلا أنها لم تتذكر كل ذلك كأنها فقدت ذكرياتها في يافا برحيلها عنها.
مرت الشهور والأعوام، وانتقلت نهى من بلد إلى بلد. حتى كانت مسافرة من روما إلى فرنسا، ولاحظت أن رائحة الجو خلال وجودها في البحر الأبيض المتوسط يملئه عبق زهر البرتقال والليمون والحمضيات. لم تجد تفسيرا للشعور الذي أصابها، لكنها بدأت في البكاء وتذكرت كل الرعب الذي مرت به. شعور قاس لم تشعر به مسبقا، وفسر الأطباء حالتها أن ذاكرتها عادت في هذا الثانية بعدما شمت رائحة البرتقال.
“بهذه اللحظة صار عندي وجع ما بينوصف” بهذه الكلمات تصف نهى بطشون مأساتها، وتقول -في التدوينة الصوتية- إنها استعادت ذكرياتها في يافا أيام النكبة ولم تكن قادرة قبل مايو 1948 على تذكرها مطلقا. بل كانت تسأل أصدقاءها وعائلتها عن ذكرياتها في يافا.
عملت نهى في الإعلام، وبدأت برجوع ذكرياتها، رحلتها في توثيق تاريخ يافا وفلسطين المحتلة والأحداث التي عاشتها كل أسرة فلسطينية تعرفها. وكتبت مذكراتها وأصدرتها في كتاب بعنوان “راهبة بلا دير” تتكرر فيها تفاصيل عن يافا والبيت والغرف والأثاث وكل الحوادث والمواقف التي عاشتها وهي صغيرة.
لم تفقد نهى وحدها ذاكرتها، بل لاحظت أن كثير من الفلسطينيين المُهجرين يسألونها المزيد عن ذكريات وتاريخ المدينة. وقالوا إنهم مروا بالحالة نفسها “لا يتذكرون شيئا”، بينهم شخص كان من عمر نهى وتقول عنه: “صرت ادون كل الذكريات والتقيت بشخص من يافا يبدو أنه من عمري. وقال كلما وصفتي الشوارع أتذكر شيئا من عمري وأشعر أن كل ما تكتبيه مألوفا”.