خالد عزب يكتب: «موسوعة القرافة».. التوثيق قبل الاندثار

في سابقة فريدة من نوعها، صدر في القاهرة موسوعة ستكون مرجعا لا غنى عنه لسنوات. الموسوعة المعنونة (موسوعة القرافة.. التوثيق قبل الاندثار) صدر منها ستة أجزاء، وسيصدر إضافة لها قريبا ثلاثة مجلدات أخرى. والقارئ سيظن أن وزارة الثقافة أو إحدى مؤسساتها أو وزارة الآثار وراء هذا المشروع البحثي العملاق، الذي يوثق جانبا هاما من التراث الوطني، لكن الحقيقة المؤلمة أن الوزارتين لم تحركا ساكنا في ظل هدم كنوز القرافة في مصر.

مؤلفا الموسوعة هما الأستاذ حسني جعفر، وهو من أبرز عشاق التراث في مصر، والأستاذة آية إبراهيم، وهي مرشدة سياحية. وبالتالي، هما من خارج القطاع الأكاديمي مثل كلية الآثار في جامعة القاهرة وكلية الآثار في جامعة عين شمس، وكلتاهما في صمت مطبق إزاء ما يحدث في القرافة.

***

القرافة هي ذلك المكان الممتد من مصر القديمة حتى العباسية. اختار القائمون على الموسوعة التركيز على المنطقة من ميدان القلعة إلى مصر القديمة. وصحب كل مدفن أو حوش أوقبة خريطة تحدد موقعه، وصور دقيقة توثق كل كبيرة وصغيرة. مما تضمه الموسوعة حصر دقيق. فمثلا نرى مدفن قاسم أمين وإلى جواره رزواليوسف، لنرى غيرهم عدد من العائلات المصرية التي شيدت لها أحواشا، وألحق ببعضها استراحات مجهزة لراحة زوار الحوش. وزود بعضها بأسبلة لتوفير المياه لزوار القرافة ولكسب الثواب. على غرار السبيل الملحق بحوش الأمير حسين بك الشماشيرجي.

إن من المثير في الموسوعة هو نجاح المؤلفين في بناء علاقات القرابة بين المدفونين في هذه الأحواش. فالحوش الواحد يضم أجيالا متعاقبة من الأسرة الواحدة، فكانت الكتابات على شواهد القبور تكشف الزواج من سيدة من عائلة أخرى. حتى أصبح من الممكن اكتشاف التداخل العائلي. فعبد الخالق باشا ثروت الذي رأس وزراء مصر وتوفي فجأة في عام 1928 هو ابن إسماعيل عبد الخالق ابن المرحوم عبد الخالق أفندي من أصل أناضولي. ووالدة عبد الخالق ثروت من أصل تركي هي الأخرى. حوش عائلة عبد الخالق يضم العديد من الشواهد. لكننا سنقف لنقرأ الفاتحة لعبد الخالق ثروت ونقرأ المكتوب على شاهد قبره كما يلي:

“هو الحي الباقي

هذا قبر ساكن الجنان

حضرة صاحب

الدولة عبد الخالق

ثروت باشا

ولد سنة 1873 وتوفي

سنة 1928”.

***

لكن أيضا تكشف القرافة عن عدد من القبائل العربية الممتدة من الأردن وفلسطين إلى مصر وليبيا إلى المغرب. ومنهم عائلة نوفل، ومنهم شهاب الدين بن نوفل الذي صار من كبار أعيان الغربية. يضم حوشه مجموعة من التراكيب الرخامية التي تعكس تقدما في فنون الرخام في مصر، وإبداعا في الزخارف يجعل الواقف في المكان مذهولا من جمالها.

تكشف الموسوعة وجود أحواش لعدد من نوابغ مصر منهم حوش الدكتور حسن محمود باشا الذي توفي سنة 1906. والذي عمل في القصر العيني وألف 26 كتابا في حمي الدنج، وفي أمراض الكوليرا والأمراض الجلدية، وكان عميدا للقصر العيني. ومن شهرته في العالم شارك بأبحاثه في مؤتمرات دولية. ونال عضوية العديد من الجمعيات العلمية في العالم، حتى صار عضوا في أكاديمية البرازيل.

إن من المثير أن قرافة القاهرة بشواهد قبورها وروعة الخطوط العربية بها تكشف أن مصر في القرن الـ19 عادت لها الريادة في فن الخط العربي الذي غاب عنها منذ دخول العثمانيين مصر. فنجد شواهد قبور بخطوط مشاهير مثل سيد إبراهيم ويوسف كمال الذي أحيا الخط الكوفي، ومحمد أفندي. وإذا احتفظنا بها، فهي تعطي مصر قصب السبق في تطوير الخط العربي وتؤكد أن هذا البلد بلد مبدع حقا.

إن هذه الموسوعة جهد يجب أن يقدر ويكرم المؤلفين عليه. فقد أنجزا ما عجزت وتخاذلت عنه مؤسسات وعلماء تخلوا عن مسؤولياتهم.

اقرأ أيضا:

«موسوعة القرافة».. لملمة التاريخ من أمام الجرافات

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر