“خرج والمفروض يَعُد”: عن ذاكرة المصريين العالقة في دول الخليج
“كيف للمرء أن يعيش في بلد سنوات طفولته، يخلق ذكريات في كل شبر بها تطارده طيلة حياته، يتعلق بأصدقاء وأماكن، ثم يكتشف أنه ضيف ذو إقامة مؤقتة مهما طالت المدة”. هذا السؤال الذي لم يستطع جيل الثمانينات والتسعينات إيجاد إجابة له، استطاعوا التعبير عنه عبر عرض ذكرياتهم في دول الخليج في معرض يحمل عنوان “خرج والمفروض يعُد”.
ذاكرة المصريين المفقودة
يستمر المعرض حتى 31 أكتوبر، في مركز الصورة المعاصرة، ولا يتضمن لوحات تشكيلية أو تماثيل منحوتة، لكنه للمرة الأولى يعبر عن ذاكرة المصريين المفقودة. لأنه يقدم ذكريات جيل الثمانينات والتسعينات عن حياتهم في دول الخليج.
“صورة، لعبة قديمة، خطاب منسي، مقاطع فيديو وأخرى صوتية”. يعد “خرج والمفروض يعُد” هو مشروع بحثي تشاركي يطرح بشكل إبداعي العديد من التساؤلات حول هجرة المصريين إلى الخليج، والتي لا تزال غير مدروسة أو معروضة بشكل كافٍ إلى الآن.
يضم المعرض تركيبًا من الأعمال الفنية ذات الوسائط المختلطة، والتي تتفاعل مع جوانب مختلفة من هذه التجربة. بالإضافة إلى برنامج ديناميكي يهدف إلى فتح المجال لإجراء مناقشات أكبر مع الجمهور. بالإضافة إلى مطبوعة تشاركية يساهم محتواها الفكري والإبداعي في الأدبيات المتعلقة بهجرة المصريين للخليج.
أنثروبولوجي بصري
يهدف المشروع إلى تقديم إنتاج معرفي أنثروبولوجي بصري حول تجربة هجرة مؤقتة. من خلال مخرجاته الثلاثة؛ معرض وبرنامج الفعاليات المصاحبة ومطبوعة تشاركية.
تقول فرح حلابة، منظم المعرض وصاحبة ومؤسسة “انثروبولوجي بالعربي” القائمة على تنظيم والمعرض وإنتاج المشروع: “هذا المشروع يجسد تفاعلا مع العديد من الموضوعات التي مر بها المهاجرين للدول العربية، كالطموح، والطبقة الاجتماعية، والأبوة، وديناميكيات الأسرة، والذاكرة، والانتماء والموت. وتم تناولها من خلال الروايات الجماعية والشخصية”.
وتستكمل: “الأعمال الفنية المتنوعة هي نتاج ورشة عمل من تنظيم أنثروبوبولجي بالعربي – تعمقنا فيها و ناقشنا تجربة الهجرة”. وتروي الدافع لإقامة المعرض، وذكرياتها مع تجربة شخصية للهجرة لإحدى دول الخليج.
حياة مؤقتة!
وتقول لـ”باب مصر”: “أعتقد أن هذا المشروع بدأ من شعوري بالتعاطف مع أبي والعجز تجاهه، فرقتنا الغربة. مازال أبي في الخليج بينما أنا في مصر. لا يمتلك رفاهية العودة إلى مصر بسبب الالتزامات المادية، وبالرغم من ذلك يشعر أبي دائما أن حياته حُكم عليها بالنهاية على كل حال.. حياته حياة مؤقتة”.
لا يتعلق هذا المشروع بالسنوات الثمانية عشر التي قضتها فرح في “الرياض”، ببساطة. لأنها نسيت معظم ذكرياتها عن هذه السنوات، “تماما مثلما حدث مع العديد من الفنانين المشاركين في المعرض” كما قالت.
لا تنكر تذكرها لأحداث وذكريات لم تخنها فيها الذاكرة وتشاركها أيضا في المعرض. لكن الأمر الذي يلازمها هو “روتين بابا ووحدته”. وكان هذا السبب في عدم قدرتها على رؤية تجربتها وتجربة عائلتها في سياق أكثر اتساعا لهجرة تركت بصمتها على حياة كثير من المصريين وملامحهم.
العودة في رداء أبيض
خلال آخر زيارة لها في المملكة العربية السعودية منذ سنوات، شاركها والدها وصيته. وقال لها: “أنا عاوز أتدفن في مصر”. استوقفتها هذه الجملة وظلت تفكر فيها وفي خططه مع والدتها حين هاجر مصر وسافرا في التسعينات. متسائلة: “كيف تحولت هذه الخطط من: “هنسافر السعودية كام سنة عشان نأمن مستقبل أحسن وبعدين نرجع” إلى “أنا مش عايز أندفن هنا”.
وتوضح لـ”باب مصر” أن هذه الجملة استوقفتها وظلت تفكر فيها كثيرا، وتقييم هذه التجربة بوصفها الدائم أنها “مؤقتة”. وتقول: “يُشكل إحساسنا بهذه التجربة وتذكرنا دائما أننا هنا على سبيل الإعارة، لم نتفق أن نموت أو نُدفَن هنا.. كان اتفاقنا على العودة، ووُعِدنا بالرجوع مهما تأخر.. حتى وإن تأخر 30 عاما سنعود مجددا على أرجلنا أو جثث”.
تصف حلم العودة أنه ما يجعل تجربة الهجرة تستحق تحقيقها. وتستكمل: “حين نهاجر إلى دول الخليج أو يهاجر فرد منا، يختل إحساسنا بالزمن، لا نصل للمستقبل، ولا يتوقف الحاضر، ولا يعد هناك مكانا للماضي. سافر أهالينا لتأمين مستقبلنا الغامض الذين لن يصلوا له.. حياتهم حياة مؤجلة.. مثل حياة أبي”.
كلمات فرح تتسع لتشمل تجارب كل المشاركين في المعرض. أو أصحاب التجارب المشابهة رغم عدم المشاركة في المعرض. وتضيف: “نحن وكل من يسافر إلى الخليج، لنا قصص فريدة لها وزنها وتأثيرها الذي لا يلتفت إليه الكثير. لهذا قررت جرد التجارب الشخصية لأسئلة أنثروبولوجية، وأفكَّر فيها بشكل جماعي”.
زمانية الوجود
“الخليج ليس فقط خليج ولكنه فجوة”. كان هذا رأي فريدة يوسف، منسقة المعرض، وتتابع لـ”باب مصر”: خرج والمفروض يعُد معرض عن هجرة المصريين للخليج. وتحديدًا عن زمانية الوجود هناك وليس فقط المعيشة.
تتطرق بالتجربة بكونها «مؤقتة»، وعن الخلل الذي يجعل الحياة في أثناء تلك التجربة تبدو مُعَلّقة ومضطربة اضطرابًا زمانيًا يخلق تفكيكًا مكانيًا. الأمر الذي يجعل الوجود في حد ذاته ذو صفة مُعارة، على حد وصفها.
يضم المعرض تركيبًا من الأعمال الفنية لخمسة عشر فنان يتساءلوا عن كينونة الحياة في الخليج. بالنسبة للكثيرين منهم، تلعب الذاكرة دورا كبيرا في طرحهم لأعمالهم.
تجربة الإعارة
وتضيف فريدة لـ”باب مصر”: من خلال استخدامهم لوسائط مختلطة، تضيف أعمالهم الفنية تعقيدًا إلى تلك الذكريات. في كثير من الأحيان، ينبش الفنانون ما مزقته الزمانية أو الوجود المؤقت. وهنا تظهر اختياراتهم في الشكل شكوكا حول الحنين إلى الماضي، وحتما، نجد أنفسنا نتأمل في تجربة الإعارة.
يبدأ المعرض بفهم الطفل لزمانيته أثناء تجربة الهجرة وينتهي بالعودة إلى مصر. ومع كل غرفة من غرف المعرض، ينمو فهمهم لوجودهم في الخليج كمهاجرين مؤقتين. ويهدف هذا التصميم إلى مواءمة تلك التجربة الشخصية مع مسار المتفرج عبر المعرض. تشاركا في زمانيتهم الخاصة، ليصبح وجود المتفرج في تلك المساحة أيضا مُعار، “خرجنا والمفروض أن نعود”.
خرج والمفروض يعُد
بدأ المشروع بورشة تشاركية على مدار ثلاثة شهور في بداية هذا العام. وتقول فرح: “أردنا أولًا أن نواجه بتساؤلاتنا الاعتيادية تجربة الهجرة، بمناقشة حول التطلُّعات والأحلام والهجرة. ولكي نتأمَّل هذه المحاور من منظور أنثروبولوجي تفاعلنا مع كتابات صامولي شيلكا عن أحلام المهاجرين”.
وتستكمل لـ”باب مصر”: “التطلعات والأحلام كانت هي المدخل الذي تناولنا من خلاله مفهوم الزمنية. وباعتبار هذه الهجرة مؤقتة بطبيعتها. فقد تحدثنا عنها كتجربة زمنية أكثر من كونها تجربة مكانية. وفي محاولتنا لفهم النسيج الزمني لهذه الهجرة ناقشنا باستفاضة الآمال والتعليم وثقافة الاستهلاك والحراك الطبقي”.
ثم أتى “دور الأب وديناميكيات العائلة”، فكَّروا في التحوّل الذي يُحدِثُهُ الخليج في نموذج الأب و الأبوة، أخذًا في الاعتبار السياق والمؤقتية. وبسبب غياب المصادر التي تدرس هذا الأمر نظرنا إلى الأفلام والمسلسلات التي تناولت الهجرة إلى الخليج. ربطت هذه النماذج الدرامية كلها -بلا استثناء- بين الخلل الأسري وبين هجرة أحد أفراد الأسرة إلى الخليج.
الصالون المذهَّب في الخليج
كان النظر إلى “المنازل” أو “البيوت” طريقةً أخرى لفهم ديناميكيات هذه الهجرة المؤقتة، ومحاولة إيجاد أنماط داخل أثاث المنازل في الخليج بالمقارنة مع عملية تأثيث البيوت في مصر. بدأ الأمر بتساؤل “أين الصالون المذهَّب في الخليج؟”.
الصالون المذهَّب هو قطعة الأثاث الثمينة المبالغ في زخرفتها، أو ما يمكن تسميتها الواجهة الاجتماعية للمنزل. كانت تلك هي القطعة المركزية في بيوتنا في مصر. تمتعت منازل المصريين في الخليج بقطع عملية من الأثاث، أقلّ استعراضية.
قادتهم هذه الخطوة إلى فهم مختلف لـ”الانتماء”. وتقول: “قرَّرْنا التوسُّع في ذلك البحث بدعوة جمهور أوسع “أونلاين” ليرسلوا لنا صورًا لبيوتهم في الخليج، كما عبَّر ذلك عن مشاعرهم المتباينة بين مفهومَيْ “المسكن” و”المنزل”، بين المؤقت والدائم”.
تورتة عيد ميلاد القذافي
شارك في المعرض أكثر من 20 شخص، من بينهم المخرجة ناهد نصر، والتي شاركت بمشروع “انستوليشن” يحمل عنوان “تورتة عيد ميلاد القذافي”، عن الفترة التي عاشتها في ليبيا خلال طفولتها.
وتقول لـ”باب مصر”: “يتكون المشروع من 5 مقاطع فيديو منفصلة لكن متصلة، يتم عرضها على شاشة داخل المعرض، بينما يحيط به العديد من العناصر في إطار أسود على الأرض، وأعبر من خلال المشروع عن فترة من حياتي خلال الثمانينات في ليبيا”.
دائما ما تتذكر ارتباط مواقفها الحياتية في ليبيا بالتليفزيون “شاشتهم على مصر” كما تصفه، وارتبطت سنوات حياتها بالعديد من القرارات السياسية التي كانت يتم إذاعتها دائما كأنها تربط كل مهاجر ببلده.
ترتبط مقاطع الفيديو الخمس بحياة أسرتها وارتباطها بالأحداث السياسية، بدءا من عام 1979، ويتسم الفيديو الذي يُسمى أحيانا بـ”تركيب”، بأن المشاهد يرى أجزاء حقيقية ملموسة مع الفيديو مثل ألعاب الأطفال والصور الشخصية، وتقيم تجربة مشاركتها قائلة: “بالنسبة لي المشاركة الشخصية في المعرض، والورشة، وضعت الحكايات في سياق مثل العلاقة بين الخاص والعام بشكل منظم”.