حوار| د.محمد سامح: وادي الحيتان متحف مفتوح لا مثيل له في العالم
داخل محمية وادي الريان التي تغطي مساحة 1759 كيلو مترا من محافظة الفيوم، يقع وادي الحيتان الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 40 مليون سنة، وهو أحد أهم مواقع التراث الجيولوجية العالمية. إذ يعد الموقع الوحيد في العالم الذي حصل على أعلى درجات التقييم من قبل الاتحاد الدولي لصون الطبيعة IUCN لعام 2020.
هياكل عظمية متحجرة لحيتان وحيوانات بحرية نادرة وصقور أبرز ما يضمه الموقع.. «باب مصر» أجرى حوارا مع الدكتور محمد سامح، مدير عام محميات المنطقة المركزية بقطاع حماية الطبيعة وممثل الحكومة المصرية كنقطة اتصال لمواقع التراث الطبيعي باليونسكو، للتعرف أكثر على المنطقة.
ماذا عن وادي الحيتان وبداية التعرف عليه؟
بدأ التعرف على وادي الحيتان في عام 1901 من خلال علماء إنجليز، فقد عثر العالم الإنجليزي “بيد تل” من خلال المسح الجيولوجي لمصر، على بعض العظام بالمنطقة وأخذها معه، وتم تسجيلها بالخطأ على أنها عظام لديناصور، لكن بعد ذلك أظهرت الاكتشافات أنها عظام لحيتان تعد أقدم حفريات لحيتان حول العالم والتي كانت تمشي على الأرض بأرجلها الصغيرة إلى أن تطورت لما نراه الآن للحيتان، وفيما بعد ظهرت آثار حفريات لكائنات بحرية أخرى، وفي عام 1997 تم ضم وادي الحيتان إلى قطاع المحميات الطبيعة بالفيوم، وأولته وزارة البيئة اهتمامًا خاصًا، وتم تعيين فريق خاص لإدارته وأنا ضمن الفريق، إذ كانت مهمتنا وضع خطة ورؤية خاصة لإدارة وادي الحيتان، حيث لم يكن الوادي كما هو بالشكل الحالي، فقد كان ضمن الصحراء في وادي الريان، وبدأ العمل الفعلي في تطوير المنطقة عام 2000، وظللت أنا واثنين فقط معي في خيمة بالمكان لمدة ثلاث سنوات لدراسة المكان وتحديد أفضل المداخل والمخارج له، وكيفية وضع خطة لإدارته.
وكيف تمكنتم من إدارة الوضع في البداية؟
كانت أهم خطط الإدارة تحويل المكان لمنارة للعلم والترفيه، وكان أولها أن نوفر مكان للجمهور يمكن من خلاله رؤية الحفريات الموجودة بوادي الحيتان، حيث كانت الحفريات غير واضحة وبلا معالم، فقمنا بعمل لوحات إرشادية، وقواعد ثابتة وقوانين تطبق على الجميع مثل عدم دخول السيارات للمحمية سوى سيارات المحمية أو الإسعاف فقط، وقمنا بعمل أول تجربة في العالم وهي أن يتحول المكان لمتحف مفتوح، فأصبح أول متحف مفتوح في العالم، حيث تبلغ مساحته 2 كيلو مترا، وقمنا منذ عام 2006 برفع كفاءة البنية التحتية، وإدخال المرافق وتصميم أماكن للزيارة، وإنشاء كافيتريات ودورات للمياه، وشبكة مدقات طولها 10 كم يمكن للزائرين السير من خلالها، وقمنا بوضع عوازل حول الهياكل العظمية المتحجرة لحمايتها من حركة الزائرين، وغيرها من الأماكن التي توفر بعض الراحة للزائرين، وتم وضع المكان على قائمة السياحة البيئية ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع.
متى اعترفت اليونسكو بوادي الحيتان كمحمية تراث طبيعي عالمي؟
في عام 2004 قمنا بإعداد ملف وقدمناه لليونسكو لوضع المكان كموقع تراث طبيعي، وتمت الموافقة على ضمه في عام 2005، بوضع وادي الحيتان وإدراجه على قائمة المواقع الطبيعية للتراث الطبيعي، وأصبح أفضل المواقع على قائمة اليونسكو، وبالرغم من أننا وصلنا وفق التقييم للقمة، إلا أننا في وادي الحيتان وصلنا لأبعد من ذلك وعملنا بشكل مكثف كي يعرفه المصريين حيث كان في البداية معروفًا لدى الأجانب بصورة أكبر وكانت نسبة الزيارات تتراوح ما بين 80% أجانب و20% مصريين، وكان هدفنا الوصول إلى 50 ألف زائر سنويا للمحافظة على المكان، وقد وصلنا إلى هذا الرقم بالفعل منذ سنوات، وزار المكان زوار من حوالي 140 جنسية.
برغم قلة الإمكانيات كيف وصل وادي الحيتان للقائمة الخضراء في تقييم اليونسكو؟
تم إدراج موقع وادي الحيتان في عام 2018 على القائمة الخضراء (IUCN) للمناطق المحمية، وفي عام 2020 أشاد تقرير اليونسكو الذي منح الموقع أعلى الدرجات، وأصبح الأول عالميًا، وبحسب وصف التقرير عن الموقع “يدار بحب وكفاءة وحرفية ومهارة من قبل موظفين مؤهلين وملتزمين في عملهم ومميزين”، وهو ما أثلج صدورنا، حيث أكد التقرير أن الموقع يستخدم أعلى درجات الحماية والحوكمة الرشيدة، ويستخدم خطة الإدارة الحديثة.
فأنا أعمل في هذا المكان منذ 21 عامًا، واعتقد أنه عندما تحب مكان ما يمنحك أسراره، والمكان ساحر بالفعل ونحن نعشقه ونخاف عليه، ونسعى دائما لإظهاره في أفضل صورة أمام الزائرين، الذين أشاد الكثير منهم أنه أفضل مكان قاموا بزيارته في العالم، وقامت لجنة من اليونسكو بزيارة المكان وقيمته على مدار 3 أيام، وجاء التقييم في ما يقرب من 22 ورقة شاملة كل ما يخص المنطقة، وكيف يتم التعامل مع هذا التراث الطبيعي، وقد لاحظوا أنه بالرغم من الموارد القليلة فقد تم صرفها بطريقة رشيدة.
ماذا عن متحف وادي الحيتان ومن أين جاءت فكرته؟
بعد أن نجحنا في تدشين متحف مفتوح يعد الأول من نوعه في العالم، فكرنا أن يكون هناك متحفًا فريدًا من نوعه أيضًا، نقوم من خلاله بالربط ما بين تغير المناخ والحفريات الموجودة بوادي الحيتان، وبالفعل تأسس المتحف في عام 2015من خلال تعاون مصري إيطالي مشترك، وتم افتتاحه في يناير 2016، وهو المتحف الوحيد في الشرق الأوسط الذي يربط ما بين الحفريات وتغير المناخ، وحصل المتحف على أعلى تقييم عالمي للعرض المتحفي، وقمنا بعرض تجربتنا في باريس واليونسكو كتجربة رائدة وفريدة لمواقع التراث العالمي وكيفية عمل مواقع مماثلة، وقمنا أيضًا بنقل التجربة للعديد من البلدان وبذلك أصبحت مصر مثال لكيفية إدارة أماكن التراث الطبيعي وفق المعايير العالمية وهو المعيار الثامن لليونسكو.
وماذا يضم هذا المتحف؟
يضم المتحف 95 قطعة 90% منها قطع أصلية، ومنها أكبر هيكل كامل لأضخم حوت في العالم وهو حوت الباسيلوسورس إيزيس، ويعرض المتحف أماكن التطور والبيئات المختلفة التي مرت على منطقة الفيوم، مثل البيئات البحرية والنهرية والسافانا والصحراء الموجودة حاليًا، ومن خلال المتحف ووادي الحيتان نوجه رسالة للعالم أجمع أن العالم كوكب واحد، وأن أي تأثير سلبي لأي مكان في العالم سيؤثر على كافة الأماكن، لذا يجب المحافظة على الموارد الطبيعة، واستخدام الطاقة النظيفة، والبعد عن الملوثات التي قد تحدث تغيرات مناخية من شأنها التأثير على الكوكب ككل، ونحن في وادي حيتان نستخدم الطاقة الشمسية لإدارة المكان ككل.
ترى ما الأسباب التي تدفع الزوار إلى هذا المتحف؟
في المتحف سيستمتع الزائر بالسير على أرض يرجع تاريخها لأكثر من 40 مليون سنة، ويستطيع أن يرى كيف غيرت المياه والرياح من شكل التربة، ويشاهد هياكل عظمية متحجرة لحيتان كانت موجودة بأشكالها المختلفة في مكانها الطبيعي حيث استقرت منذ ملايين السنين، إضافة إلى بقايا سلاحف مائية، بقايا أسنان قروش، بقايا عظام للتماسيح، بقايا أسماك مثل سمك المنشار، وبالطبع بقايا أشهر أنواع الحيتان مثل حوت الدورديون اتروكس، وحوت الباسيلوسورس إيزيس.
كيف يتم صيانة هذه الهياكل والحفريات وسط الرمال بشكل مستمر؟
هذا هو الجزء الأصعب في مهمتنا، حيث توجد جميع تلك الهياكل في الهواء وسط العوامل الجوية المختلفة والأتربة والرمال وغيرها، وهو شيئ مكلف للغاية، ويحتاج إلى مجهود وإمكانيات، ولكي نتغلب على هذه المشكلة، فكرنا كفريق عمل في حل مبتكر عبارة عن تنظيم برامج تدريبية للطلبة المهتمين بعلم جديد وهو “علم الحفريات الفقارية” والذي تم استحداثه مؤخرًا في الجامعات المصرية، ويرجع الفضل فيه إلى وادي الحيتان ومتحفها المفتوح، ومن خلال تلك البرامج التدريبية التي بدأت منذ 5 سنوات ندرب الطلاب على كيفية الترميم والصيانة والدراسة الطبيعية، ويحصل الطالب على التدريب الكاف في الأماكن الطبيعة ودراسة الحفريات، ومن ثم يساعدنا في ترميم الهياكل وصيانتها بشكل مستمر، وتكون الاستفادة هنا من الطرفين، ولكي نضمن الاستدامة قمنا بعمل بروتوكول مع جامعة المنصورة في عام 2012، وساهمنا في إنشاء مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، والآن يوجد لدينا جيل من الطلبة قاموا بعمل أبحاث عالمية ورسائل ماجستير ودكتوراه، وبات وادي حيتان أيقونة لهذا العلم.
هل أثر وادي حيتان على المجتمع المحلي من حوله؟
بالطبع أثر وجود وادي حيتان على توفير العديد من فرص العمل للسكان المحليين بمنطقة ومركز يوسف الصديق، فأصبح الآن يوجد سائقي سيارات متخصصين في الوصول لوادي حيتان، وهناك رحلات سفاري، ومطاعم تقدم الأكل المحلي، والآن يوجد أكثر من 30 فندق في قرية تونس فقط، واعتقد أن هذا تطور للمجتمع المحلي.
هل تعرضت حيتان هذه المنطقة للموت الجماعي في صورة انتحار؟
تتوافق نظرية انتحار الحيتان التي تحدث الآن على بعض السواحل مع ما حدث بالوادي، لكن تم دحض هذه النظرية، فقد سجلنا 1032 حفرية توجد في 32 موقع حفري وتوجد جميعها في مساحة 200 كم، وتأخذ جميعها اتجاهات مختلفة فليسوا متلاصقين أو في نفس الاتجاه، لكنها وجدت في وضعيات عشوائية، كما أن هناك بعض الإصابات في هياكل الحيتان الصغيرة دليل على تعرضها لهجوم من حيتان أكبر وهو خير دليل أنهم كانوا يعيشون في بيئة حياة وليس انتحار.
والنظرية الأخرى التي تشير إلى أن المياه جفت عن المنطقة فجأة، ومن ثم ماتت الحيوانات جميعها في المكان مرة واحدة ودفنت في الرمال، فهي أيضًا نظرية غير صحيحة، لأننا لم نجد جميع الهياكل في نفس المكان، لكننا وجدنا حيوانات على ارتفاعات وأماكن مختلفة ومتنوعة، ووجدت بقايا أطعمة في معد بعضها، ما يعني أنها لم تستسلم وكانت في وضع الحياة، ويبقى التفسير المنطقي الوحيد هو تغير المناخ.
وماذا عن خططكم المستقبلية؟
أتمنى أن تتغير نظرة بعض الزائرين للمكان، فنحن نجد صعوبة في توعية البعض، لأن وادي الحيتان يختلف عن الأماكن الأخرى ولا ينطبق عليه ما يتم في الأماكن السياحية الأخرى، ويجب على الزائرين القراءة عن طبيعة المكان قبل الزيارة، حيث لن يجد الزائر طريق أسفلتي كما لا يمكنه ركوب سيارات ليتجول بها في المنطقة، ونندهش من أن بعض الزائرين يطلبون ذلك دون مراعاة أن المنطقة تراث طبيعي، ولا يمكن أن نغير من طبيعته بأشياء حديثة ولنا معايير خاصة، ويرون أن المكان بدائي مع أن هذا هو الطبيعي ويجب المحافظة عليه، كما أتمنى إدراج منطقة جبل قطراني بالفيوم والتي تضم الغابة المتحجرة على قائمة اليونسكو للتراث الطبيعي.
تعليق واحد