خيري دومة يكتب: صديق يطمئن إليه قلبك وعقلك

ينتمي عماد أبو غازي إلى مدينة القاهرة، وقد جاء من نسل أسرة عريقة في الثقافة المصرية الحديثة، بينما جئت أنا من الريف البعيد في الشمال لأسرة من بسطاء الفلاحين والعمال. ينتمي عماد أبو غازي إلى مجال التاريخ والتوثيق، بينما جئت أنا من منطقة الأدب والنقد الخياليين؛ فكيف التقينا وصرنا أصدقاء.
1980 كانت أول مرة أسمع فيها اسم عماد أبو غازي من أستاذي عبد المحسن طه بدر، الذي كان يحب الخروج من سياق محاضراته عن الروائي والأرض ليحدثنا أحيانًا عن ناس يحبهم وأغنيات يغنيها لنا، وكان عماد أبو غازي ضمن من تحدث عنهم بحب وإعجاب كبيرين.
لم ألتق بعماد لقاء مباشرًا إلا عام 1989، زميلين من الشباب الطالعين في كلية الآداب ضمن مجموعة كبيرة جمعها أساتذة كبار من أمثال عبد المحسن بدر وجابر عصفور ليشاركوا في التنظيم لمؤتمرين دوليين كبيرين جدا، أحدهما عن طه حسين والآخر عن نجيب محفوظ. في سياق هذين المؤتمرين قامت صداقات كثيرة، منها صداقتي لعماد التي لم تنقطع يومًا.
***
مضت بنا الأيام، ودارت الأرض دورتها، عملت أنا في اليابان البعيدة، وعمل عماد في المجلس الأعلى للثقافة. بمجرد عودتي تجدد اللقاء واستمر حول مؤتمرات لا تكاد تتوقف في المجلس. كان مكتبه هناك مكانًا ودودًا تشعر فيه بالألفة وبأنك في بيتك. كنت بالطبع أتابع عمله ويتابع عملي، وشأن أي صديقين نتفق أحيانًا ونختلف أحيانًا، لكن احترام كل واحد منا للآخر لم يتغير يومًا، على المستوين العلمي والإنساني.
ينتقل عماد من مكان إلى مكان في وزارة الثقافة وخارجها، ويظل كما هو، لا شيء في سلوكه الموضوعي الجميل يتغير. ولأن عماد ابن التاريخ والوثائق، ولأنه ابن ناس، وبرغم سلوكه المهذب الراقي مع الجميع، فإنه لم يتردد يومًا في أن يقول رأيه في الأشخاص وفي المواقف بوضوح كامل، ولكن بألطف طريقة ممكنة. هذه التوليفة النادرة بين اللطف الكامل والموضوعية الكاملةعلى طول الطريق، هي ما يميز شخص عماد أبو غازي وعلمه.

***
عام 2005 كنت ضمن اللجنة المنظمة لمؤتمر عن “الرواية والتاريخ”، وطلب مني أستاذي جابر عصفور أن أكتب تقديمًا لطبعة خاصة بالمؤتمر من رواية لأحد الروائيين الكبار. كتبت مقدمة تكشف عن حب للرواية وحماس لعالمها والطريقة التي بنيت بها، فاجأني عماد بعدها، بعد أن قرأ الرواية والمقدمة، وقال لي: “صاحبك اللي انت متحمس ليه ده عنصري، انت مش ملاحظ الطريقة اللي صور بيها اليهودي في الرواية؟!”. عماد الذي أعرفه جيدًا كان ضمن “أسرة الأرض” في الكلية، ومن المتحمسين لفلسطين وأهلها وحقوقهم.
لكنه احتفظ دائمًا بقدرته على أن يظل إنسانًا وعالمًا موضوعيًّا، يكتب ويتكلم بدقة وموضعية، ويحتفظ بالمسافة الآمنة مع الموضوعات التي يتناولها، حتى لو كانت فلسطين أو ثورة 19 أو حتى خاله الفنان محمود مختار، ويصيبه القلق من الحماس العاطفي الذي تنضح به أحيانًا كتابات نقاد الأدب.
لم يستطع أستاذ ممن عملوا في وزارة الثقافة على مدار الثلاثين عامًا الماضية أن يحتفظ بهذا القدر من التوازن الدقيق بين نقائض لا تنتهي على مستويات مختلفة، مثلما احتفظ عماد أبو غازي بهدوئه وإنسانيته وموضوعيته وسط أمواج التغيير التي اكتسحت حياتنا، ربما لأنه كان يملك على الدوام رؤيته الأصيلة للأشياء والأشخاص والقضايا، فلم يردد كلام الآخرين كما فعل غيره، ولم يتبن مواقف غيره رغم لطفه وأدبه اللذين يعرفهما الجميع.
كان أستاذي عبد المنعم تليمة يقول حين بلغ الستين: “لقد بدأتُ الستين الثانية”.
يا عماد يا صديقي، كل سنة وأنت طيب، لقد بدأتَ السبعين الثانية، وستكون – كما كنت دائمًا – الأجمل والأنبل والأقرب إلى قلوبنا وعقولنا.