«دوريس أبو سيف» في القاهرة.. عن الفن الضائع والمدينة التي تأكل نفسها
تصوير: أحمد طه
أقيمت هذا الأسبوع ندوة للدكتورة دوريس أبو سيف، أستاذ كرسي الفنون الإسلامية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، التي نظمها موقع «باب مصر» بمبنى القنصلية بالقاهرة، وذلك ضمن ختام فعاليات حملة: «عمارة البلد: هوية لا تستحق الهدم».
تحدثت «أبو سيف» في البداية عن أسباب اتجاهها لدراسة التاريخ والفن الإسلامي بدلًا من الدراسة في باريس كما كانت تنوي. انتقال دوريس إلى ألمانيا وهي في الـ18 من عمرها كان السبب الذي دفعها لذلك. عقب حصولها على شهادة الثانوية العامة، انتقلت لألمانيا رفقة زوجها سنة 1964. تقول:«وجدت في ألمانيا اهتمامًا كبيرًا بالظروف السياسية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط؛ لذلك شعرت أن معلوماتي عن المنطقة التي عشت فيها طفولتي غير مكتملة. كانت معرفتي بها منقوصة لحد بعيد». خلال هذه الفترة قررت دوريس التعرف عن قرب على ثقافة وتاريخ الشرق الأوسط، وكان لزوجها الألماني الراحل جيرهارد بيهرينز الفضل الأكبر في ذلك، إذ درس اللغة العربية خلال إعداده لدراسة الدكتوراه، التي كانت حول الشريعة الإسلامية. لذلك أرادت دوريس التعرف على تاريخ مصر بعد أن لاحظت أن زوجها يعرف عنه أكثر منها، وهو ما دفعها لدراسة التاريخ الإسلامي في جامعة هامبورج بألمانيا.
ليلى إبراهيم
عقب عودتها من ألمانيا تأثرت دوريس بأستاذتها ليلى علي إبراهيم، التي قالت عنها: «ليلى إبراهيم إنسانة استثنائية وغير عادية، فقد علمت الكثير من الطلبة، وتخصصت في الآثار الإسلامية. ورغم أنها لم تكن أستاذة في الآثار الإسلامية، لكن ساعدها على ذلك ثقافتها الغزيرة ومعرفتها بالفنون والآثار الإسلامية، وقد أرادت مشاركة هذه الثقافة معنا. هذه الثقافة التي اكتسبتها من والدها عليّ باشا إبراهيم؛ لذلك أتمنى أن يخرج كتابًا عنها كونها أثرت في جيل كامل من محبي الآثار والتاريخ الإسلامي».
رسالة الدكتوراه
كانت رسالة دوريس الأولى للدكتوراه حول تاريخ الأقباط خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20. تقول: “بعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه، كان من الصعب جدًا العثور على وظيفة في ألمانيا أو حتى في مصر، بسبب خصوصية موضوع الرسالة. حين عدت إلى مصر في سبعينيات القرن الماضي، حاولت البحث عن عمل داخل جامعة القاهرة، ووقتها لم تعترف أصلًا جامعة القاهرة بالدكتواره التي حصلت عليها من هامبورج. وعرضوا عليّ في المقابل تدريس اللغة الألمانية، لكنني رفضت العرض. أردت حينها الالتحاق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بهدف دراسة الفن الإسلامي، وكان الموضوع في بداية الأمر مجرد شغف؛ لذلك بدأت إعداد رسالة ماجستير حول الفن الإسلامي. وتفاجأ الناس بقراري لدراسة الماجيستير كوني حاصلة على درجة الدكتوراه، لكنني أردت الاستفادة من الدراسات المتاحة في الجامعة الأمريكية؛ لهذا غيرت تخصصي من التاريخ إلى الفن الإسلامي».
الفن الضائع
وحول دراستها الأخيرة الخاصة بالملابس في العصر المملوكي واهتمامها بهذه الجزئية قالت: “لم يكن لديَّ اهتمام كبير بالملابس أو النسيج، لكن لفت نظري الموضوع حين قرأت المراجع والحوليات العربية الخاصة بهذه الجزئية، فهذه الحوليات لم تخل أي صفحة داخلها من الحديث عن الملابس، وقد شدني الموضوع؛ لذلك كتبت عنه. وكتابي لم يكن حول الملابس وحدها لأن ملابس العصر المملوكي قليلة جدًا وتكاد لا تذكر. لكن مع تطور المجتمع المملوكي لاحظت أن الاهتمام بالملابس المملوكية كان كبيرًا جدًا؛ لذلك تبحرت فيما كتبه المؤرخين في تلك الفترة، فالملابس كانت هي مرآة للعصر والمجتمع المملوكي”.
وعن أسباب ندرة الملابس المملوكية قالت: «كالعادة إحنا القديم بنرميه. وهذا عكس تعامل الأتراك مع الملابس العثمانية في إسطنبول، فجميع ملابس السلاطين موجودة حتى هذه اللحظة، بل ويتم ترميمها والاهتمام بها ودراستها بشكل كامل، بينما لا نملك أي شيء يخص ملابس العصر المملوكي. (تضحك دوريس) تقريبًا معندناش ولا جلابية واحدة من العصر المملوكي. لكن حاليًا ينوي متحف اللوفر تخصيص معرض عن الفن المملوكي، وقد طلبوا مني كتابة مقال عن الفن الضائع. تلك الفنون التي لم تعد موجودة لدينا الآن بشكل مادي، لكننا نتعرف عليها من خلال صفحات المؤرخين. وهذا الأمر ينطبق على الملابس المملوكية التي أعتبر أنها بمثابة فن ضائع».
مدينة تتآكل
وفيما يخص ندرة المقالات الجيدة التي تنتج عالميًا حول مدينة القاهرة والخاصة بالفترة الفاطمية والمملوكية، ترى دوريس أن الإنتاج التأريخي الخاص بالعمارة في مصر قليل جدًا الآن. تقول: «لم يخرج خلال السنوات الأخيرة شيء جيد في هذا الجانب. لا أعرف سبب ذلك، لكن على المستوى الشخصي، ابتعدت عن مجال العمارة لأنني «اتسددت نفسي» اتسدت نفسي لأنني أتابع اليوم ما يجري داخل مدينة القاهرة، وأشهادها وهي تتآكل، وتضيع معالمها بشكل متسارع. وجميع هذه الأمور دفعتني للتوقف عن الكتابة عن عمارة القاهرة. وأظن أن الجو العام أيضًا لا يشجع عن الكتابة حول هذا الجانب».
ترجمة الأعمال إلى العربية
أما فيما يخص أسباب العزوف عن ترجمة أعمالها إلى اللغة العربية حتى هذه اللحظة، رغم ترجمتها لليابانية والألمانية والصينية، قالت: “هناك محاولات حاليًا لنشر كتابي «الجمال في الثقافة العربية»، لكن المشكلة أن مثل هذه الترجمات تحتاج لمشروع ترجمة كبير نظرًا لعدد الصور الضخم في هذه الكتب، وبالتالي فسعره لن يناسب السوق المصري، وما أتمناه هو ترجمة كتابي «قاهرة المماليك» لكن هذا الكتاب لا يمكن أبدًا ترجمته بدون استخدام الصور الموجودةداخله في النسخة الإنجليزية».
صقلية.. حلقة الوصل
وعن دراستها التي صدرت عام 1998 بعنوان «صقلية.. الحلقة المفقودة في تطور عمارة القاهرة» والتي أعادت تقديمها عام 2018، قالت دوريس إن الصقليين لم يتركوا شيئا تقريبًا من العصر العربي. فقد جرى محو كل شيء تقريبًا، بعكس إسبانيا التي احتفظت بالعمارة الإسلامية الموجودة داخلها. لكن بشكل عام فصقلية حكمها العرب الفاطميين.
وأضافت: “هناك تأثيرات مشتركة بين صقلية والقاهرة، لكن بأي حال من الأحوال لا يمكننا الجزم بمدى هذه التأثيرات وحجمها. لكن ما تحدثت عنه في مقالي حول صقلية هو أنني حاولت إثبات التأثيرات المتبادلة بين أجزاء من عمارة القاهرة الفاطمية وصقلية. وحتى بداية عصر المماليك البحرية. وخلال فترة الحروب الصليبية ورغم وجود حرب بين المسلمين والصليبيين إلا أن هناك تأثيرات ظلت متبادلة بين كلا القوتين. وكان هناك تبادل على كافة المستويات بينهما هذا التبادل نلاحظه في استمرار العلاقات الفنية، والثقافية، والتجارية بين القوتين المتصارعتين”.
تأثيرات متبادلة
وحول مشروعها القادم قالت إنها مهتمة حاليًا بدراسة تطور الرسومات الهندسية خلال العصر البيزنطي وحتى القرن الـ12 الميلادي. تقول: “أريد مناقشة هذا الموضوع من ناحية تاريخية وذلك لمعرفة تطور الرسومات الهندسية وصولًا للطابع الإسلامي الواضح. فالفنون الهندسية الإسلامية جاءتنا من فترة ما قبل الإسلام وهي مستمدة من العصر الروماني والبيزنطي. لذلك أريد تقديم هذا الموضوع خلال الفترة المقبلة”.
التفاعل مع القضايا العالمية
وفي نهاية الندوة، وجهت دوريس نصيحتها للباحثين المهتمين بمدينة القاهرة. وقالت: “أهم شيء الاطلاع على ما يتم إنتاجه في العالم من دراسات، وهذا يجعل من الضروري تعلم الإنجليزية. كذلك يجب أن يعرف هؤلاء الطلبة أن العلم الآن أصبح عالميًا ولا يقتصر فقط على منطقة جغرافية بعينها، ولا يقتصر أبدًا على مصر إذ إنه لا يوجد علم قومي أو مصري. لذلك يجب أن نكون على إطلاع بما يتم إنتاجه على مستوى العالم. وهو أمر لا يقتصر أيضًا على الدراسات التي يتم إنتاجها في أوروبا وأمريكا، بل ما ينتج أيضًا في الصين واليابان وآسيا. إذ إن هناك حاليًا اهتمامًا كبيرًا في اليابان بالدراسات المملوكية.
وتابعت: ومن ناحية عالمية فهناك موضوعات معينة باتت تشغل جميع المؤرخين والمتخصصين، وحتى وإن اختلفت تخصصاتهم الدقيقة والمناطق الجغرافية التي يتعاملون معها. لذلك لابد أن نعطي لأنفسنا فرصة التجاوبمع الأسئلة التي يطرحها العالم.ومن الضروري أيضًا التفاعل مع مثل هذه القضايا العالمية. وهو أمر يتطلب منا جميعًا دراسة اللغات الأجنبية والاطلاع على ما ينتج في الغرب، لأن الاكتفاء بالمصادر المصرية والعربية لم يعد كافيًا.
اقرأ أيضا:
جلسات نقاشية وإعلان الفائزين بمسابقة التصوير في ختام حملة «عمارة البلد»