د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر

تعرفت على «عماد أبو غازي» عندما كنت لا أزال طالبة في قسم اللغة الفرنسية وآدابها في الفرقة الثالثة أو الرابعة. كانت حجرة قسم اللغة الفرنسية وآدابها تقع بجانب حجرة قسم الوثائق والمكتبات، في مبنى الملحق الجديد لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان ذلك في أواخر الثمانينيات. كنا نحن الطلاب نحب أن نسترق النظر لحجرات الأساتذة والمعيدين كلما رأينا باب أحدها مفتوحا، فضولا وتطلعا لهذا العالم المهيب السحري.

كانت ابتسامته الرائقة تلفت نظري، ولكن لم يحدث أن تبادلنا الحديث، حتى تم تعييني معيدة بقسم اللغة الفرنسية وآدابها، وبدأت في التردد على اللقاءات التي كانت تعقدها أمينة رشيد وسيد البحراوي في منزلهما العامر دائما بالأصدقاء وبدخان السجائر وبألفة الأحباب والمقاومين والمتمردين. كان عماد وبثينة من المترددين على هذه اللقاءات. واستمرت تلك اللقاءات في نادي أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة، والذي كان يجمع كل أربعاء مجموعات أكبر من المقاومين والمتمردين. أذكر منهم ليلى سويف ومديحة دوس وأحمد الأهواني والكثيرين ممن سيصبحون بعد ذلك أعضاء مؤسسين في حركة 9 مارس.

كانت هذه اللقاءات متباعدة، لكنها كانت كافية لمد جسور تواصل مستمرة ومتينة.

***

في فترة عمله بجريدة الدستور، اتصل بي واستكتبني مقالات في النقد السينمائي. وكنا نلتقي في أروقة كلية الآداب، نتبادل الحديث عن الشأن العام وعن فرح ابنتي ومريم ابنته حيث كانتا في نفس العمر تقريبا: مريم دخلت المدرسة، فرح دخلت أدبي، مريم دخلت الكلية، فرح سافرت فرنسا…

استمرت هذه اللقاءات العابرة حتى عام 2007، عندما اقترح على الراحل العزيز أ.د. فيصل يونس أن ينتدبني للعمل كرئيس للإدارة المركزية بقطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة. كان عماد على دراية واسعة بالعمل العام في الوزارة، حيث تقلد عدة وظائف قيادية لسنوات طويلة بالمجلس الأعلى للثقافة. كان عرض أستاذي د. فيصل يونس مدهش بالنسبة لي، فلم تكن لي أية خبرة بالعمل الإداري، ولم يكن لي تطلعات في هذا الاتجاه، ولم أهتم بأي عمل قبلها سوى بالتدريس والبحث اللذين كنت أجد فيهما ضالتي ومتعتي وتحققي. ترددت كثيرا واتصلت بعماد أسأله رأيه، فشجعني وحثني على الموافقة وقال لي: “هتكوني مكسب للوزارة”. شعرت بالغبطة لهذا الإطراء، ولكني كنت في شك من أمري، ومن صحة قوله. إلا أن حس المغامرة الذي امتلك منه قدرا لا بأس به، دفعني للموافقة.

في هذه المرحلة حدثت نقلة نوعية في صداقتي بعماد، فبحكم العمل في نفس الوزارة وفي قطاعات متداخلة، كان كثيرا ما يجمعنا العمل المشترك، وكنت أجد طمأنينة في وجوده، أرتكن لرأيه في الأزمات، أحدثه في السابعة صباحا حيث يستيقظ مثلي مبكرا، أتشاور معه فيما يؤرقني من مشكلات العمل وأتلمس من خبرته ما يعينني على أداء مهام وظيفتي.

***

وفي معرض كتاب جنيف في 2008، جمعتنا بعثة واحدة، وكانت رحلة لها طابع خاص، إذ ضمت الكثير من المثقفين والمبدعين وقادة العمل الثقافي من أمثال جابر عصفور، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم عبد المجيد، وآدم حنين، وعلاء الأسواني ومي التلمساني… إلخ. لكن أكثر شيء انطبع في ذاكرتي من هذه الرحلة، هو ليلة جمعت المشاركين في حفل استقبال، ولفت نظري سيدة وجهها يفيض بالجاذبية والنقاء، كانت في وسط مجموعة من المتحدثين، لها ابتسامة وردية. فسألت عماد عمن تكون هذه السيدة الراقية، فقال لي إنها مستشارتنا الإعلامية في السفارة المصرية بجنيف، فقلت له إن وجهها جميل، وطلبت منه أن يعرفني عليها:

  • “ليلى بهاء الدين”
  • أهلا وسهلا.. تشرفت كثيرا!

شعرت بالغبطة، فقد كنت من القراء المحبين لأحمد بهاء الدين، كذلك كنت أعرف أخاها زياد بهاء الدين عندما كنا نلتقي في لقاءات عابرة في المنزل الأنيق لأستاذة البيانو أولجا يس، الواقع في شارع البستان، حيث كان موعده في الدرس يأتي بعد موعدي. وأحيانا ما كان ينتظرني، حتى أنتهي من المقطوعة الأخيرة في التدريب، أثناء الساعة المخصصة لي.

وكم كانت سعادتي عندما عرفت لاحقا بخبر زواج عماد وليلى.

***

النقلة الثانية في تطور صداقتي بعماد أبو غازي جاءت عندما تركت وزارة الثقافة وفكرت في تأسيس دبلوم التنمية الثقافية. أتذكر هذا اليوم في أواخر يناير 2012، عندما فاضت على الأفكار دفعة واحدة، وكنت في منزل أمي، رحمها الله، فجلست على منضدة حجرة الطعام، وكتبت صفحة تحتوي على بعض من تلك الأفكار، وأرسلتها له ولفيصل يونس رحمه الله. وجَدَت فكرتي صدى لديهما، وبدأنا سلسلة من الاجتماعات لتطوير هذه الورقة وتحويلها إلى مشروع برنامج دراسي، قاده د. فيصل داخل أروقة الكلية وفي لجان المجلس الأعلى للجامعات، حتى تحولت الفكرة إلى واقع متحقق. وإن لم يسعف الوقت أستاذي د. فيصل ليرى بنفسه ثمرة جهوده، حيث وافته المنية بعد صراع طويل مع المرض قبل بدأ الدراسة في الدبلوم في 2015.

اشتركنا عماد وأنا في إدارة هذا البرنامج بتوافق في الرؤى منقطع النظير، حيث جمعتنا مبادئ واحدة، كذلك جمعنا إيمان راسخ بأهمية تكوين كوادر ثقافية في معقل دراسة الإنسانيات، كلية الآداب، وشغف مشترك بهذا العمل، ورغبة في إزالة الحواجز، وتفتيت المعوقات، والانفتاح على الواقع الثقافي، وإفادة الطلاب بكل ما نمتلكه من خبرات، وما نستطيع توفيره من خدمات. وكان همنا الأول هو الاتفاق مع أفضل الخبراء في هذا المجال للتدريس لطلاب الدبلوم من العاملين في الحقل الثقافي، المستعدين للتطوع في هذا العمل العام. وأقول تطوع لأنه بالفعل كذلك، فالقائمين بالتدريس من خارج الجامعة يتقاضون أجرا هزيلا جدا وفي أحيانا كثيرة، يُسقطون حقوقهم المالية، حيث إن ما يدفعهم لهذا العمل هو الإيمان بما يقومون به، وحب العلم والطلاب، والرغبة الخالصة في الإفادة ونقل الخبرات.

***

يتفانى عماد أبو غازي في كل ما يقوم به من عمل، هو دائما موجود في التفاصيل وحاضر في الخطوات الهيكلية، منفتح على الاقتراحات، هادئ وبسيط في تعاملاته، رحب وواسع الأفق، لديه حلول للأزمات التي تبدو عويصة، علاقاته الطيبة مع الجميع تفتت المشكلات وتذيب الصراعات. طويل البال ولديه القدرة على التفاهم ومد حبال الصبر للخروج بأفضل النتائج. أحيانا ما أغبطه على هذه المهارات التي أفتقدها، أنا التي أصطدم بسهولة بالحوائط.

هو شخصية نادرة لا شك في ذلك، بعلمه وروحه الطيبة، وقدرته على عبور الأجيال وتخطي الصعاب، وإيمانه المتجدد بالعمل والعطاء، وبالمؤسسة، على الرغم من كل المرارات التي تبثنا إياها. حماسه لا يفتر، وجوده مطمئن، نظرته الثاقبة تخترق الحجب. صداقته والعمل معه مكسب كبير.. اللهم أعطه الصحة والعافية لكي يظل دائما سندا ومصباحا منيرا لمن حوله.

               أستاذ الأدب المقارن والأدب والفنون- بقسم اللغة الفرنسية وآدابها بكلية الآداب – جامعة القاهرة.

اقرأ أيضا:


ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»

ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»

د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا

بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي

د. أنور مغيث: مع «عماد»

د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»

كريم زيدان يكتب: المحب لما يعمل.. المخلص لما يعتقد

وليد غالي يكتب: «النبيل»

عماد أبو غازي يكتب: السينما في دراسات الوثائق والأرشيف

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر