حوار| الباحث محمد شحاتة العمدة: الحفاظ على التراث يُعد مهمة قومية

باحث الروح الشعبية وشاعر الحكايات والسيرة

حيث تُسمع الحكايات الشعبية مع نسمات المساء، وتنبت الأساطير بين النخيل والحقول، وسط هذه الأجواء، ولد الدكتور «محمد شحاتة العمدة» في إحدى قرى مركز البداري بمحافظة أسيوط. فأصبح باحثًا في التراث والأنثروبولوجيا، وشاعرًا وحكاءً بارعًا، يروي السير الشعبية كما لو أنها تنبض بالحياة. حاز الدكتور «شحاتة» على جائزة الشارقة للإبداع العربي، وصدر له مؤخرًا كتابه «دلالة الطير في التراث الشعبي». ويسرد لنا فصولا من مسيرته في هذا الحوار.

  • ما الذي جذبك لدراسة الأنثروبولوجيا الثقافية والتراث الشعبي؟

نشأتي في القرية الصغيرة. وفي هذه القرية تمثلت جميع عناصر التراث الشعبي المعروفة. وكنت أشارك في جميع الأنشطة في القرية، ومن أهمها الزراعة، التي تحتوي على الكثير من المعرفة والمعتقدات الشعبية.

وعندما كبرت، التحقت بالجامعة في القاهرة، وبدأت موهبتي في كتابة الشعر تتشكل بشكل كبير، ووجدت نفسي دون أن أعي، متأثرًا بتراث قريتي، والمتمثل في الأغاني الشعبية والعادات والتقاليد. وكان للشاعر الكبير الدكتور حسن طلب دور هام في اهتمامي بالتراث الشعبي. فقد كتب دراسة نقدية لديواني الأول، بعنوان (دفتر توفير الحب)، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2007، وذكر في دراسته لأشعار الديوان أنني متأثر كثيرًا بتراث الصعيد، خصوصا الأغاني الشعبية التي تغنيها النساء ومنها (العديد).

بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، تقدمت للدراسة في المعهد العالي للفنون الشعبية، وبعدها حصلت على دكتوراه الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة القاهرة، ليكون اهتمامي بالتراث الشعبي مدعومًا بالمناهج العلمية في البحث والدراسة والجمع والتوثيق. وما حفزني على دراسة الأنثروبولوجيا أنها تختص بدراسة الإنسان وعاداته وتقاليده ومعتقداته وبيئته، كما أنها تعتمد على الدراسة الميدانية، التي أعتبرها من أصدق وأعمق الدراسات العلمية.

  • هل أثرت نشأتك في أسيوط على اهتماماتك البحثية؟

بلا شك، كان لنشأتي في الصعيد أثر كبير على اهتماماتي البحثية في مجال التراث الشعبي. فالقرية التي نشأت فيها تتبع مركز البداري الذي نشأت فيه أقدم الحضارات المصرية، وهي الحضارة البدارية، وتعد من أوائل الحضارات التي عرفت الزراعة وصناعة الفخار.

وكانت قرى البداري منذ زمن ليس ببعيد لا تزال بكرا بكل مكوناتها البشرية والمادية، فكان أهلها يحافظون على العادات والتقاليد الموروثة. وتنتشر بها الكثير من الحرف الشعبية المتعلقة بالزراعة والصيد وغيرها، مثل حرف أشغال الجريد والليف وسعف النخيل، وحرفة الفخار وصناعة الأواني من المعادن المتنوعة، وحرفة الصيد من نهر النيل، إضافة إلى حرفة الزراعة.

لذلك، كانت قريتي والقرى المجاورة هي وجهتي الأولى في جمع عناصر التراث الشعبي ميدانيا، فجمعت الأغاني الشعبية التي تغنيها النساء مثل أغاني الأعراس وأغاني الوفاة وأغاني الحج، ونشرتها في كتابي (أغاني النساء في صعيد مصر) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013.

ثم جمعت العمارة الشعبية المتمثلة في عمارة المنازل والمقابر وعمارة الماشية والطيور وغيرها، ونشرتها في كتابي (العمارة الشعبية والتغير الثقافي في صعيد مصر)، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2021. كما جمعت المعارف الشعبية المتعلقة بحرفة الزراعة في قريتي والقرى المجاورة، ونشرتها في كتابي (طرح الأرض: دراسة في الأنثروبولوجيا الزراعية)، إضافة إلى عشرات الأبحاث والمقالات عن العديد من عناصر التراث الشعبي في مركز البداري.

  • ما أبرز التحديات التي تواجه الباحثين في التراث الشعبي اليوم؟

التحديات كثيرة ومتنوعة، أهمها: عدم وجود دعم مادي لجمع عناصر التراث الشعبي من أقاليم مصر المتنوعة. إضافة إلى اندثار واختفاء بعض العناصر التراثية، ومنها الأدب الشفهي الذي يموت بموت الحفظة، ويحتاج إلى جهد كبير في البحث والجمع وسرعة كبيرة، لأن معظم الحفظة كبار السن.

كذلك التغير الثقافي والتكنولوجي الذي طال المناطق التقليدية في القرى والنجوع، وساهم بشكل كبير في اختفاء عناصر التراث الشعبي. وعدم وجود مؤسسات حقيقية ترعى البحث العلمي في مجال التراث الشعبي، وتدعم الباحثين في الجمع والتوثيق والدراسة. كما أن دخول غير المتخصصين والهواة إلى مجال التراث الشعبي، يهدد مصداقية البحث والدراسة ويشوه الكثير من الدراسات التي لا تستند إلى الأسلوب العلمي ومناهجه.

  • في كتابك “دلالة الطير في التراث الشعبي”، كيف ترى تعامل التراث المصري مع رمزية الطيور مقارنة بالتراث العربي أو العالمي؟

درست الموضوع من أكثر من زاوية، فعرضت دلالة الطير في الأغاني الشعبية والحكايات والسير الشعبية والأمثال الشعبية، وعرضت المعتقدات المتعلقة بالطير، ومكانة الطير في مصر القديمة، وأشرت إلى مقبرة الطير في منطقة تونا الجبل بمحافظة المنيا، ومدى اهتمام المصري القديم بالطير وتقديسه له.

ورمزية الطير بلا شك تختلف من بلد لآخر، حسب عادات ومعتقدات كل إقليم. فهناك بلدان مثلًا تتشائم من طائر الغراب، في حين تتفاءل به بلدان أخرى. وهناك بلدان تحتفي بطيور معينة، ترتبط عندها بمواسم مثل الزراعة والحصاد والصيد، ووجود دور لتلك الطيور في تلك المواسم يجعل الجماعة الشعبية تذكر تلك الطيور في أمثالها وأغانيها. كما يضرب البعض المثل في شجاعة بعض الطيور أو جبن بعضها، ويتغنى البعض بجمال طائر معين ويشبهونه بالفتاة الجميلة.

كما أن التنوع الجغرافي والبيئي في البلدان المختلفة له دور أيضًا في نظرة ورمزية الطير عند تلك المجتمعات، مما جعلنا نجمع الكثير من العناصر المتعلقة بالطير بشكل متنوع وجميل، يعبر عن توجه كل مجتمع وهويته.

  • ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في توثيق التراث الشعبي؟

إذا تحدثنا عن الشعر العامي، فهو أقرب الأصناف الأدبية تعبيرًا عن التراث إلى جانب القصص والروايات أيضًا. ولكن تركيزي ينصب على الشعر، لأن الأدب الشعبي معظمه أشعار، مثل: السيرة الهلالية، والقصص الشعبي، والمواويل، وأغاني الأعراس، والبكائيات، وأغاني تهنئة الأطفال، وأغاني العمل.

إضافة إلى اللون الشعري الشعبي المنتشر في صعيد مصر، وهو فن الواو والمربعات والنميم. وهناك الكثير من شعراء الصعيد لا يزالون يكتبون هذا اللون الشعري الشعبي حتى الآن. ومن خلال الشعر، يمكن المحافظة على عناصر التراث، ومن أهمها اللهجة ومفردات المكان، وعرض العادات والتقاليد من خلال الأشعار.

  • هل توجد موضوعات تراثية ترى أنها تحتاج لمزيد من البحث والتوثيق؟

تتميز مصر بالتنوع الإقليمي، وكل مجتمع له خصوصيته وهويته الخاصة. هذه الخصوصية تحوي الكثير من عناصر التراث الشعبي التي تحتاج إلى دراسات متعمقة وجمع ميداني. وأعتقد أن الثقافة المادية المتمثلة في العمارة والحرف الشعبية تحتاج إلى جهد أكبر من الباحثين لجمعها وتوثيقها، وذلك لأنها تختفي بشكل كبير هذه الأيام بفعل التغير الثقافي والتكنولوجي، إضافة إلى عناصر التراث الشفاهي.

  •  في رأيك، هل هناك وسائل يمكننا من خلالها المحافظة على التراث الشعبي في ظل العولمة؟

المحافظة على التراث تبدأ بالجمع الميداني له، ثم تصنيفه وتوثيقه ونشره، والاهتمام بحملة الموروث الشعبي من حفظة للتراث وحرفييه وغيرهم. بعد ذلك، يأتي دور المؤسسات في نشر الوعي بأهمية التراث كمعبر عن الهوية المصرية والعربية.

  • هل ترى أن هناك اهتمام من جانب المؤسسات الثقافية بالتراث الشعبي بشكل كاف؟

للأسف، دور المؤسسات يتراجع يومًا بعد يوم، وخاصة فيما يتعلق بالتراث الشعبي. فلا توجد منح بحثية لجمع وتوثيق التراث، ولا توجد مشروعات كبيرة يمكن أن يشارك فيها الباحثون لدعم التراث والحفاظ عليه. فوجود المؤسسات المعنية بالتراث يعد دعمَا كبيرًا للتراث وللباحثين، لأن العمل الجماعي المدعوم من المؤسسات، يؤتي ثماره أسرع من العمل الفردي لباحث أو باحثين اثنين.

  • هل لديك تصور لمشروع قومي يخدم التراث الشعبي بشكل أفضل؟

لا زلت أحلم بمدينة تراثية تتبع كل محافظة من محافظات مصر، خاصة مدن الصعيد والواحات والقناة والنوبة، تكون في الظهير الصحراوي لتلك المحافظات. تكون هذه المدينة متحفا مفتوحا يحوي جميع العناصر الثقافية التي تميز المحافظة.

فمباني المدينة تكون على غرار العمارة الشعبية القديمة، كما فعل حسن فتحي في مدينة القرنة. وتتمثل في المدينة الحرف الشعبية التي تشتهر بها المحافظة، وعاداتها وتقاليدها، ومسرح يعرض فيه فنونها الشعبية، ومكان لتقديم الأطعمة الشعبية التي تشتهر بها. وأعتقد أن هذه المدينة الملحقة بكل محافظة ستكون مدينة جذب سياحي، إضافة إلى أنها ستحافظ على هوية كل محافظة، وعلى تراثها الغني والمتنوع، وستكون دليلا للأجيال القديمة كي لا ينسوا تاريخ بلدهم وهويتهم.

  • بالإضافة إلى كونك شاعرا وباحثا في التراث الشعبي، تعد حكواتيًا بارعًا. متى بدأ شغفك بالسير الشعبية، وكيف كانت بدايتك كحكاء؟

منذ طفولتي، تعلقت برواة السيرة الهلالية الذين كانوا يحضرون إلى قريتي من آن لآخر. وبعد أن كبرت، مارست الحكي للأطفال في معرض الكتاب، ثم عرضت حكايات عن الصعيد وتراثه بمحطات مترو الأنفاق. وبعدها استمر مشروع الحكي على وسائل التواصل الاجتماعي، وقدمت أول رواية شفهية لسيرة الأميرة ذات الهمة، ولا زلت أشارك داخل وخارج مصر كباحث وكحكواتي.

والفضل يعود في هذا الأمر لدعم الوزيرة الدكتورة “نجيمة طاي طاي غزالي”، رئيس الأكاديمية الدولية مغرب الحكايات للتراث الثقافي اللامادي، ورئيس مهرجان مغرب الحكايات، التي دعمت موهبتي في الحكي بشكل كبير. وشاركت أكثر من مرة في المهرجان بالمملكة المغربية. وحتى لا يكون الأمر مجرد هواية. فقد كانت رسالة الدكتوراه خاصتي عن رواة الحكاية الشعبية في المغرب، وخاصة رواة ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش. حيث تواصلت مع الكثير من الرواة هناك وتعلمت منهم واستفدت من خبراتهم، وشاهدتهم وهم يحكون بشكل مباشر.

  • هل ترى أن فن الحكي ما زال يحتفظ بمكانته في الثقافة المعاصرة؟ وكيف تتعامل مع اختلاف الأجيال في تلقي الحكايات؟ وهل تضيف عناصر حديثة لجذب الشباب؟

أعتقد أن الحكي هو أسرع وسيلة للتعلم. فلو أن المدارس والجامعات اعتمدت عليه في عرض المادة العلمية، خصوصا المواد الأدبية، سيؤتي ثماره بشكل كبير. إضافة إلى أنه سيظهر مهارات الطلاب ويشجعهم على الكتابة أيضًا. كما أن التواصل مع الجدات للاستماع للحكايات منهن سيزيد أواصر العلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة. فن الحكي في حد ذاته له قيمة ومكانة كبيرة ودور أكبر. غير أن إهماله من جانب الأفراد والمؤسسات هو الذي أثر على دوره. إضافة إلى تغير شكل العائلة من ممتدة إلى نواة. مما جعل دور الأسرة يتراجع فيما يتعلق بالحكي، فالجدة كانت هي مصدر الحكايات الأول.

أما بخصوص التعامل مع الأجيال المختلفة في عرض الحكايات، فكل جيل له ما يناسبه. فالأطفال مثلًا أحكي لهم من حكايات كليلة ودمنة، والكبار أحكي لهم حكايات وسيرا شعبية تناسب أعمارهم. وألاحظ حضورا كبيرا من الصغار والكبار، لاسيما أثناء العرض الحي والمباشر لحلقات الحكي في المعارض والساحات. فالحكي لم تؤثر عليه العولمة كما نعتقد، فقط ندرة الرواة وعدم وجود مهرجانات للحكي هو السبب في هذا التراجع. وأحاول جذب الشباب من خلال عرض الحكايات في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وعرض الحكايات بشكل مختصر يناسب عصر السرعة، فالشباب الآن يميلون إلى الريلز والمقاطع القصيرة.

  • هل تفكر في مشروع لتوثيق السيرة الشعبية بصوتك؟

بالفعل، أنا أعمل على هذا المشروع منذ سبعة أعوام. وأنجزت منه الكثير، خصوصا فيما يتعلق بمشروع سيرة الأميرة ذات الهمة، التي لم ترو من قبل. وبعد الانتهاء من ذات الهمة، سأتابع تسجيل باقي السير التي ليس لها رواية شفاهية، لتتاح للأجيال القادمة وليكون نوعا من التوثيق الشفاهي لها.

  • شغلت منصب مدير تحرير سلسلة الثقافة الشعبية التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب. هل هناك موضوعات قمتم بنشرها ترى أنها مساهمات استثنائية؟ وكيف ترى دور الصحافة في هذا الشأن؟ 

لا شك أن عشر سنوات من العمل في سلسلة الثقافة الشعبية كانت فرصة طيبة وهامة للمساهمة في نشر دراسات الباحثين في مجال التراث الشعبي. فقد كان اهتمامي منصبًا على نشر الدراسات الميدانية أكثر من الدراسات النظرية. لأن الدراسات الميدانية بها جهد كبير من الباحث وعناصر جديدة تم جمعها، والنشر سيساهم في حفظها وتوثيقها. إضافة إلى أننا كنا نركز على نشر أعمال شباب الباحثين إلى جانب الأعمال المحققة من أساتذة التراث الشعبي. والحمد لله، نشرنا أكثر من سبعين عنوانا في فترة عملي بالسلسلة، وجميعها موضوعات هامة ومتنوعة ومن مختلف أقاليم مصر.

وبخصوص دور الصحافة في نشر التراث الشعبي والحفاظ عليه. أرى أن دورها هام جدًا، لاسيما في هذه المرحلة الهامة من تاريخ العالم العربي، التي نحتاج فيها إلى الحفاظ على هويتنا. وتثبيت دعائمها في مواجهة العولمة وتطرفها التكنولوجي والثقافي، التي تحاول سرقة تراثنا وتاريخنا. فالصحافة بكافة أشكالها، وتحديدا الإلكترونية، تقوم بدور هام في إلقاء الضوء على الندوات والفعاليات المعنية بالتراث، والكتب والدراسات الجديدة. ويبقى عنصر التوعية للشباب الذي يحتاج جهدا كبيرا من الصحافة والإعلام.

  • حدثنا عن مشروعك القادم؟

أعمل حاليًا على عدة كتب بحثية خاصة بسيرة الأميرة ذات الهمة. ومقارنتها بالتاريخ الرسمي للدولتين الأموية والعباسية. وكذلك مقارنتها بالسيرة التركية (سي بطال غازي). إضافة إلى بعض الكتب التي ستصدر عن مؤسسات ثقافية كبيرة داخل وخارج مصر قريبًا بإذن الله.

اقرأ أيضًا: 

بين التحدي والإبداع.. رحلة «sol» أول فريق رقص معاصر في الصعيد

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر