حلمي التوني.. حارس الفولكلور ورائد فن البوب

رحل الفنان الكبير حلمي التوني (1934-2024) عن عمر يناهز تسعين عاما، وما أكثر من أشار إليه بوصفه أسطى أو آخر الأسطوات، لا سيما في فن الإخراج الطباعي وصناعة أغلفة الكتب، مثلما فعل الفنان الكبير أحمد اللباد على صفحته الشخصية بمنصة فيس بوك. وأشار العديد من الناعين إلى ارتباط التوني بمبدأ التعبير البصري عن “المصرية الخالصة” أو الأصيلة. لخص الكاتب والمؤرخ حسن حافظ على حسابه في فيس بوك ذلك التصور عن بصمة حلمي التوني الفنية، إذ وصف ما يراه ملمحا بارزا من ملامح فن الراحل الكبير بتلك العبارة: “أعماله تحكي قصة عشق كبيرة لروح مصر”. ربما كانت “روح مصر” هي ما يستخلصه المشاهد من تواتر مفردات بصرية لونية وتشكيلية ورمزية في لوحات التوني، ويمكن فهمها بوصفها تجسيداً خاصاً لـ”لمصرية”.

المصرية البصرية

أتصور ذلك الاتفاق على مصرية أعمال التوني الشديدة نابعا من زياراته المتكررة بصريا إلى مفردات قادمة من ذاكرة الفولكلور الشعبي المصري الضارب في أعماق التاريخ. أو المعتمد كفولكلور حديث منذ مطلع القرن العشرين. لا يمكن أن يغيب عن المتأمل أن حضور المرأة في لوحات التوني هو إعادة صياغة لتصوير الحسناء في التراث المصري. سواء في التراث اللفظي الشعري أو البصري الملموس. وكأنه يعيد رسم عروس المولد -ذات الجذور القبطية والفاطمية معا- أو السفيرة عزيزة التي صارت وجهاً لتحرر المرأة بالسفور. قبل أن تتحول إلى جزء من الفولكلور السينمائي بفضل الفيلم الذي قامت سعاد حسني ببطولته. وربما كان هذا السبب في شعوري بأن كثيرا من نساء حلمي التوني يستدعين صورة النجمة سعاد حسني.

ولا يخفى على متابع فن التوني أن عيون حسناواته تكتحل برسم يشبه مكياج المصريات القديمات ويمثل تجريدا لتصوير الإله الصقر حورس. حارس العين وفقا للأساطير المصرية القديمة. كذلك، فحين يمر طيف رجل في لوحاته. تبدو شواربه استدعاء لصور الفارس في الملاحم الشعرية. وفي الموتيفات الشعبية المرسومة بعرائس خيال الظل، أو تلك التي تستخدم لتزيين الجدران أو العربات، أو المطبوعات في عصور المطبعة الأولى.

وربما عادت الذاكرة في الربط بين رجال لوحات التوني الأشداء إلى التجليات البصرية للحصان السكري في حلوى المولد، والذي هو تجريد واختزال لفكرة الفارس. ولا أستبعد أن تعود بعض الأصول البصرية لذلك الحصان/الفارس إلى تصور حورس على جواد يقتل إلها شريراً يتخذ هيئة تمساح. أو إلى التصور القبطي عن مار جرجس وهو يقتل التنين. كلما نظر ناظر إلى لوحات حلمي التوني استدعى إدراكه تلك الذاكرة البصرية التي تضم مفردات عمر بعضها عدة قرون. وأتصور ذلك السفر البصري عبر الذاكرة هو ما يجعل الكثيرين يرون في أعمال التوني تعبيرا عن روح مصرية معينة.

رائد البوب المصري

بطريقتها ومفرداتها، لخصت الفنانة دعاء العدل خلاصة من خلاصات فن التوني البصرية. إذ نعت الفنان الكبير الراحل في لوحة رسمتها مستعيدة موتيفات شهيرة في أعمال التوني. تبرز في لوحة دعاء العدل فتاة في فستان أحمر زاهٍ، وهي نسخة من لوحة شهيرة للتوني، لكن مرسومة بوجه يميل بنظرته إلى قلب اللوحة. من زاوية ثلاثة أرباع الوجه كما يقول الفنانون بالفرنسية (تروا كار)، لا بوجه يواجه المتفرج تماما، بجماليات التسطيح الشرقية التي تبتعد عن الإيحاء بالبعد الثالث المجسم. وهي الجماليات التي ألمسها في لوحة التوني الأصلية التي تصور الفتاة نفسها. تلك الفتاة الشهيرة عيونها فرعونية مكحولة برسم حورس وتحمل سمكة على رأسها.

وتصورها دعاء العدل وهي ترسم في منتصف اللوحة بورتريه للفنان الراحل حلمي التوني. بينما على يسار اللوحة هدهدان يحلقان قرب البورتريه وكأنما يحرسانه ويحييانه. الفتاة/السفيرة عزيزة، مرتدية الأحمر، واضعة كحلا كثيفا يحدد عينيين واسعتين، والسمكة التي تكلل رأسها، والهدهد. كل هذه مفردات فولكلورية مصرية قديمة: العين الفرعونية والسمكة القبطية والهدهد المسلم. كلها مفردات استعادها التوني وصبغها بصبغة الفن التلقائي وفن البوب أو البوب آرت.

أعمال التوني

تقديري أن البهجة التي تشع من أعمال التوني والجماهيرية العريضة التي تتمتع بها لوحاته وأغلفة كتبه وكتب التلوين التي صممها. وأعماله الكاريكاتيرية لا ترتبط فقط باستخدامه لموتيفات فولكلورية تغطي طبقات عديدة من تاريخ المصريين البصري. بل أيضا لأنه يعيد صياغة تلك الموتيفات بخطوط مبسطة صريحة وقوية وبألوان حارة زاهية وبراقة. مثل الأحمر وزاهية مريحة مثل الأخضر. وكثيراً ما يرتبط الأحمر عنده بالأنوثة الفاتنة أو الصارخة. بينما يرتبط الأخضر عنده بالراحة والخير والأمومة، أي -في الحالين- بتصوير النساء. قد يبدو صادما أن يوصف فن التوني شديد المصرية بأنه فن بوب يقترب من المبدأ البصري لعالم فنانين أمريكيين مثل آندي وارهول. لكن برأيي أن هذا ما يجعل فن التوني حاضرا ومعاصرا. لأنه فن يقف على قدمين، واحدة تستند إلى التراث، والثانية تقف على أرض حداثة معاصرة ومعولمة،.لكن بطابع مصري خاص.

لا يأنف حلمي التوني من مزج الكلمات بلوحاته، ولعل المثال الشهير على ذلك هو سلسلة أعماله. التي تمثل تجسيدا بصريا لعبارات وأغان صارت جزءًا من الذاكرة الجمعية المصرية. سواء لأنها تنتمي إلى الفولكلور أو أنها قد استوعبت في المفردات الشعبية. أو أنها تمتعت بجماهيرية كبيرة ترشح تلك الأغنيات والعبارات لأن تكون يوماً جزءًا من الفولكلور المصري.

فلسطين حاضرة

على سبيل المثال، للتوني لوحة تصور امرأة ترقص وقد حملت على رأسها صينية عليها شموع وتضرب بيدها دفا وهي في موقف فرح واحتفال بعرس. تكلل جسدها من أعلى جمل من أغنية أفراح شعبية شهيرة: “لابسة الما شا الله يا ما شا الله عليها/ ست العرايس والشموع حواليها”. وفي المقابل، وبسبب حضور فلسطين الطاغي في حياتنا منذ أكتوبر 2023، تضاعفت شعبية لوحة للتوني. كثر تداولها على الإنترنت مؤخرا، تتصدرها امرأة بثوب فلسطيني يغلب عليه اللون الأزرق. تحتضن ما يبدو نموذجا مصغرا للقدس وبجوار ساقها سطر من أغنية فيروز الشهيرة عن المدينة الحلم: “عيوننا إليك ترحل كل يوم”.

هذا المزج بين الكلمات والرسم سمة من سمات فن البوب، واستخدام الألوان البراقة في غير سياقها التاريخي المعهود، مثل اللون الباذنجاني/ البنفسجي لثوب الراقصة في لوحة “الما شا الله”. أو اللون الأزرق لثوب السيدة الفلسطينية في لوحة القدس يستدعي جماليات البوب آرت.

لكن تمتزج تلك الجماليات بروح مثقفة لا تستعرض عمق إحالاتها التاريخية وبالتزام له بعد سياسي غير زاعق. وهو ما يميز فن البوب عند التوني عنه في سوق الفن. فاستدعاء صورة سيدة ترقص بالشموع بينما تغطي قسما من شعرها يخلط الحدود بين تصور الجسد الأنثوي كما حاول اليمين المتطرف فرض بصريا على المجال العام. وبين الواقع الذي يمكن فيه بالفعل للمرأة أن ترقص ببهجة وأن تغطي شعرها معا. واستدعاء النموذج المصغر للقدس أو لبيت المقدس يحيل إلى لوحة فارسية شهيرة من العصور الوسطى تصور مشهدا شبيها يجسد قصة الإسراء والمعراج. ولعل المنمنة الفارسية هي التي أوحت للتوني باستخدام اللون الأزرق كلون غالب. لكن الفنان لا يتباهى بتلك الإحالة التاريخية المعقدة. ولا يلمحها إلا المتبحرون في التراث البصري المسلم.

***

أستمتع دائما وأبتهج بمشاهدة لوحات الفنان حلمي التوني، لأنها مبهجة بصريا من حيث تشكيل الكتل وتوزيعها ومن حيث اختيار الألوان. وأشعر بها جزءًا جميلا يثير الفخر بتراث بصري عالمي. لا ألتفت كثيرا لتجسيد تلك اللوحات لتصور ما عن “المصرية”، أو لتحقيقها لرؤية معينة تصوغ مجموعة من المفردات البصرية. نفسرها بأنها تمثيل لهوية معينة. لأن أعمال التوني تحلق في فضاءات إنسانية أرحب من المجال القطري الوطني. دون أن تنفصل عن ذلك المجال، بل هي تخاطب أبصار البشرية جمعاء بفضل انطلاقها من منطلق فولكلوري محبب، دون أن تحبسها مصريتها في قفص.

اقرأ أيضا:

فؤاد المهندس.. مائة عام من الضحك في خدمة التحرر

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر