حوار| «أحمد عطا الله»: التراث الغنائي المصري يحمي نفسه بنفسه

في بيئة صعيدية غنية بالتراث الثقافي، نشأ الكاتب والصحفي «أحمد عطا الله»، حيث بدأ رحلته في توثيق الأغاني الشعبية والحفاظ على الذاكرة الغنائية المصرية. ورغم التحديات التي واجهها في جمع هذا التراث، استطاع دمج تجربته الشخصية مع حكايات السيرة الهلالية بأسلوب إبداعي مميز. كما عكس برنامجه التليفزيوني «مصر تغني» شغفه العميق بتوثيق التراث المحلي في أنحاء مصر.. «باب مصر» أجرى معه الحوار التالي للتعرف على التحديات التي واجهته ورؤيته في الحفاظ على التراث.

  •   كيف بدأت علاقتك بالتراث؟ وما الذي جذبك تحديدا إلى الأغاني الشعبية؟

أنا ابن بيئة صعيدية احتفظت بالكثير من عاداتها وتقاليدها وتراثها القديم من أزمنة قديمة. ساهم في ذلك تكوينها القبلي، الذي جمع بين الهوارة والعرب والفلاحين والحلب والعبيد. ومثلي مثل باقي أقراني، كانت الأغاني الشعبية جزءا أصيلا من تكويننا الثقافي.

  • ماهي أهم وأبرز التحديات التي واجهتك أثناء التنقل بين المحافظات لتوثيق التراث الغنائي؟

لا توجد تحديات بالمعنى الذي يشكل صعوبة. فأينما وليت وجهك، التراث موجود. يحتاج الأمر فقط إلى بحث علمي مخلص. ربما تكون هناك تحديات إنتاجية، تتعلق بأماكن إقامة فريق العمل أحيانا، والذهاب إلى أماكن لم تعتد كاميرات التلفزيون الذهاب إليها. وأحيانا يكون في السفر. أما الناس، فيحتاجون إلى الصدق في الحوار، وفهم عاداتهم وتقاليدهم واحترامها أثناء التعامل معهم.

  • كيف ترى دور الأدب في توثيق التراث الشفهي مثل السيرة الهلالية؟ وهل يفيدها مثلا تحويلها إلى رواية كي يتعرف عليها الجيل الجديد؟

أهمية السيرة الهلالية أنها تحمل على عاتقها هموم الإنسان العربي الذي يبحث عن حياة أفضل من خلال رحلة هجرة كبيرة طويلة. رحلة درامية فيها الحب والكره، الحياة والموت، الحق والباطل، التمسك بالأرض والبعد عنها. كما أنها تحمل في باطنها القيم العربية الأصيلة، كالمروءة ونصرة المظلوم، والكرم وحسن الضيافة. كما تحمل عيوبها أيضا، كالقبلية العمياء التي تقلل من مكانة الآخر، أو الفخر الذي يصل للتميز والغرور، والإيمان بالخرافات التي تنتشر بين أفراد مجتمعاتها، خاصة في عصور الاضمحلال. كل ذلك يلقي بظلاله على الواقع الحديث، ويعطي تفسيرا لحاضره ويتنبأ بمستقبله في إطار من المتعة والتشويق والدراما.

  • دمجت سيرتك الذاتية مع السيرة الهلالية في إحدى مشاريعك، لماذا؟ وكيف وازنت بين السيرة الهلالية الأصلية وإضفاء بصمتك الإبداعية؟

لم يكن دمج السيرتين مخططا له في البداية، إذ كنت قد انتهيت من كتابة السيرة الهلالية عن رواية الشاعر علي جرمون، وسلمتها بالفعل لدار النشر. تحمست الدار لها وراجعنا النسخة النهائية، وكانت في طريقها إلى المطبعة، غير أن هناك ما جعلني أطلب تأجيل النشر حين صادفت صديقا وسألني ساخرا: “ما الجديد الذي تقدمه في السيرة؟”، ولم تكن إجابتي له بأنني عملت على رواية غير مشهورة للسيرة، وكثير من أحداثها تختلف عما قدم من قبل، مختلف عن ما قدمه الأبنودي مثلا.

رأيت في وجهه عدم الاقتناع، وأثار رده: “وإيه يعني؟” نوعا من التحدي الداخلي. عدت إلى منزلي وأعدت العمل من جديد. كانت المسألة أقرب إلى اللعب والتحدي معا، وفي اللعب مع الكتابة متعة خاصة، أخذتني إلى 6 شهور أخرى، وكان الناتج ما خرج للناس في “غرًب مال”.

  • ما هي الأحداث أو الشخصيات الجديدة التي لم تكن موجودة في السيرة الهلالية الأصلية؟

كثير من الأحداث التي عملت عليها في السيرة الهلالية لم تكن موجودة فيما حكاه الشاعر علي جرمون. وضعت تاريخا للشخصيات، نفسيا واجتماعيا، واختلقت العديد من الأحداث لخدمة ذلك. أكثر ما أعجبني في السيرة التي رواها علي جرمون هو عدم التزامه بالسيرة الأم المعروفة. أضاف أبطالا جددا، ووضع خطوطا درامية لم تكن موجودة.

لم يكن أمينا وهو ينقل السيرة، أعطى لنفسه هذا الحق في التغيير، وأعطيت لنفسي الحق ذاته. “جرمون” كان كاذبا وأنا مثله، وهذا جوهر مهم في الإبداع. أهتم به الشاعر والروائي الإنجليزي أوسكار وايلد في تسعينات القرن التاسع عشر، بعد أن حز في نفسه ما أسماه “انحطاط الكذب في الفنون”، فقاد دعوة لإحياء “فن الكذب الذي أضاعه أهله”. وقال إتيان راي، الكاتب والناقد المسرحي الفرنسي، “الكذب خلق”، ومن العرب قال الشاعر “بشار بن برد”: “من كان يخلق ما يقول.. فحيلتي فيه قليلة”.

وعظمة السيرة الهلالية أنها تفتح باب الخيال، لكن كل مبدع يقرر الاقتراب منها. وكل مبدع وخياله، ولهذا السبب يتعدد الرواة والحكاؤون والشعراء، وتختلف الرواية من وجه بحري إلى وجه قبلي، وتختلف في مصر عن العراق، وفي العراق عن تونس، وفي تونس عن إريتريا في إفريقيا.

  • كيف بدأت فكرة برنامج «مصر تُغني» وما الذي ألهمك للعمل على هذا المشروع؟

“مصر تُغني” مشروع قديم. جاءت فكرته من سماعي للأغاني المحلية سواء في الصعيد الذي نشأت فيه، أو في الأماكن الأخرى التي عملت فيها لسنوات مثل شمال سيناء، أو من خلال احتكاكي لطبقة العمال والصنايعية، وانتمائي لهم في كثير من سنوات حياتي. كتبت المشروع في 2013، وظللت أجمع معلومات عن الفنانين المحليين لسنوات، ووضعت فورمات للبرنامج حاولت عرضها على جهات إنتاجية مختلفة، حتى أذن الله له بالخروج إلى النور.

  • ما الرسالة التي تود إيصالها لجمهور «مصر تُغني»؟

أريد أن أقول إننا نعيش في بلد غني، يستمد عظمته من تنوع ثقافته، وقدرة هذا التنوع على الانسجام دون تناحر. وأن الحضارة المصرية ليست فقط مجرد نقوش على معابد قديمة، لكنها متوارثة ومتناقلة داخل الشخصية المصرية، سواء كانت هذه الشخصية تعي ذلك أم لا. وكثير من معاني الأغاني والحكم الشعبية هي ذاتها منحوتة على جدران المعابد.

وبرغم كم الهجرات التي جاءت مصر واختلاف الأعراق والأجناس التي دخلتها، إلا أنها كانت لديها قدرة سحرية على صهر الجميع في بوتقة واحدة. وأعتقد أن ذلك يعود إلى رحم المرأة المصرية. فالمصريون لم يمانعوا من مصاهرة القادمين إليها ما داموا غير معتدين، وهو ما ساهم في الحفاظ على الجين المصري.

  • كيف ترى دور الإعلام في حفظ التراث الشعبي المصري ونشره، وخاصة الشفهي منه؟

بالتأكيد له دور كبير ومهم، وأتمنى أن يكون الدور أكبر، وأن يقوم به بوعي وفهم أعمق. وفي اعتقادي أن التحمس لإنتاج “مصر تُغني” كان بادرة طيبة من الشركة المتحدة للعب هذا الدور، خاصة وأن هناك دولا وشعوبا من حولنا تبحث عن تاريخ وتراث كي تتفاخر به وتجد معاناة في ذلك، بينما في مصر أينما ذهبت في أي شارع أو حارة أو قرية، ستجد التراث على السطح. لا يحتاج سوى إلى عين محبة تلتقطه وتعيد تقديمه للناس.

  • التراث الغنائي هو أحد عناصر الهوية الثقافية المصرية. كيف يمكن حمايته من الاندثار، خاصة في ظل العولمة والحداثة؟

التراث الغنائي المصري، يحمي نفسه بنفسه، فحراسه الحقيقيون هم الناس، جمهوره. كما أنه لديه قدرة سحرية على التجديد ليناسب العصر الحديث، فهو ينفض عن كاهله الأتربة التي لم تعد صالحة للزمن، ويحتفظ بما لديه من القدرة على اختراق الزمن. وفي هذا رسالة كبيرة، تقول إن الإبداع الحقيقي يمكث في الأرض ويستمر، وما دونه كالزبد يذهب جفاءً ويتبخر.

  • «الناس دول» و«فلان الفلاني» تجربتان لحكايات حقيقية وأشخاص حقيقيين. ما الذي دفعك لكتابة تلك القصص وكيف اخترتها؟ وكيف هو الشعور عند كتابة قصص مستوحاة من الواقع؟

أكتب عن الشخصيات التي أجد فيها ما يلامس روحي، أو يمس قلبي أو يشغل عقلي بالتفكير. الناس هم وقود الحياة، وصناع أحداثها وواقعها. كل الناس يتشابهون إنسانيا. لا فرق في ذلك بين رجل يعيش في بولاق الدكرور، وامرأة تعيش في نيويورك، وشاب من اليابان. جميعنا يحلم بالسعادة والصحة، يبحث عن الاستقرار ويسعى للنجاح، يخشى المجهول، تقلقنا نفس الأشياء تقريبا. ما يختلف فقط هو القصة التي يرتديها كل واحد منا، الحكاية التي يعيش فيها، والتي ترسم تفاصيل حياته وتمنحه هوية تميزه عن غيره. شغفي بمعرفة تلك القصص، وإيجاد ما يلامس شيئا منها داخلي، هو ما يدفعني للكتابة عن أصحابها.

  • حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2019 عن رواية «غرب مال». ما هو المعنى الرمزي الذي أردت التعبير عنه من خلال هذا العنوان؟

التغريب والغربة التي تغير الإنسان، وتجعله يميل عن الطريق الذي كان يظن أنه صحيح. لا يوجد طريق واحد صحيح. “فيه ناس كتير شايفة الحياة في طريق/ لو عرفوا أن الطرق.. ملايين/ ما حسوا لحظة أن الحياة بتضيق”.

  • صحافة التراث هو نوع متخصص من الصحافة يحتاج إلى مهارات خاصة. هل أثر كونك صحفيا على كتاباتك الإبداعية، أم العكس؟

الصحافة بالنسبة لي هي الشباك الذي يفتح على العالم، لكي يجعل الناس ترى، ليس فقط الأحداث التي تدور من حولها، ولكن أيضا أنماط الحياة المختلفة التي يعيشها الناس. هكذا أتخيل الصحافة والإعلام للمتلقي العادي، فما بالك بمن يعمل في هذا المهنة؟ عملي الصحفي والإعلامي جعلني أزور أماكن لم أتخيل يوما الذهاب إليها، وأقابل شخصيات لم أتخيل مقابلتها. كنت محظوظا في السفر إلى كردستان العراق، وتونس، والمغرب، والأردن، والإمارات، والسعودية. أما مصر، فمن حلايب إلى بور فؤاد، ومن رفح إلى السلوم وسيوة، لا توجد محافظة لم أزورها وأبيت فيها وأكل من أكلها. كل هذا يشكل المخزون الذي يغرف منه الكاتب.

  • بدأت رحلتك الأدبية بكتابة شعر العامية، مثل «دم العروسة»، «4 بوسات على الرصيف»، ثم كتبت النثر والقصة، ثم كمقدم برامج. فأيهما «أقرب إليك»؟

أنا أحب الكتابة، شعرا أو نثرا، قصة أو رواية أو مسلسلا. لا أتوقف كثيرا عند الشكل، وأتعامل مع الكتابة كهاوٍ. أجرب، وأحب أن أكون كاتبا وصحفيا، ولا أعتقد أنني “مقدم برامج”. “مصر تغني” جملة استثنائية جاءت بالصدفة، لم أخطط لها، ولا أخطط لاستمرار ظهوري على الشاشة. وإن كنت أحلم وأخطط لاستكمال توثيق التراث المحلي الذي لم أتمكن من توثيقه في الموسم الأول من البرنامج، رغبة في التوثيق، وليس حبا في الشاشة.

  • هل أثر اهتمامك بالتراث على كتاباتك الأدبية؟ وهل هناك مشروع أدبي جديد تعمل عليه يركز على التراث أو يوثق جزءا منه؟

أعتقد أن التراث موجود فيما أكتب، سواء قصدت وخططت لذلك، أو لم أقصد. فأنا مثل كل أبناء الأماكن المحلية، أبناء القرى والأقاليم، ممن يحملون التراث داخلهم لا شعوريا. في النهاية، بيئة الكاتب وحياته وتجاربه هي البئر الذي يغرف منه ليعيد تقديمه للقراء.

لدي بالفعل عمل جديد، ودون أن أخطط لذلك في البداية، شكل معي جانبا من التراث الغنائي لمنطقة مصرية معينة. جزء درامي فيه، وحين انتبهت له، غذيته وأحاول الحفاظ عليه.

اقرأ أيضا: 

التشكيلية إيمان حكيم: «أهلي كانوا شايفين الرسم تضييع وقت!»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر