حوار| محمد الكحلاوي: على العرب الاهتمام بتمويل البحوث التاريخية حول فلسطين
لم يكن السابع من أكتوبر بداية الحرب على فلسطين، ولكن طوال 75 عاما يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تهويد الأرض الفلسطينية بشكل مستمر، فغيروا أسماء المدن والشوارع القديمة واستبدلوها بأسماء عبرية في محاولة منهم لتأصيل فكرهم الاستعماري على الأراضي الفلسطينية.
الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس اتحاد الآثاريين العرب وأستاذ الآثار الإسلامية، كان واحدا ممن يدافعون دائما عن الأقصى وعن التراث الفلسطيني. حيث رصد طيلة سنوات حياته محاولات إسرائيل لتهويد التراث الفلسطيني.. «باب مصر» أجرى معه الحوار التالي عن جرائم الصهيونية التي لم تتوقف في أرض فلسطين.
كيف تابعت الأحداث الأخيرة داخل غزة والضفة الغربية؟
ما تريده إسرائيل حاليًا هو تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل. فعملية تهويد فلسطين تتم وفقًا لنفس المنهج الذي اتبعه الإسبان للقضاء على الإسلام في الأندلس. فقد أدركوا حينها أنه لا يمكن التخلص من مسلمي الأندلس إلا من خلال القضاء على التراث الثقافي الإسلامي. لذلك بدأوا عمليات ممنهجة خلال حروب الاسترداد التي استمرت طيلة 8 قرون، وقد نجح مخططهم في النهاية. إذ أسقطوا المدن الإسلامية، وكان أخرها مدينة غرناطة. لكنهم لم يكتفوا بإسقاط المدن الإسلامية، بل هجروا السكان المسلمين إلى الدول أخرى مثل المغرب، وتونس، ومصر، وبعض من بلدان أوروبا، أما من رفض المغادرة وقرر البقاء داخل المدن الإسبانية فقد لجئوا لتنصيره في النهاية.
وهذا المنهج نفسه هو ما تقوم به إسرائيل حاليًا لأنها بالفعل أسقطت كافة المدن الإسلامية في فلسطين، ثم بعد ذلك قاموا بمحاولات مستميتة لتهويد الفلسطينيين عن طريق منحهم أسماء يهودية وبطاقات هوية عبرية، وهذا بجانب الاعتراف بيهودية فلسطين؛ لذلك فنحن أمام شعب تشرب فكرة التطهير العرقي من إسبانيا وأوروبا.
فقد نجحوا للأسف في استمالة كثير من عرب 48 والمقيمين داخل المناطق المحتلة لإسرائيل، فهؤلاء عرب لكنهم تمتعوا بالحماية التي توفرها إسرائيل لهم وكذلك الامتيازات التي تقدمها لهم الهوية اليهودية. فمعظم هؤلاء تم «تدجينهم»، وهذه كانت ثمار المنهجية التي اتبعتها إسرائيل. ومع الوقت جرى دمجهم داخل المجتمع اليهودي وإلحاقهم بقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي وغيرها من أمور في محاولة لتهويدهم في المستقبل بشكل كامل.
كنت شاهدا طوال سنوات حياتك على محاولات إسرائيل لتهويد التراث الفلسطيني.. في رأيك لماذا تصر إسرائيل على فكرها؟
إسرائيل بدأت عمليات السطو على التراث الثقافي الفلسطيني منذ زمن. فقد بدأوا عمليات تسجيل الزى البدوي العربي والفلسطيني ووضعه على قوائم التراث في اليونسكو. واليونسكو للأسف ينحاز إليهم. فقد أعطاهم هذا الحق إذ سمح لهم بتسجيل ما يقرب من 85 أكلة شعبية فلسطينية وعربية باعتبارها أكلات إسرائيلية. كما تم استبدال أسامي الشوارع العربية وحلّ مكانها أسماء شوارع عبرية.
لكن ما أريد أن أشير إليه أيضًا هو أن اليهود عاشوا طوال تاريخهم في سلام مع العرب والمسلمين. ولم تحدث أي حروب أهلية بيننا وبينهم طوال فترات التاريخ. إذ كانوا دومًا أصدقائنا وأصدقاء لوالدي الراحل محمد الكحلاوي.
أتذكر أن أختي عبلة الكحلاوي اشترت ذهب زواجها من صائغ العائلة وكان شخصًا يهوديًا يدعى ثابت. فنحن تاريخيًا لم نعاديهم، لا في مصر ولا في أي بلد عربي آخر. فحتى الآن اليهود متواجدين في اليمن وتحديدًا داخل تعز المكتظة بيهود اليمن، وهم يعيشون أيضًا حتى الآن في المغرب. وخصوصًا منطقة الملاحة وهو لفظ يطلق على أحياء يهود هناك وهم منتشرون في فاس، ومكناس، والصويرة.
لكن المشكلة أن يهود فلسطين أرادوا في البداية تغيير الوضع من خلال تهويد فلسطين ومقدساتها الإسلامية. فقد عمدوا في بدايات تواجدهم بشكل مخطط لتهويد «حائط البراق». ونسبوه لأنفسهم باعتباره أثرًا يهوديًا وأطلقوا عليه اسم «حائط المبكى». وقد شكلت لجنة دولية وانتهى الأمر بأن حائط البراق هو حائطًا إسلاميًا وليس يهوديًا. فهذه الواقعة حدثت خلال العصر العثماني، وعندما فشلوا في نسب الحائط لأنفسهم. قرروا الذهاب للسلطان عبدالحميد وطالبوه بإعطائهم جزء من الجهة المقابلة للحائط لكنه رفض الفكرة بشكل قاطع، ورفض أيضًا إعطائهم حق الزيارة.
فإسرائيل دائمًا ما كانت تبحث عن مرجعيتها الدينية، لأنها تعلم أن مرجعية المسيحيين الفاتيكان، ومرجعية المسلمين المسجد الأقصى والحرمين الشريفين. لذلك أرادوا خلق مرجعية خاصة بهم تتمثل في استعادة الهيكل المفقود. وللأسف فقد فسروا التوراة دون دراستها بشكل كامل. فزعموا أن المسجد الأقصى تم بناؤه على أنقاض الهيكل، وبدأوا الترويج لفكرتهم، من خلال جمع يهود العالم داخل فلسطين. بزعم أن الأقصى قد تم بناؤه على أنقاض الأقصى، وبدأوا طوال هذه السنوات عملياتهم المستميتة لتهويد أي شيء أمامهم بحثًا عن أنقاض هيكلهم.
عندما بنت إسرائيل الجدار العازل داخل حدود الضفة الغربية اعترضت كثيرًا على المسألة.. واعتبرت الأمر محاولة واضحة لتهويد المواقع التراثية الفلسطينية بشكل كامل.. لماذا تبنيت هذا الرأي؟
لأن إسرائيل عندما قررت تنفيذ المقترح تم التعامل معه من جانب السياسيين العرب باعتباره سورًا هدفه الفصل العنصري. لكن المتخصصين في الآثار كانت لهم رؤية أشمل فإسرائيل بهذا السور سمحت لنفسها بتسجيل حوالي 10 آلاف موقع أثري ووضعتهم على قائمة التراث اليهودي. وفي مقابل أعطى هذا السور حوالي 300 موقع أثري فقط لأصحاب الأرض الأصليين. فعمليات التهويد التي تجري داخل فلسطين تتم بمنهجية وبتخطيط كامل، وقد نجحت للأسف لحد كبير.
منذ سنوات دافعت عن المسجد الأقصى وطالبت برفض مقترح إسرائيلي لتقسيم معالم المسجد الأقصى.. حدثنا عن هذا المقترح؟
أنا معين كخبير في الإيسيسكو وعضو لجنة القدس. وعندما اجتمعنا وجدت تعريفًا مطبوعًا للمسجد الأقصى وجاءوا باللجنة لكي نوقع على هذا المطبوع فرفضت التوقيع وقلت لهم هذا التعريف خاطيء. فقد قسموا المسجد الأقصى من معلم واحد إلى مجموعة من المعالم. وطالما قسموه إلى مجموعة من المعالم فستصبح الفراغات الموجودة أرض فضاء ستستغلها إسرائيل لتسجيلها على قائمة التراث اليهودي كمزارات.
وقلت لهم إن المسجد الأقصى هو كامل البناء «مع محيطه». وعندها صدر قرارًا من اليونسكو يقول: «إن المسجد الأقصى ومحيطه أثرًا إسلاميًا». وبناء عليه رفضت أمريكا تمويل اليونسكو. وانسحبت إسرائيل من اليونسكو بعد هذه الواقعة، فالتراث اليهودي تم تزويره على حساب التراث العربي.
سأحكي لك موقفًا منذ سنوات لاحظت أن اليهود في فلسطين وتحديدًا في الخليل، يقومون بشراء حجارة المنازل القديمة. أي عندما يريد شخصًا فلسطينيًا تجديد بيته القديم، يأتي إليه بعض الأفراد ويعرضوا عليه شراء الحجارة القديمة مقابل آلاف من الدولارات. وبعد عملية الشراء هذه يحاولون إعادة بناء منازلهم مرة أخرى بهذه الحجارة. ليزعموا بعد ذلك أن بيوتهم موجودة منذ مئات السنين، وعندما يأتي الخبراء لمعاينة المنزل يتبينوا صحة الرواية الإسرائيلية. لأن الحجر الذي أمامهم عمره بالفعل مئات السنين.
لذلك فهم يعطون لأنفسهم أصول وجذور غير حقيقية بالمرة، ويختلقون قصصًا للترويج لأكاذيبهم. فهم دائمًا يحاولون استغلال أي شيء لصالحهم وهذا الأمر لاحظناه وقت توقيع اتفاقية كامب ديفيد. فقد زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إسحاق رابين أمام السادات وكارتر، أن اليهود هم من بنو الأهرامات. ورغم أن هذه القصة غير صحيحة تاريخيًا إلا أنه بعد تصريح رابين، وجرى تأليف أكثر من 70 كتابًا حول العالم للترويج لهذه الرواية، لكن في المقابل لم يصدر أي كتاب عربي واحد للرد على هذه المزاعم!
هل الحل إذن إصدار الكتب للرد على هذه المزاعم؟
بالتأكيد.. فعلى سبيل المثال فقد وقعنا في خطأ فادح عندما اكتفينا بالصمت حول قضية أصل بناة الأهرامات. وكان لابد من الرد عليهم في مختلف الاتجاهات، سواء الثقافية، أو الأثرية، أو الاجتماعية. فنحن يمكن أن نسترد القدس بوثيقة تاريخية كما حدث لنا مع طابا. فعندما احتكمت مصر وإسرائيل للتحكيم الدولي، رفضت بريطانيا من جانبها تسليمنا الخريطة التي تعترف بحدود مصر على هذه المنطقة. لكن تركيا أمدتنا بها أو أثبتنا من خلالها ملكيتنا على أرض طابا. وفقًا لتقسيم الحدود الذي جرى بين بريطانيا والدولة العثمانية.
فإسرائيل تلعب على الجانب التاريخي، لتأصيل كل شيء لصالحها، فهم يدركون تمامًا أهمية التاريخ كمصدر مهم لتأصيل فكرهم. وهذه الرؤية التي يمتلكونها لا نملك مثلها للأسف. لذلك أتمنى من مصر والعرب أن يهتموا بتمويل البحوث التاريخية والأثرية والثقافية حول فلسطين.
اقرأ أيضا:
فلسطين.. قضية تفضح بشاعة النظام الدولي وإفلاسه
الأرشيف الفلسطيني: من يكتب حكايته يرث أرض الكلام
رسالة مفتوحة من المثقفين العرب لمثقفي الغرب: لنتحاور من أجل فلسطين