خاص| الراسم الأول لنقود مصر الورقية.. أين اختفى إرث الفنان عباس الشيخ؟
في فيلا فاخرة بحي الهرم – هدمت وحل محلها عمارة حديثة، عاش “عباس الشيخ” الفنان التشكيلي والنحات وأول فنان عربي ومصري يصمم أوراق مالية بملمسها الخشن ورسوماتها المستوحاة من رموز مصرية كانت بدايته ليترك بصمته وتوقيعه في يد كل مصري تداول عملات تحمل توقيعه.
أول عربي يصمم أوراق مالية
“عباس الشيخ” الاسم الأول فيما يتعلق بالأوراق المالية المصرية. أول عربي يصمم أوراق مالية، وأول مصري يُدرِس مادة طباعة “البنكنوت” في مصر وخارجها ويٌنسب إليه الفضل في تخرج جيل من مصممي العملات ونحاتين العملات.
وطوال حياته اعتبر عمله لرسم العملات الورقية وتصميم نظيرتها المعدنية، مهمة وطنية يحاول من خلالها الترويج لمصر وتاريخها العريق. ولكن منذ وفاته قبل 17 عاما، ظل اسم “عباس الشيخ” منسيا. أين اختفى إرثه، أوراقه، أعماله الفنية، ما زالت مسيرته الكاملة التي احتفظ بها في الفيلا الخاصة به في الهرم مفقودة دون أثر.
عن حياته، كان قد ولد عباس فرج الشيخ وشهرته “عباس الشيخ” في 15 يونيو عام 1915، في السودان بسبب ظروف عمل والده، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة. دفعه حبه للفن التشكيلي للالتحاق بكلية الفنون التطبيقية.
وقبل الثورة بسنوات، كان “عباس فرج الشيخ” فنانا بسيطا. تخرج من الكلية مع صديقيه الفنانين كمال الشناوي وعبدالمنعم مدبولي وهم أول مؤسسين لنقابة التطبيقيين. كما أوضح لـ«باب مصر» الكاتب عمرو حافظ، نجل ابن عمة الفنان عباس الشيخ.
عباس الشيخ خليفة الإنجليز
لم يخطر ببال عباس يوما أن يتجه من الرسم والنحت إلى تصميم العملات. إذ اتبعت مصر طوال فترة الاستعمار، خطة إنجليزية لإنتاج النقود. بقيادة أربعة مصممين بريطانيين، مع طباعة أوراق البنكنوت المصرية في إنجلترا.
وكان قد انتبه عبدالناصر لهذه الأزمة خلال ثورة يوليو 1952. ورأى أن التأميم يجب أن يشمل إنتاج النقود المصرية أيضا، للتحرر من قبضة المستعمر الإنجليز.
البحث عن وظيفة مستقرة كانت خطته في ظل وجود الإنجليز في مصر وعدم الاستقرار الوظيفي. وعمل مصمما في مصلحة المساحة واستمر بها لمدة أربع سنوات منذ عام 1939 حتى عام 1943. ثم تمت ترقيته مصمم أول بالهيئة بنفسها، حتى عام 1948.
تدشين مطبعة مصرية
وبعد نجاح الثورة، بدأ عبدالناصر خطته في تحرر هذا القطاع، عبر تدشين مطبعة مصرية لأوراق البنكنوت. ولكن كيف ينجح الأمر وهناك 4 مصممين إنجليز لم يكشفوا أسرار إنتاج أموال ورقية. وفي الوقت نفسه كان المصريون يفتقرون مهمة إنتاج وتصميم أموال مصرية.
بحسب حواره الأخير -قبل وفاته- مع صحيفة “البيان” الإماراتية. أسند عبدالناصر هذه المهمة إلى شركة ألمانية مقرها مدينة “ميونخ”. وتلخص دورها في تدريب المصريين لإنتاج أوراق مالية. خاصة أن سك العملات لم يشكل أزمة لإنتاجها بجهود مصرية بالفعل، في ذلك الوقت.
وقع اختيار عبدالناصر على “عباس فرج الشيخ” النحات الشاب ذو المعرفة والموهبة ورغم أنه فنانا ونحاتا لا يضاهيه مثيل بالمصلحة آنذاك. إلا أن “حافظ” يرجح أن الترشيح جاء أيضا لصلة قرابته بالرئيس الراحل محمد نجيب.
مسيرة الفنان
خبرة الفنان ذو الأصول السودانية، جعلته محط اهتمام البنك المركزي للتطوير. ثم سافر في بعثة مجددا، هذه المرة كانت إلى روما عام 1970. وبعد عودته منها أصبح مديرا فنيا للبنك المركزي لشؤون طباعة أوراق البنكنوت حتى عام 1975. كان هذا عامه الأخير مع أوراق النقود التي عاصرها أكثر من نصف عمره، ببلوغه سن التقاعد.
لم يتوقف عباس الشيخ عند هذا الحد من العطاء. بل قرر نقل كل معرفته وخبراته إلى الجيل القادم. وعمل أستاذا بكلية الفنون التطبيقية لتدريس تصميمات أوراق البنكنوت في جامعة حلوان. وواظب على التدريس حتى وفاته في عام 2005 عن عمر ناهز 90 عاما.
حياته
يستكمل الكاتب عمرو حافظ، الحديث عن حياته قائلا: “لم يتزوج ولم ينجب. وكان يمتلك فيلا في الهرم أصبحت محل خلاف بعد وفاته وسُرق منها الكثير من التحف”.
ويوضح لـ«باب مصر» أنه صمم العديد من العملات من بينها، عملة الجنيه، والعشرة جنيهات، والخمسة جنيهات، و25 قرش، و50 قرش، والتعريفة، والمليم، و10 قروش. بالإضافة إلى تصميماته للعملات المعدنية والتذكاري من الفضة. واستمر في تصميم العملات حتى السبعينات.
اعتاد حافظ، رؤية عباس الشيخ خلال تردده قديما في منزل العائلة. وكان على صلة قرابة باللواء محمد نجيب باعتباره زوج خالته، وكان منزله في الهرم ممتلئا بالتماثيل والرسومات في كل مكان. وبعد اعتزاله تصميم العملة، عمل أستاذا جامعية في كلية فنون تطبيقية شعبة تصميم العملات.
الجنيه الذهب المصري
باستمرار البحث عن أفراد عائلته، تتكشف ألغاز حياته للمرة الأولى. نجل شقيق الفنان عباس الشيخ، زكريا الشيخ، يروي محطات مؤثرة في مسيرة عمه، بعد أزمات مستمرة على الميراث منذ وفاته حتى الآن.
يقول الشيخ لـ «باب مصر»: “رغم ارتباط اسم عباس بتصميم العملات الورقية بعد مغادرة الإنجليز من مصر إلا أن مسيرته تتضمن الكثير من الأعمال الهامة في تاريخ مصر”.
وأضاف الرجل السبعيني خلال إقامته في كندا، أن علاقته كانت وطيدة بعمه الفنان حتى عام 1978 وهو العام الذي غادر فيه مصر. وكان مطلعا على أعماله الفنية وتصميم العملات. ويقول: “ما لا يعرفه الكثير أن عباس الشيخ هو مصمم الجنيه الذهب المصري غير الموجود حاليا”.
قيمة مادية
أين هي هذه العملة أو أوراق تصميمها؟. أجاب زكريا قائلا: “حين ذهبت إلى الفيلا الخاصة به في الهرم قبل وفاته كان لديه لوحة تضم كل العملات التي نفذها في مسيرته والجنيه الذهب لم يكن من بينها”. مرجحا أن عباس الشيخ بنفسه هو الذي أزاله من اللوحة لنظرا لقيمته المادية.
ولكن حال ظهور العملة المسروقة فإنها ستقدر بثروة كبيرة. وأوضح: “حين اختفي الجنيه الذهب الأمريكي إلا عملة واحدة احتفظوا بها كذكرى، حتى ظهر في مخلفات الملك فاروق عملة جنيه ذهب أمريكي بيعت في مزاد عالمي بمبلغ 26 مليون دولار نظرا لقيمته التذكارية”.
يسترجع زكريا موقفا مع عمه عن تصميم الجنيه الذهب المصري. وكان تعليقا على رسمه التصميم على الجبس، وهي المرحلة الأولى. وظهر في التصميم عربة رمسيس الثاني وبها 4 أحصنة والملك يمسك السهم وكأنه يحدد الهدف. وقال له إن السهم يبدو وكأنه يخترق رقبة رمسيس الثاني، وفسر عباس رسمته بأنه عمل يستعين به من الآثار دون تغيير.
تصميمات الشيخ
بالإضافة إلى تصميمه للجنيه الذهب، فإن عباس الشيخ هو مصمم “نوط الشجاعة العسكري المصري”. ويحتفظ زكريا الشيخ بنوط شجاعة من تصميم عمه. فضلا عن تصميمه نوط الاستحقاق وميداليات عيد الجلاء. وصمم أيضا الدروع التذكارية لعدد من المحافظات المصرية. وصمم المجسمات التذكارية للكثير من المناسبة الوطنية.
خياله الخصب لم ينضب يوما، وبحسب سيرته الذاتية، قام بأعمال النحت والرسم وإعداد النماذج المجسمة والديكورات لكثير من المعارض وأسواق الإنتاج لأجنحة موسيقى الجيش وكلية الشرطة وشعار جامعة عين شمس. وقام بتصميم وتنفيذ طوابع البريد وسندات القروض والشهادات والأوسمة والنياشين والميداليات.
أين اختفى إرثه؟
“أين اختفى إرث عباس الشيخ؟ أين أوراقه مقتنياته التي عاش يدونها في أوراقه الخاصة، وتصميماته الأصلية ؟”.
كشف زكريا الشيخ كواليس الزيارة الأولى لمنزل عباس بعد رحيله. ويقول: “كل مقتنياته وأوراقه كانت موجودة في الفيلا، احتفظت ببعضها. لكن الكم الأكبر ظل في المنزل، من بينها تصميمات الطوابع، كل أنواع النحت التي نفذها، ورسوماته، وتصميمات العملات وغيرها من أوراق تضمنت تصميمات وكتابة”.
بالإضافة إلى ذلك، احتفظ عباس الشيخ بجميع تصميماته للعملات والتي كانت تحمل إمضاءه “ع.أ”. وعلى غير العادة كان أول فنان يوقع على العملات بالحروف الأولى من اسمه. ومن بينها كل العملات التي صممها بدءا من التعريفة والمليم والقرش وعشرة قروش، وصولا إلى العشرين جنيه. ويتابع: “كان توقيع الفنان على العملة بحروفه الأولى أمرا غير معتاد”.
الوصايا العشرة
من بين أوراق عباس الهامة المفقودة حتى الآن، شهادة تكريم تثبت مشاركته في فيلم عالمي، وتكمن أهميتها في أنه أول فنان تشكيلي مصري يحصل عليها، وهي تكريم من شركة “بارامونت” للصور وهي الشركة نفسها التي أنتجت فيلم “الوصايا العشر” الأمريكي.
وبحسب مصدر مقرب من الفنان الراحل – رفض ذكر اسمه – فإن عباس الشيخ يعد مصمم مشارك في العديد من الأعمال الفنية التي تم استخدامها لديكور فيلم “الوصايا العشرة” وتم تصويره بين مصر وأمريكا عام 1956.
يتناول الفيلم قصة حياة النبي موسى وتبني أسرة فرعون له. ثم خروج شعب إسرائيل من مصر، وتلقيه الوصايا العشر من الله عند جبل “طور” بسيناء. ورغم فقدان الكثير من المعلومات عن كيفية تصوير هذا الفيلم في مصر، والمصمم المسؤول، إلا أن هذه الشهادة تعد الدليل الوحيد على مشاركة الفنان التشكيلي المصري عباس الشيخ في فيلم «الوصايا العشر».
حقق الفيلم الأمريكي الذي تم تصويره على أرض مصر، نجاحا هائلا حتى أنه تصدر شباك التذاكر الأمريكي بنسبة إيرادات وصلت إلى 185 مليون دولار، وجزءا من هذا النجاح نسبته الشركة إلى المصمم المصري عباس الشيخ، بإهدائه مبلغ مالي وشهادة تكريم ما زالت مفقودة منذ وفاته حتى الآن.
أزمات غامضة!
لم تقتصر مسيرته الفنية على تصميم العملات فقط. إذ صمم عشرات الطوابع المصرية، بالإضافة إلى العديد من التماثيل التي احتفظ بها مشاهير، وكان لقبه “المثال عباس الشيخ”، وكان يهوي الحديث والظهور الإعلامي حتى بدأ في تصميم العملة مع وصوله إلى منصب المدير الفني لمطبعة البنكنوت ليتحول عمله إلى مهمة أخرى سياسية ومنذ ذلك الوقت قرر الانسحاب من المقابلات الإعلامية.
“هل كانت صلة قرابته بالرئيس الراحل محمد نجيب سبب ترشيحه لهذا العمل؟”، أجاب زكريا قائلا: “لا، لم تكن صلة القرابة السبب، وسبب ترشيحه كان كفاءته”.
وكشف عن واقعة حدثت خلال فترة عمله، وقال: “أثناء وجوده في مطبعة البنكنوت وقعت مشكلة وكانت سببا في قرار خروجه معاشا مبكرا ولكنه لجأ إلى معارفه حتى يعود إلى عمله مجددا، ولم يكشف عن تفاصيل المشكلة أو سببها، كان الأمر مبهما لكنه أثر على حياته لفترة طويلة حتى عودته”.
الخوف من المجهول، النرجسية، البخل والغرور أحيانا، كلها صفات لازمت عباس الشيخ جعلت من الصعب أن يتودد إليه شخص دون معرفة مسبقة به، وكانت هذه الصفات سببا في انعزاله عن الناس حتى وفاته عن سن 92 عاما في عام 2005، ويوضح زكريا: “مركزه القوي وأعماله الخيرية على نقيض آخر، لم تجعل أحد يتجرأ في الحديث عنه في غيابه، الجميع كان يحترمه لمنصبه ودعمه المستمر”.
فرج بيه الشيخ و25 ابن!
شائعة البخل ربما لم تكن حقيقية، على حد وصف زكريا. إذ تولى عباس الشيخ مسؤولية الإنفاق على منزلين بالكامل، فقد كان شقيقا لـ25 أخ وأخت منهم أربعة فقط أشقاء، ومنزل العائلة في حدائق الحلمية بالقاهرة تمتلكه أخت عباس غير الشقيقة وتدعى “سنية” وكانت أرملة لرجل مهنته “صائد أفيال” اشترى هذا المنزل في القاهرة قبل وفاته في الأربعينات.
أما الجد “فرج بيه الشيخ” كان قائم مقام وبك رسمي، وحياته في السودان كانت سببا لزواجه من السيدة “زينب” ابنة رئيس قبيلة بالخرطوم وهي والدة عباس وشقيقه والد زكريا، وبنتين، وحين تقاعد عاد من الخرطوم إلى القاهرة ومعه زوجته السودانية.
ويستكمل زكريا: “جدتي كانت “سودانية مشلخة” والشلخ كان تعليم أبناء القبيلة الواحدة بجروح في الوجه، وكل قبيلة تتسم بجروح محددة في الوجه، وهي وسيلة معتادة نظرا لغياب المستندات، وكان وجهها به 3 جروح على كل خد”.
لغز العزوف عن الزواج
عاش عباس الشيخ وحيدا، ومات وحيدا، ورغم العدد الكبير لأصدقائه وأقاربه إلا أنه قرر أن يظل بمفرده دون زواج، الأمر ظل لغزا راوده حتى وفاته، ولكن على حد وصف زكريا الشيخ فإن لغز عدم زواجه ليس نتيجة إصابته بأي نوع من العجز، إذ كان متعدد العلاقات النسائية العابرة.
ولكن مواصفات فتاة أحلامه التي يعيش معها ويراها كل يوما، كانت تعجيزية، دقة النحت جعلته مهووسا بمعايير الجمال القياسية، “كان عاوز ينفخ في التمثال يبقى إنسانة” كما قالت ابنة عمته السيدة نادية، وكان هدفه في الزواج فتاة أقرب في الشبه من سعاد حسني، وهو الأمر الذي لم يستطع تحقيقه حتى وفاته.
اقرأ أيضا
تفاصيل القبض على مستشارين باعا آثار مصرية مسروقة للوفر أبوظبي