د.سهير حواس: قرارات وقف هدم الجبانات «وهمية»!

على الآثار والتنسيق الحضاري تسجيل الجبانات الأثرية والتوقف عن الشطب!

تعلقها بالتراث والحكايات بدأ منذ طفولتها، فقد لازمت سهير حواس جدتها التي كانت دائمًا تستدعي الحكايات القديمة لتقصها على الحفيدة، التي أغرمت أيضًا في طفولتها بجمع التذكارات القديمة، وهي العادة التي ورثتها من والدها المعماري الراحل زكي حواس.

لكن تعلقها بتراث مدينة القاهرة بدأ عقب زلزال 1992. كانت المعمارية الدكتورة سهير حواس وقتها ضمن أعضاء اللجنة التي عاينت آثار القاهرة التي ضربها الزلزال. تقول: «كانت مهمتنا تحديد مقدار التلف الذي أصاب المباني، وهنا بدأت علاقتي بالآثار، إذ أردت التعمق في القراءة حول هذه المنشآت القديمة».

خلال تلك الفترة، بدأت تتعمق بشكل أوسع في فهم المدينة. لكنها تعلقت بمنطقة وسط البلد تحديدًا دون غيرها. ذلك أن والدها كان دائمًا يصحبها معه يوميًا وهو في طريقه إلى مكتبه بوسط البلد، ويحدثها عن حكايات المدينة وتفرد التراث الموجود داخلها. كان ذلك بالتزامن مع عمله على مشروع للارتقاء بالبيئة العمرانية من جانب الهيئة العامة للتخطيط العمراني، إذ جرى تكليفه بالإشراف على منطقة وسط البلد.

***

تقول: «اتربيت في هذا المكان، لازلت أتذكر أن والدي كان يصحبني ويحكي لي تاريخ المنطقة والتحولات التي حدثت داخلها. عملت مع والدي في هذا المشروع، وعندما توفي سنة 2000، وجدت نفسي مسؤولة عن فريق العمل لتسليم المرحلة النهائية منه. وبالتوازي مع عملي في المشروع بدأت عمليات رصد دقيقة لتوثيق المنطقة، كان الهدف من هذا كله هو استكمال مسيرة أبي الراحل. أردت أن أبعث له رسالة مفادها أنه لم يمت وأنني سأكمل من حيث انتهى. لذلك، أغلقت الباب على نفسي، وعملت لسنوات حتى خرجت موسوعة القاهرة الخديوية، إهداءً لروحه. كانت هذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها اسم القاهرة الخديوية، وقد تبنت الحكومة الاسم. وبعدها، تمت دعوتي للمشاركة في تأسيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وأصبحت من المحظوظين لأنني كنت من ضمن الفريق الذي قام بإعداد القوانين الخاصة بحماية التراث المصري، وقد وضعنا الاشتراطات المتعلقة بالتعامل مع المدن التاريخية القديمة، وكان هذا هو الدور الرسمي الذي لعبته في الحفاظ على التراث».

تعتبر الدكتورة سهير حواس، أستاذة الهندسة المعمارية والتصميم العمراني بجامعة القاهرة، أحد أبرز المدافعين عن مدينة القاهرة. كان دفاعها المستمر عن تراث المدينة نابعًا من منطلق «الغيرة» بسبب ما تفقده المدينة يوميًا من كنوز ترى أنه لا يمكن أبدًا استعادتها. في هذا السياق، نتحدث معها حول وضع المدينة في الوقت الراهن، ورؤيتها لعمليات الهدم المستمرة داخل المدينة «المهددة».  

رئيس مجلس الوزراء وعد مؤخرًا بوقف أية أعمال هدم داخل جبانات القاهرة القديمة.. هناك مطالبات حاليًا بإعادة بناء هذه المباني مرة أخرى.. هل توافقين؟

لا أوافق على الفكرة. فكرة إعادة البناء ليست مقبولة بالنسبة إليَّ لأن المبنى بذلك سيفقد عنصر الأصالة الذي عرف به. فضلًا عن أن العمال والصناع المهرة الذين شاركوا في عمليات البناء لم يتبق منهم أحد؛ لذلك فإعادة البناء تعني أننا أمام مبنى مصطنع وغير حقيقي. بالإضافة لصعوبة تنفيذ الأعمال الأصلية التي جرَّت على المبنى. كالكتابات الجميلة التي كتبها الخطاطون، والمقرنصات، وغيرها من أمور فنية من الصعب إعادة تنفيذها مرة أخرى. بالإضافة إلى غياب التوثيق الكامل لهذه المباني؛ لذلك أرى من الصعب تطبيق الفكرة على أرض الواقع.

وما الحل؟

الحل إعادة المقتنيات التي جرى نقلها وإعادتها لمكانها الأصلي مرة أخرى، بجانب وقف أي عمليات هدم داخل المنطقة.

وما هو دور كل من وزارة الآثار والتنسيق الحضاري في هذه الفترة؟

 دورهما هو وقف عمليات الشطب، وإخراج الجبانات التراثية من السجلات الرسمية. فضلًا عن ضرورة عدم اعتماد أي قرار قد ينتج عنه إخراج أيًا من الجبانات، مع إعادة تسجيل المباني التي أخرجت مؤخرًا. كذلك من الضروري الاستمرار في تسجيل الجبانات. فقد رصدنا داخل التنسيق الحضاري كل مناطق الجبانات المتميزة، وأرسلنا القوائم للمحافظة، كي يتم تسجيلها من جانب لجان الحصر، وتم بالفعل تسجيل عدد كبير منها. لكن في المقابل، تم إخراج العديد منها أيضًا تمهيدًا لهدمها.

وأرى أنه من الضروري المحافظة على المدينة بشكل كامل، وعلى نسيجها العمراني، لأن تدمير وتمزيق هذا النسيج بالمحاور المرورية والشوارع الجديدة يعني أن المدينة ستأكل نفسها؛ وبالتالي، فهذا النسيج العمراني لن يكون له أي معنى إذا تم اختراقه.

منذ عام تم تشكيل لجنة للبت في أمر الجبانات بناء على أمر رئاسي.. هل تعتقدين أن جزءا من حل مشكلة الجبانات سيكون من خلال إعادة تفعيل اللجنة مرة أخرى أم أنه من الضروري تشكيل لجنة جديدة؟

كفانا تشكيل لجان. لجنة الرئيس قالت بشكل صريح أنه لا جدوى من المشروع المزمع تنفيذه، وقد قدمت حلولًا حقيقية للمسألة برمتها ورفضت هدم الجبانات. ولكن في النهاية تم تجاهل ما أقرت به اللجنة. فقد تم إيقاف أعمال الهدم ظاهريًا، لكن على الأرض استمرت عمليات الهدم، وهذا ما ظهر جليًا خلال أعمال هدم قبة مستولدة محمد علي باشا. أدركنا حينها أن قرار وقف الهدم كان وهميًا.

قبة حليم أثناء الهدم
قبة حليم أثناء الهدم
دائمًا يتم الترويج لرواية مفادها أن جبانات القاهرة التاريخية محاطة بالمياه الجوفية.. كيف يمكن حل هذه المشكلة؟

هناك حلول بالتأكيد. علم الهندسة لا يعرف المستحيل، ولا يعجز عن تقديم حلول. وهذه حجة أرى أن الهدف منها دائمًا تمرير فكرة الهدم. فقد هُدمت الكثير من المقابر التراثية، ولم نر أي نقطة مياه وقت الهدم، وهذا يعني أن الهدف من ترويج هذه الرواية هو تمرير قرارات الهدم. الأولى ترميم هذه المقابر، لأن القاهرة التاريخية بالكامل تعاني من المياه الجوفية، وهذا لا يجعلنا نطالب بهدم القاهرة بالكامل! فطريقة الهدم آلمت كل مصري، وكانت «فجة». من الضروري أيضًا إعطاء تفاصيل حول المشروع المزمع تنفيذه بالمنطقة، لأننا حتى الآن لا نعرف أيًا من هذه المخططات ولم يطلع أي شخص عليها.

لننتقل إلى نقطة أخرى تتعلق بترميم تماثيل أسود قصر النيل، التي أثارت جدلًا خلال الفترة الأخيرة.. كانت لك تجربة في ترميم هذه التماثيل منذ فترة.. كيف كانت التجربة؟

المشروع بدأناه في عام 2015 بتمويل من البنك الأهلي المصري بمبلغ ثمانية ملايين جنيه. وقد رممنا كل من كوبري قصر النيل، وكذلك تماثيل أسود قصر النيل الأربعة، وتمثال سعد باشا زغلول. استعنا بخبراء ترميم من وزارة الآثار كون هذه التماثيل كانت مسجلة ضمن الآثار، فضلًا عن خبرتهم العالية في ترميم التماثيل البرونزية. أما كوبري قصر النيل فقد أشرفت على ترميمه ولم نستعن بوزارة الآثار، كونه لم يكن مسجلًا في حوزتهم.

ماذا اكتشفتم أثناء عملية الترميم؟

خلال أعمال ترميم كوبري قصر النيل، وجدنا أن هناك ثلاثة أعمدة من الكوبري تم سرقتها في وقت سابق؛ لذلك، أعدنا الأعمدة باستخدام نفس المواد الأصلية. كما كشفنا عن الزاوية المعدنية الأصلية للرصيف، وقمنا برصفه بنفس مستوى المنسوب الأصلي. ورممنا أيضًا سور الكوبري وأزلنا كافة طبقات الطلاء التي شوهته لسنوات. أما بالنسبة لتماثيل كوبري قصر النيل، فقد قمنا بتحويطها بسواتر قماشية، واستخدمنا مواد دقيقة لإزالة التشوهات والأتربة من التماثيل، خاصة بعد أن لاحظنا الكثير من الكتابات والرسومات عليها. وقد راعينا أثناء عملية الترميم الاحتفاظ بطبقة «الباتينا»، وهي طبقة التراكم التاريخي التي تحافظ على علامات الزمن بالنسبة للتمثال.

إذن كيف تابعتِ الجدل الذي أثير مؤخرًا بخصوص تماثيل كوبري قصر النيل؟

 أحد أسباب الجدل هو أن مرممي الآثار لم يقوموا بتغطية التماثيل وقت صيانتها. وهي أمور كان يجب الالتفات إليها عند الترميم لأنها تركت انطباعًا سيئًا لدى الجميع، حيث ظهرت طبقة لامعة بعد إزالة الأتربة من على التماثيل، مما دفع الناس للاعتقاد بأن التماثيل قد «دهنت». لذلك، أرى أنه كان من الضروري تغطية التماثيل حتى الانتهاء من العملية بشكل كامل. أما الحكم على ما حدث فيجب أن يترك للمتخصصين في الترميم، ويجب أن يتم الإعلان أيضًا عن المواد التي جرى استخدامها أثناء عملية الترميم ومعرفة نسب التركيز التي تم وضعها.

لكن الوزارة قالت في بيان لها إن تماثيل كوبري قصر النيل لم تكن مسجلة أصلًا في عداد الآثار..

انزعجت عندما سمعت هذه التصريحات. أعتقد أن الوزارة وقعت في خطأ كبير بعدم الاعتراف بأثرية التماثيل. إذا كانت هذه التماثيل غير مسجلة، فلماذا بادر مرممو الآثار بترميمها في وقت سابق من المشروع الذي أشرفت عليه؟ أتذكر أنه قد أشرف على عملية الترميم كل من الدكتور ممدوح عودة والدكتور غريب سنبل، الذي شارك برأيه في أجزاء كثيرة من المشروع، وكلاهما يعملان في وزارة الآثار. إذن، تصريح وزارة الآثار يدين الوزارة لأنهم يعترفوا من خلاله بوجود تقصير في عدم تسجيل هذه التماثيل التي تعود للقرن الـ19. لذلك، أتساءل: لماذا تحاول وزارة الآثار دائمًا تبرئة نفسها بحجة عدم التسجيل؟

يبدو أن هناك إشكالية دائمًا حول ترميم وتنظيف التماثيل الموجودة في الميادين العامة.. في رأيك، ما الجهات التي يجب أن تتولى عملية الترميم والصيانة والنظافة؟ 

أرى أن هناك جهتين يجب أن تتوليان مسألة الحفاظ على وتنظيف هذه التماثيل، وهما: المحليات، والهيئة العامة للنظافة. تمتلك الهيئة سيارات مخصصة يمكن للعمال من خلالها تنظيف هذه التماثيل بصورة دورية، باستخدام وسائل ملائمة للتنظيف. ويجب أيضًا أن يتم الموضوع بصورة دورية كتنظيف التماثيل كل أسبوعين على حد أقصى. للأسف، هذه الأمور لا تنفذ على الأرض. يجب أيضا إعداد فنيين للتعامل مع هذه التماثيل وتنظيفها بصورة سليمة. وأنا هنا أطالب بضرورة وجود منظومة كاملة تكون مهمتها تنظيف التماثيل القديمة الموجودة داخل المحافظات. أما بالنسبة لترميم وصيانة هذه التماثيل، فيجب أن يترك الأمر للمتخصصين.

كيف تنظرين لمستقبل القاهرة، وتحديدًا منطقة وسط البلد؟

 أتمنى أن تتوقف جميع أعمال الهدم داخل المدينة، وأن يتم الحفاظ عليها كما هي. القاهرة هي الأصل، حتى لو نفذنا غيرها من المدن. أما بالنسبة لمنطقة وسط البلد، أعتقد أنني نجحت في لفت الانتباه لهذه المنطقة التي ظلت لسنوات طويلة مهملة ومهمشة. وبمرور الوقت، أصبح يلتفت إليها رجال الأعمال للاستثمار داخلها، وهذه أمور جيدة بطبيعة الحال. وأعتقد أنه يمكن في المستقبل إعادة المنطقة إلى شكلها الذي أراده منشئها الخديو إسماعيل، باعتبارها “باريس الشرق”.

أما بالنسبة للتحديات التي تواجه المنطقة، فإن عودة السكان للمدينة أصبح مطروحًا، خصوصًا أن الاشتراطات داخلها تمنع تحويل أنشطتها الداخلية لنشاطات قد تضر بالمباني. أظن أنه بمرور الوقت سيعود السكان مرة أخرى للمدينة، وهذا حدث بالفعل في السنوات الأخيرة.

 هل تعتقدين أنك حصلت على التكريم اللائق بمسيرتك؟

تفاجأت بحصولي على جائزة الدولة التقديرية. قبلها بعام، كنت مرشحة ولكنني لم أفز، كما أنني لم أتقدم للجائزة، بل تم ترشيحي لها، لم أنتظر يومًا تكريمًا، لأنني وهبت عمري لمدينة القاهرة، ولم أنتظر في يوم أي مقابل. أنا مدينة لهذا البلد لأنني تعلمت داخله، وأعتبر بصدق أن مصر لها الفضل الأكبر عليَّ. رأيت كيف أن والدي ضحى بكل شيء في سبيل العمل داخل مصر؛ لذلك لست مهتمة بالتكريمات. ما يهمني فقط هو أن أترك بصمتي داخل القاهرة.

أخيرًا، ما هو مشروعك القادم؟

 حاليًا، أعمل على مشروع يطرح سؤالًا أراه مهمًا: كيف كانت تبدو مدينة القاهرة في بدايات القرن الـ20؟ أتمنى أن أنجز هذا الكتاب. مع مرور الوقت، ومع تقدم سنوات عمري، بدأت أشعر أن هناك نوعا من التزاوج بين الروح والمدينة. أصبحت مقتنعة تماما بأنني مسؤولة عن الحفاظ على القاهرة. لذا، فمكتبي وكتبي وأبحاثي كلها عن القاهرة. أصبحت القاهرة هي مشروع العمر بالنسبة إليَّ. بمرور الوقت، اندمجت روحي مع المدينة وتراثها وأصالتها، وكل هذه الأمور تداخلت جميعًا بداخلي.

اقرأ أيضا:

دعوى قضائية من وزارة التضامن لإغلاق «أتيليه القاهرة»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر