خاتمة المحققين: «قطة الصعيد التي غلبت جمل البِحيرة»
لماذا يتعامل الصعيدي بحساسية شديدة مع الشمال، لماذا يحتفظ بمكانة حية لأبنائه حتى لو استقروا في القاهرة، وكيف يحول أي صراع حتى لو كان دينيا إلى صراع جنوب وشمال.
كل هذه الأسئلة وغيرها تثيرها حكاية رائد تحقيق ومراجعة الكتب التراثية، الشاعر والمدرس بالأزهر الشريف، ومدرسة الألسن، الشيخ محمد قطة العدوي المتوفي سنة (1280هـ -1861م). والذي تم اتهامه بإشاعة الفحش بعد مرور قرن ونصف على رحيله.
ولد الشيخ في بني (عدي) مركز منفلوط، وكان والده عالما جليلا، من كبار علماء الأزهر الشريف وقتها. ومازال الناس في منفلوط يتذكرونه ويتفاخرون به حتى الآن، باعتباره واحدا من أعلام قبيلة بني (عدي) رغم إقامته في القاهرة. لكن متى كان الرحيل عن الصعيد يعد انفصالا عن الأهل والقبيلة. تعلم الشيخ محمد قطة في الأزهر حتى نال شهادة العالمية. فأذن له بالتدريس في الأزهر، وكان مالكي المذهب يقبل على درسه كثير من الأزهريين لتمكنه من علمه وغزارة مادته.
***
كان الشيخ محمد ذا شهرة في الفقه والتفسير وعلوم اللغة العربية بشكل عام. وكان مولعا بالأدب العربي، وفنونه، وله أسلوب رصين وفق الجماليات الشائعة في عصره وفي مقدمتها السجع والحرص على الصنعة. كان الشيخ محمد شاعرا، أيضا، إلا أن مطالعة أشعاره لا تكشف عن شاعر من طراز فريد. بل كان مقلدا يعتمد على محفوظاته من الشعر، ولم تكن نصوصه الشعرية على مستوى وعيه الواسع بالأدب العربي. بل كانت خالية من التوهج الشعري واللمسة الإبداعية التي تضعه في منزلة بين الشعراء. كما كانت له عناية بالنحو ومن مؤلفاته المطبوعة: “فتح الجليل بشواهد ابن عقيل”.“1”
في فترة عمله في الأزهر الشريف، كان يدرس لتلاميذه كتاب “حاشية الجمل في التفسير على كتاب الجلالين”. فتعقب الشيخ الجمل فيما كتبه وتتبعه بالنقض والمؤاخذة، فلما نمى الخبر إلى الشيخ الجمل جاء إلى درسه واستمع لما يوجهه من النقد لحاشيته فدارت بينهما مجادلة علمية. حمى وطيسها وكان لقطة الغلب فيها، فابتهج المالكية بانتصار قطة، وعيروا الشافعية بانهزام الشيخ الجمل وأصبحوا يفاخرونهم بقولهم الذي تناقلته الشفاه كالمثل “قطنا غلب جملكم”.“2”
***
العبارة التي تعبر عن الفوز في سجال ديني بين الشافعية والمالكية، تحولت بقدرة قادر إلى سجال قبَلي وصارت “قطة الصعيد غلبت جمل البحيرة”. وهذا التحول من السياق الديني إلى السياق الاجتماعي السياسي يعبر عن أزمة عميقة في الهوية الصعيدية، يتولد عنها شعور بالنقص أمام “البحاروة”. كلمة البحيرة أو البحاروة لا تعني كل سكان الدلتا أو الشمال بشكل عام. بل تعني القاهرة تحديدا باعتبارها مركز السلطة المهيمنة، ومصدر خوف الصعايدة.
ربما ظهر النقص بشكل عام منذ انتقال مقر الحكم من طيبة، وتعتبر بداية حكم المماليك علامة فارقة. لأنهم رأوا في قبائل الصعيد خطرا كبيرا على السلطة، لأن تلك القبائل رفضتهم وتمردت عليهم منذ اليوم الأول، لأن المماليك عبيد في اعتقادهم. ولا يحق لهم التحكم في أسيادهم، الأمر الذي أدى إلى حروب وغارات مستمرة كان الانتصار فيها حليفا للمماليك. الذين قاموا بمذابح كبيرة نجحت في استسلام الصعيد أمام جبروتهم.
لا تتعلق قيمة الشيخ قطة بهذا الانتصار النفسي، لأن سجاله مع الشيخ الجمل مجرد جملة صغيرة في مسيرته المضنية في سبيل الثقافة العربية التي بدأت بتعيينه في كلية الألسن. حيث كان “الساعد الأيمن لرفاعة الطهطاوي بفضل ما مُنِح من قدرة على التدريس بلغة سهلة وعبارة فصيحة”. “3”
***
يظهر مركز ثقله منذ تعيينه رئيسا للمصححين أو المراجعين والمحققين في مطبعة بولاق التي أنشأها محمد علي باشا. وأصدرت أول مطبوعاتها في ديسمبر 1822م، وكان قاموسا باللغتين العربية والإيطالية من وضع الراهب روفائيل. ثم راحت تطبع ترجمات أهم الكتب في العصر، وكذلك أمهات الكتب التراثية.
وتعتبر هذه المطبعة أهم المطابع العربية جميعا وأبعدها أثرا في نشر التراث العربي، والموسوعات الضخمة مثل لسان العرب لابن منظور، وتفسير الطبري، وفتح الباري بشرح حديث البخاري لابن حجر العسقلاني. والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والكتاب لسيبويه، والأم للإمام الشافعي، ومنهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية. والصحاح للجوهري، والقاموس المحيط للفيروز بادي، وشرح الحماسة للتبريزي، وشرح مقامات الحريري، وصبح الأعشى للقلقشندي، ووفيات الأعيان لابن خلكان. وهذه موسوعات يبتعد عنها الناشرون لما تطلبه من نفقات باهظة.“4”
ويبدو أن الهوية القبلية للشيخ محمد قطة دخلت معه المطبعة. لأن مراجعة أسماء طائفة المصححين في المطبعة نجدها تحتوي على اسمه بوصفه رئيسا للمصححين بمرتب عشرة جنيهات. كما تحتوي على معاون له وهو الشيخ محمد حسن العدوي بوظيفة مصحح ثان بمرتب ثلاثة جنيهات، والشيخ أحمد العدوي بوظيفة مساعد مستجد بمرتب قدره جنيهان ونصف.“5”
***
والشيخ قطة لم يكن غريبا في سلوكه، فقد سبقه رفاعة الطهطاوي عندما أختار خمسين طالبا لمدرسة الألسن أغلبهم من الصعيد. وإن ذهب البعض إلى أن أسر التلاميذ كانوا يخشون عليهم من انتقالهم إلى القاهرة. وأن الطهطاوي بنفوذه في الصعيد استطاع إقناع الأهلي بتسليم أولادهم للحكومة لتعليمهم في مدرسة الألسن. فلعل علة كثرة الصعايدة في الدفعة الأولى -كما يقول أحمد أمين- عدم اطمئنان الناس. وبعد الدفعة الأولى اطمأن الناس إلى هذه المدرسة ورأينا التلاميذ من الأقاليم المختلفة، لا فرق بين صعيديهم وبحريهم.“6”
لقد قضى الشيخ قطة معظم حياته وحتى يومه الأخير في تصحيح المخطوطات القيمة، وتنقيتها من الأخطاء وإكمال ما حذف منها وما قدم أو أُخِر فيها. وكانت كتبه المصححة موضع ثقة العلماء لاشتهاره بالتحري في التصحيح والتدقيق في الناحية اللغوية وتوفره على استقامة المعاني. فإذ وجد قلقا في العبارة علق عليها، وبدل ضعف العبارة قوة، وسقم التركيب صحة. حتى يدع الكتاب في حلة بهيجة من الصحة والكمال لا أثر فيها لجهل النساخ وعبث الأيدي.
كان الشيخ قطة يراجع الكتب المترجمة أيضا لأن الباشا لم يكن يحب الكتب المترجمة ترجمة جافة أو حرفية. ومن ثم فقد كان واجب المصحح هو إعادة صياغة الترجمات لتكون في لغة سلسلة ممتعة.
