«دار الكتب».. سابقا والآن

مثلت دار الكتب، منذ تأسيسها مرورًا بعقود عديدة، منارة حضارية أثرت الحياة الفكرية والثقافية في مصر؛ وليست محض خزانة لنفائس الكتب والمحفوظات آنذاك. أسهمت قامات شامخة من المفكرين والأدباء بأدوار فذة نحو تشييد نهضة فكرية نابضة في كافة أرجاء المحيط العربي والأوربي في آن واحد.

***

وفي عصر الخمسينات، شهدت الدار نماذج أخرى مجهولة، خاضت مهمة استكمال مسيرة هذا الزخم نحو انبعاث آخر. برهنت على ذلك رسائل محمد الأمير “أمين مكتبة” بدار الكتب الملكية بباب الخلق. وعمل أيضا في آونة أخرى أمين مكتبة الخرطوم بمكتب الخبير الاقتصادي لمصر بالخرطوم. مثلت تلك الرسائل “دفتر أحوال”. أبرزت طبيعة الأجزاء الثقافية في مصر والسودان آنذاك، مع صحبته فؤاد طه، عبدالعزيز عبدالحق، المفتش بالإدارة العامة للتعليم المصري بالخرطوم وآخرين.

ففي رسالة عبدالعزيز عبدالحق إلى محمد الأمير بالقاهرة، يفصح عن رغبته في إعادة طبع بقية كتاب بوركهارت على الآلة الكاتبة “التي يشتغل عليها فؤاد” عقب طباعته الرديئة على الآلة الإيطالية. “على أنني لم أفاتحه في الأجر، ولكن سمعت منكم أنه يرضى بسعر متهاود وليس كالسعر الجاريفي للقاهرة”. مؤرخا في 26/9/1951. ويكتب في عام 1952، صاحبه محمد حسن الذي يقطن بالسيدة زينب، خطابا مفاده أن إلغاء الاعتماد بدار الكتب بالخرطوم جرى بناءً على السياسة التي تسلكها الحكومة في الاقتصاد في النفقات الجديدة. مثلما ألغيت العديد من الاعتمادات اللازمة للوزارات، ولا أعتقد أن أي مسعى سيكون نصيبه النجاح.

وفي 21/5/1953، يحرر فؤاد طه خطابا إلى محمد الأمير بالقاهرة يصف فيه الأوضاع في الخرطوم، مؤكدا حضور القائمقام عبدالفتاح حسن. حيث تم تسليم قاعة العرض لبنك مصر، وأمر بنقل إدارة الشؤون العامة للجيش بالمكتبة “يعنى وضع مكتبين لبعض حضرات الضباط بقاعة المطالعة، وطبعا لم أملك الاعتراض على هذا الوضع. وقد أصبحت المطالعة بصراحة حاجة مضحكة: ترابيزة عليها نشرات الجيش، وترابيزة عليها الآلة الكاتبة، يعني الدنيا زحمة قوى، ولم يبق للمستعيرين سوى ترابيزتين”.

***

الأسعار ارتفعت ارتفاعاً كبيرا، خصوصا بعد أن رفعت حكومة الجمارك على الأقمشة بأنواعها والصابون والأحذية والسجائر.

ويخبره في رسالة أخرى مؤرخة في 6/6/1953 يطلعه على أن المكتبة لم يعتمد لها ميزانية حتى الآن. وأن القائمقام عبدالفتاح حسن اجتمع ببعض الشخصيات للبحث في موضوع المكتبة، وكان ذلك بالنادي المصري. انتهى البحث إلى الموافقة بأن تنقل المكتبة من مبنى الخبير الاقتصادي إلى منزل بجوار النادي. وأن يتولى الإشراف عليها عبدالعزيز عبدالحق، وسوف يكتب بهذا لمجلس الوزراء. كما تم عمل استعارة خارجية بالمكتبة. وقد قمت فورا بعمل نشرة للجرائد، وأذيع النبأ من أم درمان.

وفي رسالة مؤرخة 30/6/1953، أبرق فؤاد طه إلى محمد الأمير يخبره فيها بأنه قد كتب مذكرة جديدة، مرفقة بتقرير وافٍ إلى إدارة الشؤون العامة بمصر. فضلا عن ذلك، فإن جمهور المكتبة يلح في أمر فتح المكتبة بعد الظهر. وقد أذعت حديثا من أم درمان عنوان: “المكتبة الشعبية: رسالتها وأهدافها”، ونشر بمجلة الإذاعة أيضا. وقد أرسلت لك نسخة من العدد الذي نشر به حديثي السابق. ولكن “لن أستطيع أن أرسل العدد الأخير نظراً لانقطاع المواصلات بين السودان ومصر كالمعتاد في مثل هذا الوقت من كل سنة”. مستطردا حديثه عن الميزانية “أعتقد أن الحكومة سوف تقر ميزانية المكتبة”.

“وأن من يلمون بالموضوع في مجلس الوزراء، مثل الصاغ صلاح سالم، وزير المعارف، ووزير الأوقاف، والأستاذ فتحي رضوان. صاروا الآن يلمسون ضرورة بقاء هذه المكتبة”.

***

وفي ظلال تلك الأطياف الأخاذة، يبعث قارئ مأخوذ بالكتب ومفتون بدار الكتب رسالة إلى محمد الأمير. مشمولة بتساؤلات جادة وعميقة عبرت عن الهموم الحقيقية للقارئ. وكشفت الردود عن وعي حقيقي ببطون الكتب والكتابة آنذاك. وتلك نماذج مضيئة من حقول المعرفة الرحبة. أفادت بأن عدد المجلدات المخطوطة بالدار في جميع اللغات الشرقية مائة ألف مخطوط تقريبا. وأن أول مكتبة تحوي مخطوطات إسلامية عربية وشرقية هي دار الكتب المصرية، ولا يضارعها سوى مكتبة إسطنبول.

وأقدم مخطوط هو “الجامع في الحديث” لابن دهب، مكتوب على البردي أوائل القرن الثالث الهجري. ورسالة الإمام الشافعي بخط تلميذه سنة 265هـ، وأقدم وثيقة باللغة العربية هي ورقة بردية مكتوبة سنة 87هـ. وكذا مصحف كبير مستحضر من جامع عمرو بن العاص بدون تاريخ. ويوجد مصحف بخط الحسن البصري مؤرخ في العام 77هـ، وفي هذا شك. وحول المخطوط الفارسي (بستان سعدى)، فهو مخطوط في العام 893هـ. ويحتوي على ست صور من نقش بهزاد وكان موجودا في أواخر القرن الخامس عشر ميلادي وبه 55 ورقة.

وبخصوص المصحف الذي كتب في ستين يوما وبقلم واحد والموجود في الفترينة التي تواجه باب المعرض العام. فهو مصحف السلطان برقوق كتبه عبد الرحمن الصائغ سنة 801هـ بحجم كبير جدا. أما مخطوطة “كليلة ودمنة” فلا توجد بالدار. ومخطوطة “كتاب مغازي النبيل الواقدي” توجد نسخة مصورة وتاريخها 744هـ. ولا توجد مخطوطة “كتاب الإنسان” للسمعاني بالدار.

كل ذلك، جرى في أزمنة توهجت بالعراقة، والآن نصرخ في نفق معتم دون صدى، ونحرث في خراب أخير دون جدوى.

اقرأ أيضا:

غواني.. قنواتي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر