خبراء التراث يجيبون| السيدة نفيسة.. تطوير أم تدمير؟
«الأعمال التي نفذت داخل مسجد السيدة نفيسة لا تمت للترميم العلمي بأي صلة».. هذا ما اتفق عليه معظم الأثريين وخبراء الترميم. ردود الأفعال الغاضبة اعتبرت ما حدث تشويهًا للطابع التاريخي للمسجد الممتد لقرون بعيدة. وأعاد إلى الأذهان ما جرى من تطوير لمسجد الحسين عام 2022 فقد اعتبر المهتمون بالتراث داخل مصر وقتها أن ما حدث تشويهًا كاملًا وطالبوا بإعادة النظر في مثل هذه المشروعات التي لا تراعي القيمة التاريخية لهذه المبان التراثية الهامة والتي شكلت جزءًا كبيرًا من هوية المصريين. «باب مصر» يستعرض آراء الخبراء فيما جرى.
هوية المكان
في البداية تحدث المهندس الاستشاري والمرمم نادر علي لـ«باب مصر».. قائلا: “ما يحدث مؤخرًا من عمليات «تطوير» لمساجد آل البيت كان من المفترض أن يكون التعامل داخلها منذ البداية بحساسية شديدة، لأنه من الضروري المحافظة على هوية المكان الذي ارتبط بهوية المصريين طوال تاريخهم. وذلك لأن مساجد آل البيت لها مكانة خاصة عند المصريين. فعادات زيارة الأضرحة والمساجد تعتبر جزءا أصيلا من عادتنا التي تشكلت عبر قرون بعيدة.
فقد ارتبطت ذاكرة المصريين دومًا بجامع السيدة نفيسة، وهو جزء أصيل من ذاكرة المصريين، منذ لحظة إنشائه خلال عصر الخلافة الفاطمية، وصولًا لهذه اللحظة. وقد جرى بداخله الكثير من التدخلات عبر السنوات. لذلك كان لابد من مراعاة العنصر التراثي للمسجد بدلًا من إغفاله وتجاهله، وللأسف الشديد فالقاهرة كمدينة تعاني بصورة كبيرة بسبب عدم وجود جهاز أعلى للتعامل وإدارة القاهرة التاريخية. وهي مسؤوليات حتى الآن غير محددة وموزعة بين العديد من الإدارات. فجزء كبير من المشكلة سببه غياب هذا الجهاز الذي من المفترض أنه يقوم بدور تنسيقي بين الجهات المختلفة المشرفة على إدارة القاهرة”.
غياب التنسيق
ويضيف: غياب التنسيق أدى في النهاية إلى أن كل جهة باتت تعمل وفق منطقها. فهم يعملون داخل جزر منعزلة وفي كثير من الأحيان يتم إغفال قيمة التراث داخل المواقع التراثية، رغم أنه العنصر الأهم. لذلك كان من الضروري عند التعامل مع مسجد السيدة نفيسة إدارة الملف بشكل مختلف تمامًا عن الطريقة التي خرج بها المشروع في نهاية الأمر. إذ كان لابد من الرجوع للمتخصصين في الحفاظ على التراث، والآثار، لأن الموضوع يحتاج لإدارة مختلفة كما ذكرت. فهناك مواثيق دولية تحكم العملية بشكل كامل، وهذا هو الفيصل في الأمر.
فعندما نرمم مبنى أثري أو تراثي، فنحن هنا نلتزم بالمواثيق،حتى قبل بدء عملية التطوير. وهذا الأمر ليس رفاهية بالمناسبة، لكن ما أتصوره أن ما جرى داخل مسجد السيدة نفيسة كان سببه الرغبة في تنفيذ المشروع بأكبر قدر من السرعة. وهذا هو السبب الرئيسي للمشكلة؛ لذلك كان لابد عدم الخلط بين هوية ممول المشروع، وبين هوية المبنى. لأن عملية الخلط هذه أدت لظهور مبنى مستحدث غير مألوف بالنسبة للمصريين.
تجاهل الطبقات التاريخية
يستطرد عليّ: ما حدث -من وجهة نظري- به نسبة كبيرة من التجاوز لأن المبنى يحكي تاريخه من خلال الإضافات، والترميمات، التي حدثت بداخله طوال القرون الماضية. وهو عبارة عن طبقات تاريخية بعضها فوق بعض؛ وكان من المهم الحفاظ على هذه الطبقات التاريخية، بدلًا من إزالتها. والاحتفاظ فقط بالطبقة الجديدة التي أضيفت عند عملية «التطوير». فقد جرى ترميم المسجد خلال عصر السادات، ورمم في وقت سابق من جانب لجنة حفظ الآثار العربية، والتي حافظت على الترميمات التي حدثت داخل الضريح خلال العصر المملوكي.
وعندما تم ترميمه في عصر السادات تمت المحافظة على الترميمات السابقة التي حدثت بداخله من قبل. لذلك فالمبنى عن طريق هذا الكم التراكمي، يحكي تاريخه، وقصة ارتباط المجتمع المصري به، فالعناصر المعمارية الموجودة داخله تحكي تاريخ المسجد. وهي بالمناسبة لم تنشأ عن طريق الصدفة، فالأضرحة في الحضارة الإسلامية لها دلالات، ومعاني يجب المحافظة عليها بشكل كامل. فالآيات القرآنية على سبيل المثال الموجودة داخل المساجد تم اختيارها بعناية شديدة، ولم يكن الأمر يحدث صدفة. لذلك أنا حزين ككل المتخصصين، بسبب الطريقة التي نُفذ بها المشروع.
تجديد وليس ترميم!
يختتم عليّ حديثه ويقول: “للأسف الأعمال التي جرت بالمسجد تغافلت عدة مبادئ هامة في مجال الحفاظ والترميم. فنحن في حاجة لوقفة حقيقية للرجوع للمبادئ الرئيسية في عمليات الحفاظ والترميم. ومنها عمليات التوثيق، وصولاً لبناء الخطة، وحتى التنفيذ، لأن الأعمال التي نفذت داخل مسجد السيدة نفيسة -من وجهة نظري- لا تمت للترميم بأي صلة، وهو أقرب للتجديد. واعتقد أن أغلب المتخصصين سيتفقون معي في هذا الرأي”.
أعمال فنية ركيكة
اتفق المهندس الاستشاري والمرمم طارق المري مع وجهة نظر نادر عليّ، فهو يرى أيضا أنه كان من الضروري الحفاظ على الهوية التاريخية للمسجد واحترام تفاصيله الفنية.
يقول: “ما حدث مؤخرًا في كل من ضريحي الحسين والسيدة نفيسة، ما هو إلا إهدار للقيمة التاريخية لهما بدافع التطوير. فهذا التطوير أزال فنيات وعلامات تاريخية تشهد على تطور البناء على مر الزمن. فقد تم تدمير عناصر أصلية واستبدالها بعناصر أقل ما يقال عنها أنها أعمال فنية «ركيكة» غير ناضجة مقارنة بالأصل التاريخي الذي تم إزالته”.
وتابع: التراث المعماري الإسلامي أصبح في الوقت الحالي «لعبة» في أياد غير متخصصة وغير دارسة لأصول الحفاظ، والترميم والتعامل مع مباني ومناطق تاريخية. في كل دول العالم هناك متخصصون في الحفاظ المعماري والعمراني. ومصر أيضًا تمتلك هؤلاء المتخصصين لكنهم للأسف مهمشون وحلّ محلهم غير المتخصص وغير الدارس. والنتيجة في النهاية أننا نشاهد هذا العبث الذي يحدث لتاريخ مدينة القاهرة.
خلخلة النسيج العمراني
المخطط العمراني عمرو عصام تحدث عن فكرة الفراغات العامة، خصوصًا عند التعامل مع محيط مسجد السيدة نفيسة. إذ شرح الأمر بشكل تفصيلي. وقال: “فكرة الميادين بشكل عام لم تكن متأصلة داخل المدن العربية. لكن الدول العربية ورثت الفكرة من المدن الأوروبية، فهو اختراع أوروبي بدأ خلال عصر النهضة داخل أوروبا. وبالتالي الميادين بشكلها الحالي كفراغات عمرانية داخل المدن القديمة، هي نمط حديث على مدينة قديمة مثل القاهرة، وأيضًا المدن العربية بشكل عام. لكن عندما دخلت الميادين في النسيج العمراني للقاهرة بعد ذلك. كان الهدف منها استحداث فراغات لأهداف وظيفية محددة، لها علاقة بالمرور، والحركة، أو الصحة العامة، أو لأغراض دفاعية، مثل فتح الشوارع، بغرض خلخلة النسيج العمراني لهذه المناطق. وأيضًا كانت لها أهداف جمالية وشكلية، من خلال خلق فراغ، ومتنفس للجميع”.
وظيفة مرورية بحتة
وتابع: للأسف مع الوقت تحولت الميادين لوظيفة مرورية بحتة، وهذا الأمر ينطبق على ميدان السيدة نفيسة. فقد حدث تحول داخل المدن العالمية، خلال النصف قرن الأخير. إذ تحول الدور الوظيفي للميادين بشكل كامل، فبدلًا من استخدامها باعتبارها فراغًا قد يسهل حركة عبور السيارات، فقد تحولت لمكان يمكنه استيعاب الناس، بل ويحقق لهم الألفة بحيث يصبح مكانًا للتفاعل الإنساني، ولدعم التجربة الإنسانية. وبالتالي فدور الميادين الوظيفي تحول بشكل كبير، خصوصًا تلك الميادين الموجودة داخل المدن التاريخية وخصوصًا القاهرة.
تهيئة الفراغ المفتوح
يستطرد: كان من المفترض عند «تطوير» مسجد السيدة نفيسة أن تستوعب عملية التطوير الميدان والذي يمثل فراغًا مهما مرتبطا بالمسجد إلى حد كبير فهو امتداد للمسجد، وغير منعزل عنه. فعندما نقرر التعامل معه لابد أن تكون التدخلات مرتبطة بتهيئة الفراغ المفتوح. بحيث يلعب جزء من الوظيفة الدينية للمسجد، وفي هذه الحالة يستحدث التصميم عناصر تؤكد على هذه الوظيفة، مثل الأرضيات، وغيرها من عناصر الاندسكيب، وهذا الأمر سيتم تنفيذه بطريقة صحيحة. بعكس ما حدث، خصوصًا إذا تم اعتبار أن الفراغ العام جزء من المسجد؛ أي أنه مرتبط به ومكمل للوظيفة الدينية للمسجد.
وهذا المنظور سيحتم على المصمم في هذه الحالة أن يتعامل مع الفراغ باعتباره امتدادًا لمساحة المسجد. وهنا سيتم التعامل مع الموضوع بشكل أشمل، بدلًا من استخدامه كعنصر فقط خاص بحركة مرور السيارات. فالفراغ العام للمسجد كان من المفترض تحويله لمساحة إنسانية يمكن من خلاله احتضان واستيعاب الناس من كافة الخلفيات الثقافية المختلفة. وهذه هي التوجهات المعاصرة للتعامل مع الفراغات العامة في مختلف دول العالم، وخصوصًا داخل المدن التاريخية.
أمر كارثي
يكمل عمرو عصام حديثه: للأسف عندما تعاملوا مع المحيط الخارجي لمسجد السيدة نفيسة، تعاملوا معه باعتباره منفصلًا عن سياقه. وهذه إشكالية كبيرة، كان على المصمم تداركها بشكل أشمل، لأن الهدف الرئيسي هو تعزيز دور الفراغ المفتوح، والتكامل مع الفراغ الداخلي للمسجد. لكن الأمر لم يحدث للأسف الشديد ولم يراع بأي شكل من الأشكال، لأن المصمم في هذه الحالة قام بعملية فصل لكلا الوظيفتين. وهذا الأمر ظهر بشكل واضح من خلال عناصر الاندسكيب التي استخدمت خارج المسجد. فهي لا تؤكد على أي من هذه المفاهيم، بل ثبتت فكرة الفصل بين المحيط الداخلي والخارجي للمسجد. فالفراغات التي نفذت هي فراغات مجتزئه، وغير متسلسلة، ولا يراعى فيها البشر بأي شكل من الأشكال. الشيء الوحيد الذي تمت مراعاته في الموضوع هي حركة السيارات داخل الفراغ، وهذا الأمر كارثي.
ينهى عصام حديثه ويقول: “بطبيعة الحال التجارب الجادة عند التعامل مع الفراغات العامة، والمفتوحة، تضع الإنسان دائمًا في المقدمة. وذلك من خلال استيفاء المتطلبات والاحتياجات الاجتماعية لتعظيم التجربة الإنسانية للمستخدمين، بعيدًا عن التركيز على النواحي الكمية سواء المرورية أو التجميلية الشكلية”.