درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل
تتوزع تجربة درويش الأسيوطي (1946-) على عدة محاور، هي أعماله الشعرية، وأعماله المسرحية، وأعماله في جمع وتدوين ودراسة التراث الشعبي في منطقة وسط الصعيد، وأخيرا أعماله في مجال أدب الطفل، وتتفاوت تلك الأعمال من حيث غزارة الإنتاج، و تأتي تجربته المسرحية في المقدمة، حيث قدم أكثر من خمسين عملا تتوزع علي المسرحية الطويلة والقصيرة.
كل هذه المحاور تكشف عن جهود كبيرة بذلها الرجل، تصل إلى درجة النضال اليومي الشاق، في ظل ظروف غير مواتية على مستويات كثيرة، منها استقراره في صعيد الستينيات والسبعينيات بعوائقه الكثيرة، واضطراره إلى السير وحيدا في طرق غير ممهدة.
هذا النضال الأدبي ارتبط ارتباطا وثيقا، بنضال سياسي، حيث يعد الشاعر من رموز الناصرية، ولاشك أن ميوله السياسية قد تفاعلت مع ميوله الفنية، وأثرت في نظرته للشعر، والفن عموما، ودوره في المجتمع، تلك الميول التي ظهرت مبكرا، حيث بدأ العمل السياسي من خلال منظمة الشباب والتنظيم الطليعي، ثم تولى أمانة الحزب الناصري بمحافظة أسيوط حتى استقال عام 1998.
التجربة الشعرية
قدم درويش الأسيوطي عددا كبيرا من الأعمال الشعرية، التي جعلته من الأسماء البارزة في جيله، كما تتويجها بأكثر من جائزة، ومنها جائزة الدولة التشجيعية في الشعر، ومنحته فرصة للتواجد في أكثر من موقع ثقافي، مثل لجنة الشعر بالمجلس للثقافة.
بدأت مسيرة الأسيوطي سنة 1975، من خلال مجموعة شعرية مشتركة بعنوان “أغنية لسيناء”، ثم توالت أعماله الشعرية، “الحب في الغربة” سنة 1985، “أغنية رمادية” سنة 1987، “من أسفار القلب” سنة 1994، “من فصول الزمن الرديء” سنة 1996، “بدلا من الصمت” سنة 2000، “من أحوال الدرويش العاشق” سنة 2003، “الاعتراف الأخير” سنة 2008، “منازل الهيام” سنة 2010، كما صدر له ديوان بالعامية بعنوان، “دي ريحة الدم ولا ريحة الجنة”، وقد طبعت أعماله الشعرية الكاملة عن هيئة قصور الثقافة سنة 2012.
تعتمد تجربة الأسيوطي بشكل أساسي على أمرين، الأمر الأول، هو الموروث الشفاهي بشكل عام، و الفني بشكل خاص، حيث أخلص الشاعر لتجربة رواد قصيدة التفعيلة، واعتبرها نموذجا مثاليا، وآثر أن يكون امتدادها الطبيعي، من خلال الحفاظ على الوزن والقوافي الحرة، والاهتمام بالقارئ العادي، أو الجمهور العام، ورفض التجريب الشعري المعتمد على التركيبات اللغوية المعقدة، والصور الشعرية المحتشدة بالعوالم الغرائبية وغيرها من السمات الفنية الأخرى التي انتشرت بين أفراد جيله تحت عناوين مختلفة، مثل شعر الحداثة، وقصيدة النثر والتي اعتبرها غربية في جوهرها وتعمل على تقزيم دور الشاعر في المجتمع، وتفصله عن الجمهور.
الأمر الآخر، هو نظرة الشاعر إلى العالم باعتباره مواجهة دائمة بين الذئب والحمل، الذئب الذي يرمز إلى منطق القوة القاهرة بكل تجلياته، والحمل الذي يرمز إلى الضحايا في كل مكان، وفي مقدمتهم الذات الفردية، والجماعة الشعبية، و شعوبنا العربية بشكل عام، في ظل صراعها الظاهر والخفي مع القوى الاستعمارية الكبرى.
وهكذا يتسم شعر الأسيوطي بالجموح على مستوى المضمون، والتحفظ على المستوى التشكيلي، وأعني بجموح المضمون، قدرته على القول الثوري الذي يدين الواقع ورموز العقم بمختلف أشكالها، وعلى النحو الذي يجعل منه شاعرا ثوريا رافضا لكل مظاهر الظلم، لكن هذه الثورية تختفي على المستوى التشكيلي، فالشاعر لا يغامر بثوابته الجمالية، ولا يطاوع جموح الخيال، ويرفض النزوع إلى التجريد، وإن كانت قصائده تمتلئ بالرموز و الصور المجازية، لكنها الصور التي تخضع لشرط البعد عن الغموض، خشية ابتعادها عن الجمهور.
الباحث الرائد
كان درويش الأسيوطي من أوائل أبناء الصعيد المهتمين بتراث منطقة وسط الصعيد، وقد ارتبط ذلك الاهتمام بجهود مضنية في جمع وتدوين وشرح ذلك التراث الشعبي، وهي جهود تستحق الحفاوة الكبيرة، ويكفي أنها تتعلق بقسم من الهوية المصرية في طريقه إلى الموت تحت عجلات العصر الحديث، ويمكننا الوقوف هنا أيضا على رمزية الذئب والحمل، فالتراث الشعبي هو الحمل، والأسيوطي هو الراعي الذي يحاول إنقاذ الحمل من أسنان الحداثة وما بعدها.
لقد أسفرت جهوده البحثية عن عدد كبير من الأبحاث والكتب الشيقة، ومنها: “لعب العيال” سنة 2002، “من أهازيج المهد” سنة 2003، “أشكال العديد في صعيد مصر” سنة 2006، “الحمل والولادة والختان” نشر إليكتروني، “الفرح الشعبي” نشر إليكتروني، “أفراح الصعيد الشعبية” الجزء الأول 2011، والثاني سنة 2012، “طبيخ الصعايدة” سنة 2021، وله أعمال أخرى تحت الطبع، بخلاف كتابته الأخرى المنشورة في عدد من الدوريات المختلفة.
إن كل كتاب من تلك الكتب يستحق وقفة متأنية لا تحتملها تلك المساحة، لكن مجرد استعراضها يكشف عن جهود كبيرة، وهي ككل جهوده، قد تتفق أو تختلف معها، لكنها تكشف عن عاشق من عشاق الوطن وحارس من حراس هويته، وتلك الجهود تستحق الحفاوة والتقدير، ولا يمكن أن يستوعبها إلا من عرف صعوبة جمع وتدوين التراث اللامادي.
الأسيوطي وهوية المسرح المصري
لقد استطاع شاعرنا أن يصنع لنفسه تاريخا مسرحيا كبيرا، وذلك من خلال إنتاجه الغزير، والمرتبط بانشغاله بهوية المسرح المصري، والذي لا ينفصل عن انشغاله بالهوية المصرية والعربية، فالقاسم المشترك في معظم أعماله هو الهم القومي، والقضايا الكبرى.
علاقة الأسيوطي بالمسرح بدأت مبكرا، وتحديدا في الحفلات المدرسية حيث شارك في مشهدين، مشهد المحاكمة من تاجر البندقية، ومشهد يسمى (على ضفاف اليرموك)، وهو مشهد مدرسي مقرر، لعب فيه دور عكرمة بن أبي جهل، واستمرت تلك العلاقة حتي أنه حصل على الجائزة الأولى في التمثيل في مهرجان القاهرة عام 1971 وتم تكريمه مع محمود المليجي… وسعاد حسني، إذ تصادف تكريمهما في نفس الليلة، ولم يقتصر الأمر علي التمثيل فقد خاض أيضا تجربة الإخراج لنص محمود دياب (أهل الكهف 74) باسم (أهل الكهف 84)، والذي تم اعتماده بموجبه مخرجا بالثقافة الجماهيرية.
وانشغال الأسيوطي بالهوية المصرية للمسرح يظهر واضحا في البعد الشعبي، الذي يعد العلامة الأساسية في تجربته، فهو يكتب وفي حسبانه تلك الأساليب التي اتبعها المسرح الشعبي مثل اختزال المشهد المسرحي، وعدم التعويل الكبير علي الديكور، والاعتماد على الإكسسوارات البسيطة، وكذلك الاعتماد علي التشخيص بدلا من الأداء الاندماجي وغيرها من ملامح المسرح الشعبي.
ويرتبط البعد الشعبي في مسرح درويش بمرحلة النضج، التي جسدتها مسرحية (عرس كليب) والتي حظيت باهتمام كبير، فقدمت مرات عديدة، من أبرزها تلك التي قدمها حسن الوزير في افتتاح مسرح حسن فتحي بالأقصر عام 1986، والتي قدمها مسرح الشباب بالقاهرة عام 1998 باسم “قولوا لابوها” من إخراج إيمان الصيرفي، والتحم فيها الشكل الشعبي مع المضمون دون الوقوف علي مجرد استدعاء السيرة الشعبية.
اقرأ أيضا
فؤاد حجاج: صرخة الصباح والمساء
تعليق واحد