***
كما كان يكتب خواتيم الكتب التي يحققها ويترجم للمؤلف غالبا ويكتب في الخاتمة تقريظا بأسلوب مسجوع على طريقة عصره وشيئا من شعره المتواضع. ومن ذلك عمله في حاشية الصبان التي تولى تصحيحها. فقد كتب في آخرها كلمة قرظ فيها الكتاب فقال: “وبالجملة فهو كتاب لا تحصى فوائده، ولا تحصر عوائده، وذلك غني عن البيان فاض به العيان كما أشرت إلى ذلك بقولي مؤرخا عام الطبع، ملوحا لبعض ما فيه من المزايا والنفع، وإن لم أكن من فرسان هذه الحلبة (الشعر). ولا أَذِنُ معهم مثقال حبة”:
كتاب نفعه جم جزيل وليس كمثله إلا لقليل
فكم حيران صار به هداه فأرشده وبان له السبيل
وكم من علة لما حباها فرات زلاله شفى العليل
وكم أروت موارده عطاشا وكانوا بالأوار لهم غليل
وكم من بحره خرجت لآل وذلك البحر عذب سلسبيل
وكم عرس لخاطبها جلاها وكان عليه يمتنع الوصول“7”
***
وكان آخر ما صححه من الكتب كتاب الكشاف للزمخشري. إذ توفي أثناء تصحيحه فأتمه الشيخ محمد الصباغ في جمادى الآخر سنة 1281 هـ، وجاء في خاتمة الكتاب ما يدل على ذلك. إذ يقول الشيخ الصباغ: “تم تهذيبه وتصحيحه وترصيع جوهره وتنقيحه البعض بمعرفة خاتمة المحققين وسيد المدققين محمد قطة العدوي فسح الله تعالى له في قبره. والبعض الآخر بمعرفة الفقير إلى الله محمد الصباغ أسبغ الله عليه نعمه أتم إسباغ”.“8”
ويعتبر كتاب “ألف ليلة وليلة” من أشهر الكتب التي قام بتحقيقها ومراجعتها. وهي النسخة التي اختارتها هيئة قصور الثقافة لتعيد طبعها في سلسلة الذخائر. وتم ملاحقتها قضائيا بتهمة إثارة الفُحْش، رغم أن محققها واحد من أكبر رجال الأزهر في عصره. وقد مر أكثر من قرن ونصف على طبعها دون أن يتقدم واحد من علماء الأزهر ببلاغ ضدها، الأمر الذي يكشف تراجعنا الثقافي المُحزن، علامة التراجع على المستويات كافة. وترتفع درجة الحزن عندما ندرك أن عدد النسخ التي كانت تُطبع من الكتاب الواحد في مطبعة بولاق في عهد محمد علي باشا ألف نسخة. وبعض الكتب كان يطبع منها ثلاثة أضعاف هذا العدد، وكان تعداد السكان وقتها ما بين 4 و4.5 مليون نسمة. ومازال عدد النسخ المطبوعة من الكتب كما هي تقريبا رغم الزيادة الرهيبة في عدد السكان. وهكذا ظهرت النهضة المصرية في عصر محمد علي وفي أولوياتها التعليم ودعم الكتب في مختلف فروع المعرفة.
هوامش
(1) عبدالمجيد دياب، تحقيق التراث العربي: منهجه وتطوره، دار المعارف، الطبعة الثانية، القاهرة 1993، ص91.
(2) محمد كامل الفقي، الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، الطبعة الثانية 1384 ـ 1965.
(3) أحمد أمين، فيض الخاطر، الجزء الخامس، ص95، مؤسسة هنداوي 2011.
(4) تحقيق التراث العربي، مصدر سابق، ص108.
(5) أبوالفتوح رضوان، تاريخ مطبعة بولاق، تقديم محمد شفيق غربال، المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة 1953م، ص161.
(6) فيض الخاطر، مصدر سابق، ص94.
(7) الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة ص87.
(8) السابق ص88.
اقرأ أيضا:
قوص في «ألف ليلة وليلة».. السلطة والحكاية